أعدم سقراط بسبب أرائه الفلسفية وهرب أفلاطون إلى الإسكندرية خوفا من انتقام السلطة الجديدة (ولو كان هو نفسه ليس ديمقراطيا ويؤمن بالتطهير الفكري والإنتقاء الفني)، كما أعدم الصوفي الحلاّج، لأنّه لم يروج لأفكار السلطة ورفض بيع ذمته، وأحرقت مكتبة الإسكندرية لما وطأها الغزاة العرب وأحرق الماغول مكتبة بغداد التي أسسها المأمون وأعدموا كتبها برميها في نهر دجلة، حتى تحول تيار الماء إلى سائل أسود، وأحرقت كتب الكندي في قلب بغداد على مرأى ومسمع من الرعاع، لا لشيء إلا لأنه اشتغل بالفلسفة ورسم الدائرة الفلكية التي وصفها الإمام الأهوج الذي حرق كتبه:"بالنازلة الصماء والداهية العمياء"، ثم خرقها بسيفه ورمى الكتاب في النار...ولجأ ديكارت إلى الأراضي الواطئه، بعد أن شعر بالمغرضين يدسون له عند الملك...1 كما كان الكهنة في مصر القديمة، يرفضون كل التراتيل والترانيم والأغاني والفنون التي لا تتماشى والنمط الذي يسمحون به... وإنّه ليس بالغريب، إن يظل سوى المفكرين والمبدعين العرب تقريبا، مغربين عن أوطانهم، كرها وليس طوعا، سواء كانوا بالداخل أو منفيين، لأنهم أبدعوا أو جازفوا بالتفكير والكتابة خارج دائرة النمط الذي يسمح به السلطان..فلا نعتقد أن الخضارة الغربية تتمادى في استمرارها وتتجاوز أزماتها والتغلب على البدائل المنافسة، إلى حدّ الآن، لو ما كانت إحدى العوامل المساعدة لها، هي الحرية التي طالت كل المجالات تقريبا (لا أتحدث عن العامل الإقتصادي)، ومنها حرية الكتابة والتفكير والإبداع، التي وظفتها الطبقة المسيطرة لحسابها بكفاءة عالية. فحتى الظواهر المرضية المخزية، استطاعت أن تستوعبها هذه الحضارة، بالسماح لها بالظهور، لتجعلها تتلاشى ذاتيا شيئا فشيئا، أو تنحصر في حيّز اجتماعي ضيق، لأنها تعلم أن قمع الظاهرة قد يزيد من حدّتها..