تحية عطرة للاخ بونيف الذي قد اخالفه الرأي دون ان اخالفه منهج البحث والمشاركة النوعية التي تسمو بسلوكات المتعاطين مع مواضيع هذا المنبر الكريم. حاولت اخي الكريم ادراج تعليقي ضمن مقالكم المتميز بخصوص "اهم الدروس المستخلصة من العمل النقابي-الجزء الثالث-" ولكن لم استطع بعثه لظروف تقنية واحاول مجددا عن طريق تقنية"اضف خبر" ان يكون مقالا وتعليقا في الوقت نفسه راجيا ان يتوسع النقاش بخصوصه. فانطلاقا مما ورد في مقالكم اخي بونيف ، يمكن في سياق ربط العمل النقابي بظاهرة العولمة الوقوف على مسألة مهمة هي أن العولمة أضحت ظاهرة اقتصادية بامتياز، في مرجعياتها و محدداتها الكبرى، وكذا آليات وأدوات اشتغالها وفي طبيعة القوى المتفاعلة معها. و لااوافقكم الرأي - إلا نسبيا- بخصوص كون "دعاة الانقلاب على بعض القيم والمبادئ النقابية خاصة تلك المنبثقة من تناقضات وصراع الرأسمال والعمل ، يهدفون إلى تبرير فشل العمل النقابي وطنيا خدمة لتوجه معين ، بما يسمونه قسرا بإ كراهات العولمة..." كما جاء في مقالكم فهذا الامر لا ينطبق الا على دول العالم الثالث -ومنها المغرب طبعا- بينما العالم الغربي اصبح يسلم بمعطى العولمة اعتبارا لكونها ظاهرة قائمة ومفروضة على النسيج الاقتصادي والسياسي العالمي بصرف النظر عن الموقف منها فهي ظاهرة ، قطبية، تتمركز بداخلها شتى أشكال الاغتناء وأقصى ضروب الفقر والإقصاء وتتجذر يوما عن يوم. هذه الازدواجية في التعاطي مع "تحديات العولمة" بين العالم الغربي والعالم الثالث اعطت التصنيف التالي :
- بالنسبة للعالم الغربي : يتعامل مع العولمة كتحدي قائم و حقيقي وهو بالمحصلة تحدي اقتصادي واجتماعي وعلمي وتكنولوجي وثقافي وما إلى ذلك. وهو أمر لا مكان للمزايدة بشأنه. - بالمقابل، نلاحظ (بالمغرب وبغيره من دول العالم الثالث) أن هذه العبارة توظف عموما إما لتأثيث الخطاب أو لتبرير الممارسة أو في جوهرها للابتزاز: "ابتزاز الدولة أو الحزب أو النقابة أو الجمعية أو ابتزازهم لبعضهم البعض بغرض تحصيل غنيمة رمزية بالسلطة أو مادية على مستوى الحصول على امتيازات من طبيعة ما" وهذا ما اوافقك فيه الرأي بخصوص عبارتك السابقة. بالتالي فالقائم أن العمل النقابي أو الممارسة النقابية بالعالم موزعة بين واقع تعتبر تحديات العولمة بداخله أمرا واقعا (بالدول الكبرى تحديدا) وبين واقع يتخذ من ذات الخطاب (خطاب التحديات) أداة للابتزاز وللمساومة تبلغ في بعض مستوياتها النفعية والبراكماتية الضيقة. وهذا ما سيقودني الى محاولة الاجابة عن سؤالك : " هل يمكننا بالفعل أن نقول أن مفاهيم العمل النقابي وقيمه التي راكمتها الحركة النقابية في المغرب كبلد نامي وبطئ التطور أصبحت متجاوزة ؟" لا يمكن اخي الكريم بجرة قلم ان يقفز احد على تراكمات الحقل النقابي وعلى تضحيات بعض الرموز ذات المصداقية ولكن إذا اردنا ان نسائل الممارسة النقابية القائمة في المغرب كما هي عليه حاليا خاصة في ظل تحديات العولمة لاستوقفتنا حتما مجموعة مفارقات يمكن اعتبارها امتدادا لما يعيشه الغرب . * المفارقة الأولى، أن الممارسة النقابية التي كانت إلى حين عهد قريب تندد بسياسات الخوصصة والتحرير وإعادات التقنين، أصبحت (بعد أن أضحت هذه السياسات أمرا واقعا) تؤمن أشد ما يكن الإيمان بضرورات المسايرة والتأقلم والانضباط. بالتالي اصبحت مصطلحات من قبيل "المقاولة المواطنة" و"النقابة المواطنة" وغيرها، أصبحت احد اوجه التوافق بين الفرقاء الاقتصاديين والاجتماعيين وهذا ما اوضحته في تعليقي على مقالكم السابق بخصوص التوجهات الجديدة للعمل النقابي . وبناء على ما سلف نرى ان هناك توافقا ضمنيا (وإن لم يتمظهر جليا على مستوى الممارسة) بين البعد السياسي والاقتصادي من جهة والبعد الاجتماعي والنقابي من جهة أخرى لدرجة يعتقد المرء معها أن هذه الأبعاد هي رافد من روافد المشروع المجتمعي الجديد في ظل انتقال رأس المال من الطبيعة الإنتاجية المتعارف عليها إلى طبيعة مالية خالصة لا تعتبر المضاربات إلا جزءا منها. فالممارسة النقابية التي كانت تدعي امتلاكها لمشروع مجتمعي أصبحت تابعة لمشروع مجتمعي "المطلوب منها تبنيه وتزكيته والبناء عليه بحكم موازين القوى وإكراهات الأمر الواقع". * المفارقة الثانية وتكمن في أن الإشكال زمن العولمة لم يعد كامنا بالضرورة في مبدأ الممارسة النقابية ( المرتبطة اساسا بمبدأ الديموقراطية التشاركية) بقدر ما أصبحت كامنة في الأدوات المستخدمة والموظفة. بمعنى هذا أن اشكال الاحتجاج على ممارسة رأس المال مثلا (من إضرابات واعتصامات ورفع للشعارات ...) لم تعد ذات جدوى كبرى في ظل ممارسات ينخرط في ظلها العامل أو الأجير في رأس مال المقاولة أو يساهم في تحديد استراتيجيتها. ومعناه أيضا أنه مادام الأجير له مصلحة في ربحية ومردودية المقاولة فإنه يندمج وإلى حد ما في سياستها وفي طبيعة اختياراتها( لاحظ مثلا ما عشنا في جرادة بعد تفويت بعض اوراش شركة مناجم الفحم قد انعدم مطلقا اي شكل للاحتجاج برغم بعض مشاكل التسوق التي شهدتها بعض الوحدات...) بالتالي، فالممارسة النقابية أصبحت لا تعمد فقط إلى مبدأ الرفض والمواجهة تحت هذا الشكل أو ذاك، بقدر ما أصبحت تؤمن بضرورة نهج سياسة اقتراحية هي في المحصلة أقرب إلى سياسات رأس المال منها إلى الفلسفة التي حكمت العمل النقابي إلى حين عهد قريب. + المفارقة الثالثة التي وضعت العمل النقابي زمن العولمة في المحك تكمن فيما يسود الاعتقاد في أن الكل (أرباب عمل ودولة ونقابات) ..الكل أصبح لا يحتكم إلى مبدأ التقنين (الذي ساد عهود القطاع العام والمرفق العام) بل إلى مبدأ التنظيم الذي أصبح معه السوق متجاوزا لمفهوم العرض والطلب نحو مفهوم علاقة رب العمل مع الاجير . لعلي بذلك اخي بونيف قد اكون اجبت ايضا عن تساؤلكم بخصوص اسباب التراجع النقابي في الغرب والذي سميتموه كميا واعتبره حتميا للتحديات السالفة الذكر المرتبطة بالعولمة، واحاول ايضا الاجابة عن تساؤلكم حول وضع التراجع النقابي في المغرب في اطاره الحقيقي لاقول انه يمكن اختزال الازمة النقابية في المغرب في ثلاثة تمظهرات: -العمل النقابي بالمغرب يعيش أولا وقبل أي شيء آخر حالة من أزمة الهوية. فإذا كان مبدأ العمل النقابي معترفا به وقائما بأرض الواقع، فإن واقع الحال ينذر بأنه لم يستطع، منذ البداية وفي زمن العولمة، تحديد هويته بالقياس إلى المستوى الاقتصادي أو السياسي-الحزبي لدرجة يخال المرء معها أن الأزمة أصبحت تطال المبدأ في حد ذاته أكثر ما تطال العمل. فأزمة الهوية إذن كانت قائمة لكن ظروف العولمة فجرتها بعمق وأفرزت العديد من تمظهراتها. - والعمل النقابي بالمغرب أصبح في صعوبة بالغة ارتباطا بما نسميه "المشروعية" التي لطالما عمل على تكريسها والحفاظ عليها. والمشروعية المتحدث فيها هنا تمس الجهاز أكثر ما تمس الممارسة، إذ عندما تنشق نقابة عن نقابة أو فيدرالية عن نقابة او جهاز يتحدث باسم قطاع داخل النقابة يصبح المرء فعلا في حيرة من امره ولا يعرف اين يتجه للدفاع عن مطالبه او طرح مشاكله. - والممارسة النقابية بالمغرب تعيش أزمة مصداقية لن تعمل ظاهرة العولمة مع الزمن إلا على تعميقها وتجديرها. معنى هذا أنه عندما لا تستطيع نقابة ما أن تعيد منخرط مطرود من عمله أو استرجاع يوم أجرة مقتطع جراء الإضراب أو تحول دون تقديم عضو فيها إلى مجلس تأديبي او يتهافت قياديوها على امتيازات او يبدو من خلال نقاشاتهم مستواهم الهزيل (ما عاشه ويعيشه العمل النقابي بعمالة جرادة من حوارات على السند...) إذا لم تستطع ذلك فعن أية مصداقية يمكن للمرء أن يتحدث؟ ما الفائدة إذن من المراهنة بالمغرب على ممارسة نقابية أصبحت تنتفي بصلبها تدريجيا المكونات المركزية التي تجعل من ذات الممارسة سلطة مضادة؟ نرفض العولمة وان كان رفضنا لها لا يغير من الامر شيئا، ولكن رفضنا على الاقل يسائلنا في البدائل الممكنة التي ليست في نهاية المطاف سوى ايجاد الاليات التي تمنكننا من "التعايش" مع هذا التيار الجارف باقل الخسائر الممكنة لكونه امرا اصبح مفروضا وحتميا ومتجاوزا لموقفنا منه كما اسلفت. وقد سبق اخي بونيف ان سردت بعضا من مظاهر هذا التراجع التي اضيف اليها "البيروقراطية النقابية" التي لا تسمح بميلاد التداول على القيادة الا بموت الزعيم ، الغطاء القيادي لممارسات ابناء القياديين (حالة بنت بن الصديق رحمه الله مع عمال الحراسة...) تحويل الجدلية النقابية السياسية الى جدلية النقابية الحزبية، فرز المقاولة العائلية، اعتماد الدولة على مبدأ الحوار مع النقابات الاكثر تمثيلية(في الوقت الذي اذا جمعنا فيه شتات الاقليات تفوق بعض اغلبية بعض النقابات) بروز تمثيليات قطاعية داخل الجسم النقابي (كهيئة المتصرفين) اشكالات بعض النصوص القانونية كما جاء في مقال احد الاخوة على السند حول المادة 15 من ظهير 1 مارس 1963 زد على ذلك وقوف الدولة بالمرصاد لاية محاولة نقابية قادرة على رص الصفوف وربط النقابي بالسياسي وهذا الوقوف يتراوح بين الاحتواء او الابعاد او حتى الاغتيال...(الله يرحم الشهداء).