بداية لابد لنا من تعريف المصفوفة (ماتركس), وتوضيحها للذين لم يتعاملوا من قبل مع هذا الاصطلاح, وذلك تمهيدا لشرح تفاصيل هذه الفضيحة السياسية العالمية, التي اتخذت من المصفوفات الرقمية رمزا ومشروعا لها, في تنفيذ مسلسل الاغتيالات المنظمة, التي خططت لها ومولتها المخابرات المركزية الأمريكية, وقررت تنفيذها على النطاق العالمي الواسع. وقد استعارت ال (سي آي أي) اصطلاح (ماتركس) من الفلم الأمريكي الغامض, الذي يحمل الاسم نفسه, ويتعامل مع الناس كرموز رقمية لا قيمة لها. فالمصفوفة من الناحية العلمية عبارة عن دالة رياضية من الدوال الخطية, تشتمل على مجاميع من المتغيرات العددية المتتالية المرتبطة معا, والمتماثلة في النوع والنمط, وعادة ما تكون مرتبة وموزعة في صفوف رقمية أو رمزية محاطة بقوسين كبيرين. وقد استخدمت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية اصطلاح المصفوفة (ماتركس) كدالة للتعبير عن صفوف ومجاميع القادة والسياسيين, الذين قررت التخلص منهم, وتسفيرهم إلى العالم الآخر عن طريق إزهاق أرواحهم, بأحدث تقنيات الموت المُدبّر, وبأساليب مرتبة ومترابطة بحيث لا تترك وراءها أي اثر, وباستخدام أقصى درجات الخبث والنذالة في التدليس والتلفيق, تمهيدا لإلصاق تهمة الاغتيال بجهات أخرى لا علاقة لها بالحدث, لكنها جهات وجدت المخابرات الأمريكية إن من مصلحتها تلفيق التهمة لها, والانقضاض عليها أو ابتزازها سياسيا في المراحل اللاحقة. وأول من أماط اللثام عن هذه الفضيحة هو الضابط السابق في وكالة الأمن القومي الأمريكي (وين مادسن), ويعود له الفضل في سرد تفاصيل الملف السري لهذه الفضيحة السياسية, التي تحمل عبارة (وورلد وايد اتّاك ماتركس), وتعني (مصفوفة الهجوم العالمي الشامل).
من هو (وين مادسن) ؟
عمل (وين مادسن) في القوات البحرية الأميركية, ووكالة الأمن القومي الأمريكية خلال إدارة الرئيس ريغان, وتخصص في برمجة وتنظيم المعلومات السرية في الوحدات القتالية التابعة للقوات البحرية الأميركية, ثم صار خبيرا في تنظيم ومعالجة وتشفير بيانات وزارة الخارجية، وامتدت خبرته في المجالات التعبوية والأمنية لأكثر من عشرين عاما, ثم انتقل بعد تقاعده إلى العمل الصحفي, وصار متخصصا في تغطية نشاطات الدفاع والأمن القومي, ومتابعة سير العمليات الاستخباراتية مستعينا بخبرته الميدانية في هذا المضمار, ويدير حاليا موقع (وين مادسن ريبورت) على الشبكة الدولية.
(ماتركس) الفلم الرمزي الأكثر غموضا
ماتركس فلم هوليودي مثير للجدل, بطله شاب أمريكي, يدعى (نيو), يظهر في بداية الفلم وهو جالس أمام جهاز الحاسوب، فيتعرف من خلال الانترنت على شخص آخر اسمه (مورفيوس), يتلقى منه دعوة لولوج عالم افتراضي مُصطَنع تتلاشى فيه الحدود بين الواقع والخيال, وتتحكم به الحواسيب والمنظومات الفائقة الذكاء, يُطلق على ذلك العالم الافتراضي اسم (ماتركس), ويعني المصفوفة, وهو عالم يتألف من عناصر بشرية تسكن في مدينة تسمى (صهيون Zion). يزورها بطل الفلم (نيو) عن طريق عرافة رقمية تدعى (أوراكل Oracle), فينتقل بواسطتها من دنيا الواقع إلى دنيا وهمية تحاكي الواقع, وينجذب (نيو) لدوامات المصفوفة الخاضعة لرغبات الأب الروحي المسيطر على العالم الرقمي الافتراضي, ويصبح جزءا من العوالم العددية المتكررة, لكنه يستطيع قبيل نهاية الفلم أن يخلص صديقته (ترنتي) من الغرق في تيارات المكونات الرقمية العشوائية, ثم يعود أدراجه ليلتحق بمركز المصفوفة (ماتركس), متأثرا بكوابيسها الظلامية, فيشترك في معاركها وحروبها, التي تدور رحاها في تلافيف خلايا الدماغ المتطايرة في فضاءات الخيال, ويُكتب له النصر الوهمي المدعوم بالقدرات الفائقة للمنظومات الالكترونية المتحكمة بمجريات الحياة الميتافيزيقية ذات الإيقاعات الرتيبة المتوالية. الفلم من إخراج الشقيقان اليهوديان (واتشوسكي), ويستبطن إيحاءات وتهويمات غيبية, ترمز إلى بعض المعتقدات اليهودية المتطرفة, التي تشير إلى المزاعم المستقبلية المنبعثة من دهاليز وسراديب السحرة والمشعوذين في المعابد الوثنية القديمة, ولسنا هنا بصدد تحريف الأهداف الرئيسة للفلم, بل إن الأمريكيين أنفسهم يؤكدون على حقيقة نوايا هذا الفلم وغاياته, ابتدءا من اسم المدينة (صهيون) ومرورا بأسماء أبطال الفلم وأحداثه الرتيبة, فمورفيوس آلهة الأحلام في أساطير الإغريق, ومن نافلة القول نذكر أن اسم المادة المخدرة (المورفين) مشتق من اسم الآلهة (مورفيوس), ويبدو إن مادة الفلم كتبت بقصد تخدير عقول المشاهدين والتلاعب بأحاسيسهم, اما (ترنتي) فتعني اسم الثالوث في الديانة المسيحية, و(أوراكل) في اللاتينية تعني (الوحي), وتعد (أوراكل) اليوم من كبريات الشركات, التي قامت بوضع مبادئ قواعد البيانات, وابتكرت طرق تخزينها واسترجاعها باستخدام لغات البرمجة الحديثة. اما الأب الروحي للماتركس فهو كاهن مهووس بالخلود والكمال وتمجيد الذات, ويتظاهر في الفلم بالوقار المصطنع, والاعتكاف في مكان معزول تحيط به شاشات الرصد والمراقبة وأجهزة الاستطلاع والتصنت, ويستطيع من خلال موقعه النائي أن يراقب تحركات الناس ويحصي أنفاسهم, وتوحي تصرفاته الاستعلائية إلى المسيخ الدجال, أو ما يسمى في روايات الخيال السياسي (البك بروذر) وتعني الأخ الأكبر. الذي يعد من أقوى رموز النظام العالمي الجديد, بينما يرمز بطل الفلم (نيو) إلى الولاياتالمتحدة, ويظهر في الفلم بمظهر السوبرمان, والمنقذ الموعود القادر على دحر الأعداء والانتصار عليهم, اما (الماتركس) فتمثل نواة النظام الاستعلائي العالمي الجديد, الذي يبشر به الفلم من خلال توزيعه للأحداث الغامضة, التي جاءت مرتبة ترتيبا علائقيا مستوحى من النبوءات التوراتية, على وفق المنطق اليهودي الساعي لتهيئة الأجواء العامة لتلك الأحداث, والإيحاء بان العالم الذي نعيش فيه قد حلّت محله نسخة من عالَمٍ تحرّكنا فيه حوافزٌ مزيفة لا أكثر. وهو المنهج الذي تبنته الإدارة الأمريكية في تصفية خصومها وأصدقائها بطرق مفبركة ومفلترة, تظهر فيها أمريكا بمظهرين متناقضين ومتنافرين, فهي السفاح والمتباكي على الضحية, وهي القاتل والقاضي, والمجرم والواعظ, وبهذه الأساليب الشيطانية البشعة تعتقد أمريكا إنها ستكون قادرة على التحكم بالوقائع في ضوء المواقف المصطنعة, ومعطيات عناصر المصفوفة التي صممتها, ورسمت إبعادها, وخططت لجني ثمارها.
ولادة مصفوفة البطش والمطاردة
تأسست مصفوفة الاغتيالات (الماتركس) عقب أحداث أيلول (سبتمبر) 2001 على يد مدير الاستخبارات المركزية (جورج تينيت), وهي مصفوفة عملاقة تتضمن مجموعة من الخطط والخيارات المتشعبة لتنفيذ سلسلة من الاغتيالات بذريعة مكافحة الإرهاب، وتوصي الخطط باجتياح بعض الأقطار الإسلامية لتدميرها والاستيلاء على ثرواتها والتحكم بمستقبلها، وتحدد هذه الخطط أكثر من ثمانين دولة سبق أن اختارها (تينيت) لتكون مسرحا مفتوحا لعمليات البطش والمطاردة, وتضم مصفوفة (جورج تينيت) أسماء الدول التي يمكن أن يهرب إليها أعدائها, وتشتمل على استخدام أساليب قاسية وفتّاكة من أجل متابعة الناشطين وملاحقتهم والانقضاض عليهم، وإغراء الدول الأجنبية وأجهزتها الأمنية بحوافز مالية كبيرة. أرسلت المخابرات الأمريكية أعدادا كبيرة من عناصرها لتأمين الاتصال مع عملائها, ومساعدة مخابرات الدول المتواطئة معها. وقد أبدى الرئيس الأمريكي (جورج بوش) موافقته القطعية على مجموعة من العمليات الاستخباراتية غير المسبوقة في هذا المجال, واستخدمت المصفوفة على الفور في التخلص من كل المعارضين للسياسة الأمريكية, وتنفيذ مشاريع (بوش – تشيني) الاقتصادية في مجالات النفط والغاز, واشتملت أيضا على تراخيص وسيناريوهات واسعة لقتل الذين تمردوا على الإدارة الأمريكية وتحرروا من قبضتها.
مصفوفة الموت المُدبّر
تؤكد تصريحات (وين مادسن) على إن القائمين على تنفيذ برنامج (مصفوفة الهجوم العالمي الشامل) يتعمدون نشر لقطات مفزعة من صور الضحايا, وهم في أوضاع مزرية, ويتعمدون توزيعها على عواصم العالم ووكالات الأنباء, لتخويف خصومهم السياسيين, وتحذيرهم من مغبة الخروج عن طاعة أمريكا أو التمرد عليها, ويشير (وين مادسن) إلى بعض صور الاغتيالات القديمة, التي قرر مدير البرنامج إعادة نشرها من جديد, مثل: صور رئيسة وزراء الهند السابقة، (أنديرا غاندي)، وصور الرئيس الأمريكي الأسبق (جون كنيدي), وصور الزعيم الأمريكي (مارتن لوثر كينغ)، وصور الثائر اليساري (تشي غيفارا). يقول (مادسن) المعروف بصلاته الواسعة داخل دوائر الاستخبارات الأمريكية, إن هذه المصفوفة أتاحت للاستخبارات الأمريكية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري, واغتيال النائب الأول لرئيس الجمهورية في السودان الدكتور (جون قرنق), الذي انفجرت طائرته في ظروف غامضة, وتعرض للموت المُدبّر بسيناريو استخباراتي عالمي خطير, ويؤكد قائد القوات الخاصة في الجيش الشعبي لتحرير السودان، الذي قاده (جون قرنق) على مدى 20 عاما، بأن اغتيال (قرنق) بواسطة الأمريكيين لم يعد سرا, وإن قيادات الحركة تمتنع عن الإدلاء بأية أحاديث عن الحادث، إما خوفا أو رغبة منهم في الحفاظ على مصالحهم الخاصة. ويقول (مادسن) إن الإدارة الأمريكية كانت ترى إن (قرنق) شيوعي الهوى, ولا يمكنها الاعتماد عليه, فقررت إزاحته عن طريقها, وإلصاق التهمة بالحكومة السودانية, ومما يبعث على الدهشة إن المخابرات الأمريكية أقحمت نفسها في التحقيق بعد تدمير طائرته، واستولت على أجزاء هامة من حطامها, ويشير (مادسن) في أكثر من تصريح له إلى تورط أمريكا باغتيال مسؤول جهاز الأمن في القوات اللبنانية (إيلي حبيقة)، الذي فجرت سيارته في كانون الثاني (ديسمبر) 2002 بعبوة ناسفة، بسبب معارضته العلنية للمخططات الأمريكية في لبنان, وبسبب تصريحاته المتكررة عن استعداده للإدلاء بشهادته ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق (ارييل شارون) بشأن الدور الذي لعبه في مذبحة صبرا وشاتيلا عام 1982, ثم تعرض مساعده (مايكل نصّار) للقتل في البرازيل مع زوجته. ويجزم (مادسن) إن مصفوفة الاغتيالات المبرمجة كانت وراء تصفية شخصيات سياسية أخرى في أفريقيا وآسيا والباكستان, ويؤكد في تصريحاته المتلفزة على أن الاستخبارات الأمريكية, هي التي اغتالت حاكم إقليم بلوشستان (نوّاب أكبر خان)، ويقول (مادسن): إن أمريكا أرادت تطهير الإقليم من العناصر المعارضة لسياستها الاستعلائية, وذلك قبيل المباشرة بمشروع أنبوب الغاز في آسيا الوسطى, وهو الأنبوب الممتد من تركمانستان إلى أفغانستان ثم البحر العربي عبر بلوشستان. ختاما نقول, انه وعلى الرغم من صيحات (مادسن) المتعالية, ومجاهرته في التحدث عبر الفضائيات العالمية عن برامج ومخططات المصفوفة الإرهابية السرية, التي تبنتها الإدارة الأمريكية, وسهرت على تنفيذها, والتي راح ضحيتها بعض القادة البارزين في الوطن العربي والعالم الإسلامي. وعلى الرغم من توفر المزيد من الأدلة الجنائية, التي تثبت ضلوع المخابرات المركزية في هذه المشاريع اللااخلاقية, مازال العرب ينظرون إلى تصريحات (مادسن) بعين الريبة والشك, ويرفضون مناقشتها رغم شيوعها في الأوساط الشعبية الأمريكية, ورغم انتشارها في أوربا والعواصم العالمية, وتتصرف الصحافة العربية أحيانا وكأنها غير مستعدة لمعرفة الحقيقة, بل إنها تخشى التطرق للتصفيات الجسدية التي نفذتها المصفوفة, ولو بالصوت الخافت (المبحوح), الذي كتمت أنفاسه مصفوفة الموت في فندق (روتانا بستان) في دبي ؟؟؟. وكالة أنباء المستقبل للصحافة والنشر (ومع)