يبدو أن حبل الغسيل لا يعلم بأنه في نعيم من أمره. أو لنفترض جزافا بأنني أريد شرعنته بهذه الفكرة المتآكلة. يلتقط الثياب وهيّ في أوج بلَلِها ونظافتها. يعلمُ ما يُلبَس ظاهرا وما يخفى. يتقن إدراك خبايا الأجساد. يرافق بذلةً سوداء إلى مراسم الحبق الأخير، ويحتسي بؤس فستانٍ ينوح وحدته في ظلمات الليل الطويل. يُهدهدُ قماش الأطفال الملّون بوجنات السماء. ويغفو مع ثياب النوم فوق خرافات الأحلام. إنّه يعايش لحظات المدرسة الأولى في أَلَقٍ مريب. يطارد غبار الملاعب فوق كرة القدمِ تلك. يزفُّ عروسا مثل ندف الثلج إلى مهجّة العاشق الملتاع. يعاتب الهندام الساكن في صمته، ويحنو على ضعاف الملابس. كثيراً ما كان يغفر قسوة الرميِّ من بعد انتهاء معزوفة الحياة. يسامح الحرَّ على تعنته ويصلّي لقرصات البرد كي تكون أشدّ رفقا بالملابس. يصبر على رائحة عرق الكادحين، ويحتمل نزق المترفين. ولا، لم أعد أدري بعد هذه الإطلالّة المعمّقة على حبل الغسيل إذا ما كان حبل الغسيل في نعيم. يقضي عمره منتظرا وجبة الغسيل. فإن جاءت وجبة الغسيل صباحا، عانقها بِقُبلَة الخير والسلام. وإن جاءت مع مآقِّ الغروبِ، تركها تسامر مدن أحزانه. أذكر ذات مرة، حينما كان حبل الغسيل يتلو أبياته الأولى أمام رزمة (الملاقط الجديدة)، بأنه قد توارى في الإبحار. صَمَتَ وفي أوجّ صمته، صرخ قائلاً: أهلا بكم. أنتم المداد الجديد، كونوا خير رفيق للملابس. صاحبوا نسائم الدنيا إليها ولا بدَّ من الموت، إذ لا بدَّ منه. كُثرٌ هُمْ من شهدت يوم تكسيرهم وتحطيمهم من الملاقط. الموت لا يفرّق بين الملقط الشاب والملقط العجوز. الموت يأتي هارباً كي يحصد ما يلقاه في وجهه. فقد أثبت الزمان تقلبات فصوله فوق جلدي، لهذا يا أحبتي لم أصدأ هكذا من باب فراغ. وكلما ازددت نظرا وتمحيصا، ترائى لي حبل الغسيل بائسا مدقع القهر. في إحدى المرات، حينما خرجت إلى سطح المنزل كي أختلي بحزني، تداخل في مخيلتي بأني قد سمعت شيئا يتحدث. قلت في نفسي، وماذا عساه يكون؟. يبدو بأنني قد بدأت أختلق وساوس الأفكار، حتى ألفق تهم الجنون لذاتي. هي لحظة يملأ جعبتها موت الأمكنة. شقَّ نواح القهر مكمن صدره. اختلط الأمر على مداركي، حبل الغسيل يبكي في نشيج مرير!. في نحيبه لمحت أيام مولده الأولى. حينما قام أبو محمد برفقة طفلته فاطمة بمدِّ حبل الغسيل كالرايّة فوق سارية سطح المنزل. فاطمة تنادي: يا أبي ألا ترى بأن حبل الغسيل مرتفع قليلا!. إني لا أستطيع الإمساك به. وإذا بتلك الراحتين العملاقتين تمسكان بخاصرة الفاطمة، يحملان هذه القطعة المشاغبة إلى فوق، إلى حبل الغسيل. لا بل كانت تحلق مثل أهزوجة الطير إلى حبل الغسيل. وتمسكُ فاطمة بحبل الغسيل. الله ما أجمل أن تعانق حبل الغسيل. تصرخُ: يابااااااااا، يابااااا، أنا طويلة. يضحك الأسد الهمام ويقول: مليكتي الصغيرة أرى فيكِ طولاً فارعا كبواسق النخيل. هيّا دعيني أعيدك إلى الأرض. كفاك لهوا بحبل الغسيل. وأستمر في الترحال داخل معزوفة نحيبه، إلى هناك. إلى ذلك اليوم الماطر تحت عبوس الغيوم وقسوة سيوف الصقيع. يوم تطايرت حبال الغسيل، وبدأت تشحذ هِمم الملابس كي تزيدها إصراراً على التمسّك والبقاء يدا بيد مع الملاقط. أكاد أستمع لخطاب حبل الغسيل ماثلا أمام مسمعي في هذه اللحظة. يستصرخ بكامل كيانه، أيتها الملاقط، أيتها الملابس إن هذه الساعات الموجعة لزائلة أعلم بأنها سوف تنبت وضعا آخر ولو بعد حين. وفي ظل هذه الظروف أقف في مهب وجه الريح مردداً، قد ننحني للريح لكننا للريح يا ريح لا ننقاد. تكافلوا معا. كونوا شعبا واحدا، قلبا واحدا. انتم الملابس انتم من في ذهابكم يصيب العريَّ ظاهر الأجساد كما هو مصيب دواخلها. تمسكي أيتها البنطلونات والبلايز، والفانيلات، وثياب النوم والجرابات. تمسّكوا. آآآآآآآآآآآهٍ، كم كانت كلمات حبل الغسيل قادرة على بعث العنقاء من رمادها. باللهِ يا حبل الغسيل، إنّي استميحك عذراً بأن تتوقف عن النحيب والعويل. ماذا أصابك؟، أتودُّ ذرف الدمع أحمرا أما كفاكَ!. كفاكَ. أقتربُ منه، ومع كل دعسة قدم تصفعني هالة من سلال الذكريات، التي يخبئها حبل الغسيل في جوفه. أعلم بأن ذاكرتي متسخةٌ بالنسيان. لكنّك تجيد إيقاظ الغبار عن مصاطب الألم والحنين. أذكر تلك الواقعة. حينما دلقنا أكواب العصير على ملابسنا. ورغم إصرار أم محمد على استبدال ملابسنا بأخرى نظيفة من الخزانة. إلا أن إصرارها لم يجدي نفعا. فقد مارسنا رفضنا. أكاد أتلذذ لتلك الساعة التي نكحت فيها صوتي يمارس الرفض، لا لشيءٍ، بل لأنه رافض كافة الأيدلوجيات المبررة. هيّ حاجة تمسك بعنق روحك ولا تعود بعدها تودَّ قول: نعم. يومها تشبّثنا بألّا نبدل ملابسنا، بأننا لا نريد أن نلبس سوى من الملابس المنشورة على حبل الغسيل. وبعدما غُلب حمار أمي المسكين أمام عناد هذا الرفض البريء الجريء. أومأت لنا بطرف عينيها. فذهبنا نتراكض فوق أعتاب الدرج. نتصايح، نتدافع من سيبلغ منّا حبل الغسيل أولا. وانفجرنا من باب سطح المنزل، دفعة واحدة. كنّا كمثل سناجب الحقول تبحث عن نعومة مخابئها بين الشراشف البيضاء وأغطية الأَسْرَّة. وبين حبل الغسيل والآخر تكمن رائحة قمصان أبي، وعطر مناديل أمي. رحنا نلعب (الغميضه)، وكأننا نمارس الأكاذيب الممتعة ونضحك ويضحكُ حبل الغسيل... أسمع يقول: أراكم، أراكم لن تهربوا مني بعيدا. كيف نهرب من حطام الذاكرة يا حبل الغسيل؟. أراك لم تنسى حينما جاء موكب وفاة جدي. لقد كنت تسابقنا في الحزن والبكاء. وكثيرا ما شعرت بأنك تجلس في هزيع الوحدة كي تصاحب أبي. ألا تذكر بأنك قد مارست حزنك واتّشحتَ بخمرة السواد جرّاء هذا الوجع المرير. - باللهِ أو بالآآآآآآآآآه ما بكَ يا صديقي؟؟؟ - دعني أكفكف دمعك. - فاط.......مة، يقول. - نعم يا صديقي، إنّي أصيخ سمعي لكَ، ولكَ فقل ما تريد. - إنّي لا أقدر على فراقكم. - من قال: بأننا سنفترق؟ - يريدون قتلي عنوة وجهرا يا فاطمة - يريدون ماذا؟.. على جسدي لن يحدث.. - أولن تقومِ بنسيان همسات عشقنا؟ - وكيف أنسى نيران العشق يا حبل الغسيل! - أتحبينني؟ - ما بالكَ، لِم تسألُ ما تعلم بيقين إجابته مسبقا! - أجيبي بالله عليكِ - نعم، نعم، نعم أحبك، أعشقك يا حبل الغسيل - كنت أعلم بأنّي سأقف أمام جرافات الهدم الإسرائيلية حاملاً روحكِ الكاسرة. - لن أخاف الفراق قهرا يا فاطمة رغم الخيانات التامة - .