مما لاشك فيه بأن غياب مصر الفاعل والمؤثر عن ساحة العمل العربي المشترك خلال العقود الثلاثة الماضية، أفضى لبروز أدوار إقليمية لدول صديقة مجاورة (وشقيقة بالمعنى التاريخي العميق) كتركيا وإيران، التي باتت كل منها أوسع حضوراً وتأثيراً وفعلاً في ميدان الساحة الإقليمية وحتى الدولية من باقي الدول العربية، وأكثر تقريراً في مسائل محددة ذات صلة بما يجري في الشرق الأوسط خصوصاً منذ انطلاق العملية «التسووية» السياسية منذ العام 1991 . ومن نافل القول ايضاً، بأن حالة التردي في العلاقات المصرية/السورية وعلى مستوياتها الرسمية، والتي سادت طوال السنوات الطويلة الماضية هبوطاً وتعثراً وتقلباً، أدت لانتكاسات كبرى في مسار العمل العربي المشترك، وأعطت نتائجها السلبية على أكثر من قضية وعنوان سياسي في المنطقة وتحديداً بالنسبة للقضية الفلسطينية بكافة جوانبها وعناصرها، إضافة للمسائل العربية المتعلقة بلبنان على سبيل المثال، بالرغم من المحاولات والوساطات التي قامت بها أكثر من جهة عربية وفي مقدمها المملكة العربية السعودية لإعادة وصل ما انقطع بين سوريا ومصر في فترات معينة، فبقيت العلاقات بين دمشقوالقاهرة تمر في مرحلة صعود وهبوط تتخللها حال من «الهدنة» أحيانًا ما تلبث أن تتبخر. عودة السيبة العربية إن انتصار انتفاضة الشعب المصري في نقلتها النوعية الأولى، سيعيد بكل تأكيد تغيير الصورة السلبية في الواقع العربي التي سادت سابقاً بشكل أو بأخر مع عودة مصر إلى دورها الفاعل وبالتدريج، وهو الدور المفتقد منذ حوالي ثلاثة عقود خلت. كما سيعيد تغيير علاقات مصر العربية خصوصاً مع سوريا، التي تشكل مع مصر والمملكة العربية السعودية القوائم الأساسية ل (السيبة) العربية الثلاثية، والتي كانت في سنوات معينة الأساس في بناء سياسات الإجماع الوطني العربي. فالتحول المصري الأخير كان بمثابة انتقال هائل، فتح المجال الآن أمام استعادة الحضور والحيوية لإحياء المسار الثلاثي (السوري/المصري/السعودي) والذي يفترض به أن يتحول إلى شراكة حقيقية في إطار العمل لتوحيد الجهد العربي، بأداء جديد لتعويض الغياب الاستراتيجي لبعض الدول العربية الكبرى التي مازالت غارقة بأزماتها الداخلية كالعراق أو حتى الجزائر، وبعضها الأخر محاصر بمجموعة من الأزمات في اليمن وليبيا وغيرهما.. وللمساعدة في انتشال أوضاع تلك البلدان من أزماتها، وإيقاظ الحالة العربية من سباتها وإنهاء المراحل السوداوية في تاريخ العلاقات العربية/العربية. إن أول المؤشرات عن إمكانية إعادة بناء العلاقات السورية/المصرية، ووضع حد لدابر التباين والانقسام السياسي بين البلدين، لاحت الآن، مع سقوط نظام حسني مبارك، وانطلاق الإشارات الودية، والاتصالات الأولية، بين القيادة السورية وعلى أعلى مستوياتها وبين قادة المجلس العسكري الانتقالي، فقد جرت اتصالات مباشرة بين الرئيس بشار الأسد والمشير محمد حسين طنطاوي الذي أرسل برئيس المخابرات الحربية المصرية اللواء مراد محمد موافي إلى دمشق في زيارة تحمل معاني ايجابية عدة على هذا الصعيد. إن الرسائل والاتصالات المتبادلة بين دمشقوالقاهرة، تشي بالضرورة بأن هناك عقلية جديدة باتت الآن موجودة في أعلى سلم الهرم القيادي في مصر، حتى وهي في المرحلة الانتقالية، فالسلطة الآن للمجلس العسكري، وستشهد العملية السياسية في مصر ثلاث مراحل تبدأ بإعداد تعديلات دستورية وإجراء استفتاء عليها ثم إجراء انتخابات تشريعية وأخيرا الانتخابات الرئاسية، وإلى أن تنتهي فترة الانتقال إلى حكم مدني ديمقراطي، باتجاه بلورة المؤسسة القيادية الجديدة في مصر كتحصيل حاصل لانتفاضة رائعة هزت العالم بأسره، وقد سجلها شعب الكنانة بصورة حضارية أذهلت شعوب العالم كله. وعليه، فالرسائل المتبادلة والاتصالات بين دمشقوالقاهرة، تأتي بعد سريان المفعول المطلوب ب «ذوبان الجليد المتحجر» بينهما وعودة الدفء إلى العلاقات بينهما بعد إسقاط النظام المصري السابق برئاسة حسني مبارك والذي شهد عهده حالة من التردي المتواصل للعلاقات السياسية بين القاهرةودمشق، في ظل اتباع نظام مبارك لسياسته المعروفة والمعلومة بالنسبة لعملية «التسوية» في المنطقة وقضايا الصراع العربي/الصهيوني، في الوقت الذي اشتقت فيه سوريا سياسات وطنية وقومية مغايرة، قائمة على أعمدة ثابتة عنوانها التمسك بالحقوق العربية كاملة ورفض مقايضتها بحلول (جزئية مرحلية) مع الدولة العبرية الصهيونية، أو تمريرها على حساب الشعب العربي الفلسطيني، انطلاقاً من كون القضية الفلسطينية قضية قومية بامتياز، لا تخص الشعب الفلسطيني المظلوم وحده، بل تخص وتمس حاضر ومستقبل الأمة العربية والمنطقة بأسرها، بالرغم من سيادة (القُطري) وتغييب (القومي) في الحالة العربية على امتداد الثلاثين عاماً الماضية. المتعجلون وغياب الرؤية إن المتعجلين الذي يودون حرق المراحل بسرعة، وجني ثمار انتفاضة الشعب المصري، يعتقدون بأن عملية الانقلاب الكامل والتام على سياسات الرئيس السابق حسني مبارك ونظامه في مصر كان يجب لها أن تكون فورية وسريعة، بدءاً من إلغاء اتفاقية كامب ديفيد الأولى وطرد سفير العدو «الإسرائيلي»، وإلا فان لاشيء قد تغير من وجهة نظرهم. إن أولئك المتعجلين، ومع سلامة نواياهم، وشعورهم القومي العالي، وهم وطنيون مخلصون وأشداء بكل الحالات، لكنهم في رؤيتهم بعيدون عن القراءة الموضوعية لمسار الأحداث ولطبيعة الوضع الخاص الذي كبّل مصر وقيّد حركتها خلال السنوات التي توقيع اتفاقية كامب ديفيد الأولى عام 1979 وإلى الآن. فالقيد الموروث في معصم مصر، هو قيد معقّد تم تركيبه وإنزاله خلال سنوات طويلة، وربما يظل القيد إياه ضاغطاً لمدى معين من الزمن، لكنه وبكل الحالات لن يدوم إلى مدى طويل. ومع هذا، فان المجلس العسكري الانتقالي برئاسة المشير محمد حسين طنطاوي أعطى مدلولات هامة على صعيد الانتقال السياسي لمصر من عهد إلى عهد جديد منتظر، فالمجلس العسكري لا يبدو مستعدا لخدمة «إسرائيل» كما كان نظام حسني مبارك، ولنا أكثر من مؤشر قوي على هذا الصعيد وفي هذا الميدان، منها السماح بعبور سفينتين حربيتين إيرانيتين لقناة السويس إلى ميناء طرطوس السوري رغم كثافة الضغوط الأميركية والإسرائيلية لمنع العبور، وذلك بعد أكثر من ثلاثين عاماً من الحظر المصري على عبور السفن الإيرانية التجارية أو الحربية على حد سواء لقناة السويس. في هذا السياق، إن «إسرائيل» ترى من عودة الحياة للعلاقات الطبيعية بكل وديتها وحرارتها بين مصر وسوريا، مسألة مثيرة للقلق، ومثيرة للفزع، خوفاً من حدوث عملية انتقال متدرجة لمصر بالمعنى السياسي والتاريخي، من موقع إلى موقع معاكس تماماً، وهو ما دفع بقادة جيش الاحتلال وقادة الأذرع الأمنية «الإسرائيلية» للحديث عن احتمال عودة الصراع العسكري المباشر على الجبهة الجنوبية، وهو ما يرتب على «إسرائيل» إعادة بناء فلسفتها الأمنية والعسكرية، وإعادة بناء الإستراتيجية العسكرية على أساس العودة للحالة التي كانت سائدة قبل العام 1979 . ونحن في هذا السياق نقول، إن مصر لن تقطع علاقاتها أو تلغي اتفاقياتها مع الجانب «الإسرائيلي» فوراً ودون بناء خيارات جديدة على طريق التخلص من قيود معاهدة كامب ديفيد الأولى، ودون وجود حالة عربية جديدة وغطاء عربي جديد، إلا أنها الآن أصبحت أكثر حرية بالتحرك، وبالتالي لن تكون مصر عراباً لتسويق وتمرير الرؤية الأميركية و«الإسرائيلية» بالنسبة لقضايا الصراع مع «إسرائيل» وتحديداً بالنسبة للقضية الفلسطينية. وفي هذا الصدد، فان إشارات واجتهادات مختلفة خرجت من «إسرائيل» ومن داخل اطارت «جيشها» تطالب بتبني وجهة نظر مختلفة مفادها أن الحدث المصري بات يحتم على «إسرائيل» الاتجاه نحو مسار سلمي وفتح نوافذ التفاوض واسعة مع سوريا والفلسطينيين. ومن بين من تحدث بهذا الرأي كان الجنرال غابي أشكنازي رئيس الأركان السابق لجيش الاحتلال الذي اعتبر أن الدفع باتجاه إخراج سوريا من دائرة الحرب مع «إسرائيل» سيكون بمثابة إنجاز استراتيجي وتعويضاً عن الخلل الذي سببه سقوط نظام حسني مبارك، ومعتبراً في الوقت نفسه أن «إسرائيل تقيم سلاماً اليوم مع الأردن ومصر ومن دون شك فهو سلام استراتيجي مهم لكنه غير كاف. والتطورات التي تشهدها المنطقة حالياً تتطلب من إسرائيل خطوات لضم أطراف عربية تالية لهاتين الدولتين وبالأساس سورية». أخيراً، إن المحصلة النهائية التي بدت واضحة على الأرض بعد العواصف التي هبت على المنطقة، تبدو على النحو التالي : لقد افتتحت ثورة مصر عصراً جديداً في العالم العربي على كل المستويات، فقد التقطت نوراً وهاجاً من الشرارة التونسية، أشعل مصر ودفع باتجاه إحداث زلزال استراتيجي في عموم المنطقة، ولتصبح معه مصر العربية مهيأة للعودة التدريجية إلى دورها الإقليمي الذي يتناسب مع ثقلها وإرثها وتاريخها، وليعيد لها هيبتها ومكانتها التي غابت عنها طويلاً، كما سيعيد للمنطقة برمتها توازناً جديداً يحسب من خلاله لمصر ألف حساب. وفي هذا الصدد فان عودة الحياة الطبيعية إلى مسار العلاقات السورية/المصرية، وإعادة بناء العقد التحالفي التاريخي السوري/المصري هو الأمل المرتجى خلال الفترات القادمة. صحيفة الوطن القطرية