من الحقائق المفزعة, التي لم يستشعرها الناس بعد, أن الفضائيات العربية تكاثرت بالانشطار, كما تتكاثر الخلايا السرطانية الخبيثة, حتى بلغ تعدادها (700) قناة فضائية, تبثها (398) هيئة, منها (372) هيئة تابعة للقطاع الخاص, و(26) هيئة حكومية فقط, تبث برامجها على (17) قمراً اصطناعياً, منها (نور سات), و(نايل سات), و(عرب سات), على ترددات (عرب شتات), و(عرب سبات). ان هذه الأرقام قد ترصد أحد وجوه الحقيقة, لكن الحقيقة المرة قد تأتي حين تجتمع الوجوه كلها لتدق نواقيس الخطر, وتحذر الناس من تسونامي التشرذم, الذي يوشك أن يندلع ويتفجر قريبا من قيعان البحار الفاسدة. كان من المفترض أن تكون هذه القنوات عاملا ايجابياً من عوامل التثقيف والتوعية, ووسيطاً إعلاميا نحو بناء المجتمعات المتحضرة, لكنها للأسف الشديد راحت تزرع ألغام التعتيم في حقول الظلام, وتنثر بذور الجهل في ليل التخلف الدامس, فتحول معظمها إلى منابر لنشر ثقافة الترفيه الرخيص, وتسفيه عقول الناس, أو لترويج السحر والشعوذة, ونشر الغيبيات المنبعثة من مستنقعات الدجل والخرافة, ناهيك عن انضمام الكثير منها إلى الجحافل التي تطوعت, في هذه المرحلة القلقة الحرجة, للقيام بمهام الشحن والتحريض, وإثارة النعرات الطائفية, وإنتاج فقه التفكك والتباعد والتناحر, وظهرت علينا فضائيات (دينية) تخلت نهائيا عن رسالتها الإعلامية, وذهبت بعيداً في تطرفها, فانغمست في البحث عمّا يفرق الناس, لا عمّا يجمعهم ويلم شملهم, ووصل الأمر ببعضها إلى درجة التحريض على القتل على الهوية, وانحرفت أبواق الفتنة باتجاه نشر الكراهية والبغضاء, ووجهت بوصلة النزاع باتجاه أكثر المراحل قتامة في التاريخ الإسلامي, وظهرت علينا فضائيات طائفية من كل لون وصنف ونوع, فضائيات سنية تكفيرية موتورة, وأخرى شيعية مغالية إلى درجة التخريف والإسفاف, وثالثة تتستر بالحياد الفكري لإخفاء تعصبها وتطرفها, فاشتركت جميعها في خلق حالة خطيرة من الاحتقان والتراشق, وتبادل الاتهامات بين طائفتي السنة والشيعة, وإذكاء نيران الأحقاد الدفينة, من دون أن تعير اهتماماً بما حل بالأمة من ويلات ونكبات ومصائب ومحن, أو بما يحاك ضدها من مؤامرات معادية للإسلام والمسلمين, فلا الفضائيات الشيعية المتشنجة خدمت منهج أهل البيت, ولا الفضائيات السنية المتعصبة خدمت السلف الصالح, بينما تتلقى هذه الفضائيات الدعم والإسناد من جهات مشبوهة لتواصل بث سمومها, وتستمد قوتها من الأموال الطائلة التي تتلقاها في الخفاء, فهناك دائما من يدفع لهؤلاء, ويغدق عليهم العطاء, ليسخنوا الأجواء تمهيدا لارتكاب اكبر مجزرة طائفية تستهدف الإسلام نفسه, مثلما استُهدفت الكنيسة في أوربا عقب الاقتتال الكاثوليكي البروتستانتي. ان من يتابع ما تبثه الفضائيات المتطرفة من سموم وأحقاد سيكتشف بنفسه بان هناك قوى خفية تعمل على تأجيج الصراع الطائفي, وتسعى لتشويه صورة الإسلام, وإظهارنا أمام العالم كأمة ممزقة متناحرة مفككة. ختاما نقول: ألا يكفينا ما يجتاحنا من أخطار خارجية لنغذيها بما تضيفه إلينا أبواق الفتنة من عبوات فكرية ناسفة, قد تفجر الأوضاع في حرب طائفية محتملة, لا تبقي ولا تذر, وليس فيها منتصر وإن غلب.