مخلصون لقدر التيه الذي كان قدر أجدادهم القادمين من الآفاق البعيدة. سواء أتاوا عازفي هجهوج متجولين يبثون القرى أغانيهم الدافئة التي تتمازج مع ألوان ملابسهم و سحناتهم السمراء، أو أتوا عبيدا هجروا قسرا حملوا معهم كل معاناة الإنسان الأسود ضد قيود العبودية، يظل هؤلاء الأحفاد الكناوة، مخلصين لإيقاعاتهم الداخلية التي يرددها "الكانكا" (الطبل الكبير) و القريقبات و الهجهوج. نجدهم في مدننا عازفين متجولين قد نتجاهلهم و قد نهتم، و ما أن نقف حتى ندخل طقس "الملوك" قد يتماوج الجسد على هده الإيقاعات الدافئة و قد يحافظ على وقفته، و لكن اليقين هو أن تلك الرقصات تأسرنا، و تدفع بنا إلى أن نحط التساؤلات الأولى عن هؤلاء العازفين: من أين أتوا؟ ما طقوسهم؟؟. نسمي كناوة بالمغرب بالموسيقيين المنحدرين من مختلف القبائل الآتية من إفريقيا السوداء ، و قد جلب السلاطين السعديين عبيدا من مختلف السودان نجدهم في حاحا الامازيغية و في مناطق أخرى من المغرب. و لبناء مدينة الصويرة حوالي 1765م جلب السلطان سيدي محمد بن عبد الله حوالي 500 عامل بناء من مراكش، كما جلب جزءا من الحرس السود الذين كانوا موزعين في مختلف المدن و الموانئ بعد وفاة مولاي إسماعيل، ومن المؤكد أن المغرب لم يعرف كناوة إلا مع الدولة السعدية أي مع انطلاق سلسلة الفتوحات المغربية اتجاه السودان و بالضبط في عهد المنصور الذهبي. و قد استمر جلب العبيد من السودان و باقي افريقيا إلى عهد المولى اسماعيل الذي جلب العبيد الذين شكلوا جيش "البواخر"، و قد استقر جزء منهم في مدينة الصويرة نظرا للأهمية الاقتصادية و التجارية للمدينة على امتداد الفرن 18. و إدا تجاوزنا المجال المصطلحي حول تسمية "كناوة" و أصولهم المحتملة سواء قلنا بالأصل الامازيغي للكلمة التي تعني "تاكناويت" أو الكلام الذي لا معنى له أو قلنا بالأصل الغيني للكلمة على شاكلة الإستاد محمد مضمون ، فإن طقوس كناوة تنتمي إلى صنف طقوس "الملوك" ( أي الأرواح التي تمتلك الإنسان) ، فالليلة التي تعتبر أهم طقس كناوي هي في الآن نفسه احتفال موسيقي روحاني و تعبير رمزي عن ذاكرة مرتبطة بالقيود و بالعبودية و بمعاناة التهجير القسري والتيه. تنطلق الليلة الكناوية ، التي تبدأ بعد طقس الذبيحة و هي عبارة عن عجل يطاف به قبل ذبحه في شوارع المدينة، من العصر حتى أول الصباح، عبر مقامات تصاعدية من "العادة" إلى مقام "الكويو" ذكر السلف و الشرفاء إلى مقام "الملوك" حيث الجذبة و تداخل الإيقاعات بالكلام الصوفي. مقام العادة ويسمى أيضا القاعدة يشير اسم العادة الى التنقل من مكان مقدس الى مكان الحفل، و في انتقالهم هدا رمز لإحلال الأرواح الخيرة مكان الأرواح الشريرة، و في انتقالهم هذا يلبس الكناويون "دراعيات" مختلفة الألوان، و يضربون على الطبل والقراقب و يرقصون رقصات بهلوانية جماعية أو فردية . و العادة هي بمثابة إخبار جماعي بواسطة الطبول بالقيام ب"الليلة" عبر الخروج إلى الشارع لإعلان دلك. مقام الكويو أو أولاد بامبارا "الكويو" دالة على مرحلة و لا معنى لها و تسمى أيضا " أولاد بامبارا". و تأتي بعد الاستراحة التي تتلو العادة مباشرة، و حفل "الكويو" قد يستمر ساعات و تدور فيه حكاية اغتراب السود، و اللعب فيه موقوف على الكنبري و الضرب باليد، فيبدأ "المعلم" أول مقطع لا يتخلله رقص يسمونه "بالصلاة الأولى على النبي " و مؤداه : ( هي الله يا نبينا يارسول الله.صلاة يا نبينا، كناوة بابا الدايم الله، كناو سيدي الدنيا ما دايما... )، ثم يرددون : (دا ديما يا توكرا هم الباموسا يا سيدي الديم الله...) إلى أن يصلوا الى "البانيا" و هنا يقف أربعة أفراد، إن لم يكونوا ستة، في صف واحد أ أمام "المعلم"، تارة يذهبون في اتجاهه و تارة يتجهون إلى الوراء مشيرين بأيديهم الى الفضاء، و تقترن حركاتهم مباشرة مع النغمة التي يحدثها الكنبري،... و أخيرا مقام"الملوك" فترة أساسية في الليلة الكناوية إذ فيها يظهر الجذابون و الجذابات، فالمملوكون، كما يقول كناوة، يظهرون تحت صفات الأرواح الربانية أو أرواح الأولياء اللائي يمتلكونهم، و ابسط صفة مظهرية هي اللون الذي يلازم كل ملك (بكسر الميم) أو روح. حيث نجد مملوكي الجيلالي يظهرون بالأبيض، و مملوكي ميمونة يظهرون بالأسود، و مملوكي حمودة بالأحمر، و مملوكي سيدي موسى البحري بالأزرق لون البحر و الماء. و بعضهم يظهر بصفات معقدة مثلا بالنسبة لملك "بودربالة" الشحاذ المزدوج لمولاي عبد القادر الجيلالي فهو يلبس لباسا خاصا و مرقعا و هو لباس مجموعته الدينية، و قد نرى أيضا لباسا أزرقا و مزركشا لملوك سيدي موسى، و يمكنهم أيضا أن يحرقوا أجسامهم بالشموع ( أعناقهم و أيديهم و أرجلهم) كما قد يمروا أجسادهم بالسكاكين، هدا كله و لا يحسون بالألم و دلك من خلال رقصات خاصة، و هدا المشهد يعتبر من المشاهد الحساسة والرهيبة في الحفل الكناوي، و قد حير الكثير من الباحثين و عموم المهتمين. الآلات المستعملة في الليلة الكناوية بالنسبة للآلات المستعملة فهي "الكنبري" و يتكون من ثلاثة أوتار التحتية و هي التي تشتغل أثناء العزف و"النتيوة" و"الوسيطة" و هي أصغر هده الاوثار و أرقها، تصنع آلة الكنبري عن طريق الحفر في جذوع أشجار ا "الكركاع" أي الجوز كما تصنع بالمحفور أو من العرعار أو الخشب الاحمر، أما نوع الجلد الموضوع على "الطارة" فهو جلد الإبل و بالضبط رقبة الجمل المعروفة ب"العنكرة"، من الآلات كذلك القرقبات وهي زوج من الحديد على شكل رقم 8 تربطان بخيط يسهل الإمساك بهما، و أخيرا الطبل الذي لا يقل أهمية عن الآلات السابقة في إحياء الليلة الكناوية التي تتم عادة في البيوت لإغراض استشفائية أو احتفالا بمناسبة دينية كشهر شعبان. زاوية سيدنا بلا ل بالصويرة في الصويرة وحدها يتوفر كناوة على "زاوية" خاصة بهم بزنقة الطواحين بالمدينة العتيقة، و هي زاوية سيدنا بلال مؤذن الرسول صلى الله عليه و سلم، و لم يكن بناء هده الزاوية بمبادرة من كناوة بل كانت قطعة أرضية خالية تملكها عائلة قديمة بالصويرة مولوعة بموسيقى كناوة فأهدت القطعة الأرضية لجماعة كناوة ليجعلوها مستقرا لهم، و يستند إطلاق اسم "بلال" على الزاوية إلى عناصر ثلاث تربط بينه و بين هده الجماعة، أولا اللون كعنصر يشترك فيه كناوة مع هدا الصحابي الأسود، ثانيا المعاناة التي تعرض لها بدخوله الإسلام والمعاناة التي تعرض لها السود عبر التاريخ، ثالثا الدين وهو يشكل أساس المناداة على بلال الذي لم يعد مستعبدا و إنما أصبح يتمتع بكامل الحرية و الانعتاق من خلال الإسلام كما كناوة أنفسهم. إنه ماضي الألم و لكنه أيضا ماضي الأشراف، يتم ذكر النبي و سيدنا بلال و الصحابة. العازفون يرقصون و يدكون الأرض بأقدامهم، "المقدمة" تلعق عرقها الحار و لا شئ يوقف هده "الملحمة" غير انتهاء الليلة بآية من الذكر الحكيم و دقة أخيرة على "الكانكا" بعدها ينصرف الجميع عبر دروب المدينة و تغرق زاوية سيدنا بلال في صمتها المعتاد. قد يصعب في هذا المقام فصل الجانب الروحي (المضمون الصوفي) عن الجانب الإيقاعي الجسدي في موسيقى كناوة غير أن المؤكد هو أن كناوة ظاهرة مثيرة بفتنة موسيقاها و سحرية الروحي و الديني الحاضر فيها بقوة، إنها ظاهرة تغرينا بالدخول إلى عالم عطورها و ألوانها و إيقاعاتها...
المراجع: بحث لنيل الإجازة للطالب يوسف بوسان"المسرح بالصويرة، فرقة الجزيرة كنموذج من خلال نصوصها: قربان و الزهواني". "عالم الطقوس و الألوان داخل الليلة الكناوية" للباحث ع.الكريم العسري.