آليات الثورة: " نطرح الثورة كحركة لا متناهية ، كتحليق مطلق، ونعتبر أن هذه الخصائص تترابط مع ماهو واقعي هنا والآن في الصراع ضد الرأسمالية، وتعطي الانطلاقة لصراعات جديدة كلما تمت خيانة الصراع السابق." 1 ان الثورة تعرف بكونها حركة سياسية تسعى الى احداث تغيير جوهري يمس أعماق البنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية لدولة معينة وتنجزها جماعة من الأفراد بالتمرد على السلطة السائدة. وكل ثورة تندلع وتتواصل لفترة طويلة هي في الحقيقة تشتعل على نار هادئة وتتهيأ لها من جملة من الظروف والوضعيات وتعتمد في ذلك على جملة من الآليات والوسائط وثورة تونس الخضراء التي كانت بلا قيادة مركزية ورأس مدبر ارتكزت بالأساس على العناصر التالية: - حماس الشعب الشديد وبلوغ حالة الاحتقان والغضب لديه درجة قصوى من الغليان واستعداده الكبير للاتباع كل الوسائل المؤدية للتخلص من الحكم السائد بما في ذلك الوسائل غير المعقولة والانفعالية التي تتنافي مع المحظورات الاجتماعية والدينية. - يأس الشعب من الزعامات وأخذه زمام المبادرة بنفسه وتمرد الشباب على القيادات الحزبية وتعويلهم على ذواتهم في قيادة الشارع وابتكارهم لأشكال نضالية سلمية راقية ومعايشتهم لحالة ابداعية عجيبة على مستوى الشعار والتنظيم والعطاء والمثابرة والمضي قدما في الاحتجاج. - تبني ثقافة مستنيرة وتوظيف مخزون ثري من الروافد الفكرية ومواكبة شرائح كبيرة من السكان روح الحداثة والعصرنة عن طريق الاعلام والانخراط في العولمة من جهة الانتاج والتوزيع والاستهلاك. - حدوث الطفرة الديمغرافية وتوفر الموارد البشرية الهائلة ونضج الطبقة الصاعدة وتشكل شريحة شبابية هائلة شكلت الدعامة الرئيسة والعصب الحيوي للانتفاضة. - الانخراط في منظومة الاتصالات الحديثة واستعمال الوسائط الرقمية باقتدار وخاصة المنتديات الاجتماعية مثل الفايسبوكوالتويترواليوتوب والاحتجاج عن طريق أغاني الراب الملتزمة وتأثيث منظومة من الاتصال الجماعي والاعلام الشعبي الموازي. - تزايد التطرق الى الشأن السياسي في الحياة اليومية من طرف شرائح عريضة من السكان وتشكل ايديولوجيا سياسية رافضة للمنظومة الحاكمة وارتقاء الوعي لدى الانسان العامي الى درجة عالية من اليقظة والحذر والاقدام. - الدور التأطيري الكبير للنقابة الجامعية واستعداد الطلاب للتضحية والدور الطليعي للحركة الطلابية واستحضارها الميداني لذاكرتها النضالية وتوظيفها لجملة من الأدبيات السياسية المتوارثة في فعلها الميداني. - تأثير الحركة النقابية العريضة وانتشارها في كامل الوطن والحالة الراديكالية التي كانت عليها الهياكل الوسطى والأساسية والحزام القاعدي. - بروز خطاب جاد ورافع للسقف داخل المعارضة السياسية القانونية وهتك أرض المحظور السياسي في العديد من المرات وعدم قدرة القيادات على التعاطي مع الخطاب الجديد وعجزهم عن السيطرة التنظيمية على هذه الجرأة القاعدية. - طهور نزعة الاستقلالية في الفضاء الثقافي والنقابي والحقوقي والسياسي وتكريس التعددية الفعلية في الشارع والفضاء الافتراضي وتكاثر الحراك الموازي للهيئات الرسمية ونشأة كيانات جديدة موازية للهيئات القديمة المتكلسة. - تحالف عجيب بين المتناقضات وهي الحس الوطني والشعور القومي والانتماء الطبقي والالتزام الديني والمطالبة بالحريات الفردية والانعتاق الجماعي وقيم الانسانية التقدمية والحقوق التنموية الجهوية والمحلية. - الدور الهام الذي مثله البعد الديني في تغذية روح الثورة لدى الناس وذلك بتشغيل رمزية بعض المفاهيم مثل الشهادة وفارس الايمان والعروة الوثقى والاعتصام والتكبير والجماعة والأخوة والتعاون على البر والانتصار للحق ومحاربة الباطل والخروج على الظالمين ومحاربة الفاسدين والتوكل على الله والانتصار للكائن الآدمي. كل هذه العوامل هي العناصر التي ساهمت في اشعال نار الانتفاضة المباركة ومثلت وقود الثورة الشعبية التي جعلت من أهدافها القطع الجذري مع الماضي التعيس واعادة توزيع القوى المتنافسة على الساحة الاجتماعية وخلق قواعد لعبة سياسية جديدة قد لا يكون للنظام القديم مكانا له فيها وتتميز بحق الاختلاف واحترام التعددية الفعلية ومكنت الشبيبة من اطلاق ملكة التخيل والحلم واستعادة الأمل والعافية وأحدثت تحولا في الضمائر نحو الفضائل الحسنة والقيم الرفيعة وأقامت جسما اجتماعيا جديدا يتميز بالشباب والحيوية والتحفز والانطلاق وشرعت امكانية ايجاد المشروع المستقبلي الحي بتحطيم القوانين المتحجرة. هكذا كانت المبادئ الفلسفية التي قامت عليها الثورة التونسية هي الحسم مع القرارات المرتجلة والخيارات المضطربة والتصدي للتضليل والخزعبلات الفارغة وفضح كل أشكال الاغتراب والاستغلال والتدرج في القدرة المطلبية من الاجتماعي التنموي الى الاقتصادي الحقوقي ولتصل الى السياسي الديمقراطي. من هذا المنطلق هل يمكن أن تفيض الثورة التونسية بخيراتها على الشعوب المجاورة وتساهم في دخول العرب فعليا الى عصر التنوير والفضاء الديمقراطي التشاوري؟ ----------------------------------- الهامش: 1- جيل دولوز- فليكس غتاري، ماهي الفلسفة، ص.113.