ظلت الصحافة ومراكز الأبحاث والساسة في إسرائيل يحدقون من خلال البحر في وجه تركيا الجديدة التي دفعت في سفينة الحرية فاتورة الدم وحدها في استهداف يراه نصف وزراء السباعية في إسرائيل رعونة وخفة وجب ومن خلال استطلاعات الرأي وبجسب 80% من جمهور الأخيرة تشكيل لجنة تحقيق تكشف الخلل ويحدد عبرها المسؤول عن الفشل . إسرائيل المفضوحة الواقعة تحت مجهر الصورة التي لم تستطع أدواتها ستر الإجرام الكبير ضد العزل ، حاولت ومن اللحظة الأولى تسويق مشهد إعلامي مفبرك مفاده أن من كان على السفينة مجموعة من الإرهابيين الذين جاءت بهم حماس وحزب الله وبعض مؤسسات حركة الإخوان العالمية لتفتح المجال لعبور الصواريخ والأسلحة من إيران . أقدار الله ومن ثم لسوء حظ إسرائيل جعلت المصاب والجراح تركية مست بكرامتها من خلال ضربات متتالية كان أولها في القتل ثم ثانيها بوصف الإرهاب ثم ثالثها بإصرار إسرائيل على أن ما جرى طبيعي في مواجهة (مرتزقة مسلحين ) مضافا إلى كل ذلك استخفاف ساسة إسرائيل بها بكل وقاحة و صفاقة . في مقال كتبته في هذا السياق قبل أشهر بعنوان (تركيا الجديدة في مواجهة إسرائيل ) قلت في بعض سطوره "من أن حراك تركيا نحو دولة فاعلة سيجعلها في المواجهة المباشرة مع إسرائيل " المواجهة المباشرة أخذت في الوضوح بعد حرب غزة ولقاء دافوس ، لكن صورتها الأكثر وضوحاً كانت في الدور الذي قامت به بصحبة البرازيل مع إيران والذي أسفر عن اتفاق مهم في ملفها النووي والذي قرأ في إسرائيل على أنه ضربة من العيار الثقيل لجهودها في محاصرة إيران وضربها . لكن ثمة لهذا الحراك من ذروة في المواجهة المباشره توجته إسرائيل بالقتل للرعايا الأتراك على متن أسطول الحرية . مما دفع تركيا مجبرة على الوقوف المرة مباشرة في وجه إسرائيل في اختبار مهم لقدرتها في الامتحان الأصعب منذ تولي (الأردغونين ) الحكم والذي جاءت ردة فعله قوية ومهمة وكاشفة للتوجه التركي في الأعوام القادمة مع إسرائيل والتي" برأيي ستطول في ظل القراءة الانتخابية القادمة والتي ستديم أردوغان وحزبه في المشهد السياسي طويلاً" . العلاقة مع إسرائيل في الأيام القادمة والتي كانت دوماً العلاقة الأكثر تميزاً في الشرق الأوسط والتي برزت من خلال اعتراف تركيا بالكيان الإسرائيلي مبكراً ، ثم تعزيز التعاون بين الدولتين إلى حد التماهي في الأجهزة الإستخبارية بين البلدين في خدمة كل منهما الآخر لتصل الذورة في عهد الرئيس التركي سليمان ديمرل الذي وقع اكبر اتفاقية تعاون مع إسرائيل والتي تعد الضابط لعلاقة الدولتين وخاصة في جانبها العسكري والاقتصادي لهذه الأيام . هذه العلاقة نشهد اليوم لها تحولاً كبيراً وخاصة بعد الجريمة البحرية والتي يمكن قراءتها على النحو التالي. 1. زيادة في الجفاء مع الكيان الصهيوني إلى حد سيؤثر على حجم التبادل التجاري وخاصة العسكري الذي ستحاول إسرائيل الضغط من خلاله . 2. تفاعل تركي أكبر مع القضية الفلسطينية وخاصة في جانبها الإنساني السياسي والذي يتيح لها الضغط على إسرائيل دون الانتقاد من الغرب . 3. تعزيز دور الندية لإسرائيل في الشرق الأوسط من خلال دخولها دوبلماسيا في ملفات المنطقة مع ترسيخ حراكها من الناحية الاقتصادية والذي سينشئ مركز قوة في لعبة المقايضات الدولية كما يجري اليوم في ملف حصار غزة وعروض تركيا في هذا الملف . 4. تعزيز القناعة الغربية في دور تركيا في المنطقة على أساس أنها المدخل الفاعل القادر على تعبئة فراغ العزلة التي تعيشه إسرائيل عصاة الغرب في المنطقة لكن من خلال منهجية تقوم على سلم المنطقة ورفاهيتها و تقدمها الذي يضمن الاستقرار العالمي . هذا البعد المهم في السياسة الخارجية الذي ظلت طموحات إسرائيل عائقه الأول والتي ستحاول القضاء عليه من خلال ضغط على الغرب وأمريكا لإفشاله ، ومن ثم المساعدة ودعم التحريش الداخلي من خلال : الأكراد ، وإثارة بعض ضباط الجيش الذين لهم صلة بإسرائيل ، والدوائر الماسونية الفاعلة على أرض تركيا المرتبطة بأباطرة المال الذين ظلوا يرسمون السياسة التركية الداخلية والخارجية . قدرة إسرائيل والغرب في الساحة التركية الكبيرة جعلت أردوغان وحزبه يضعون تجربة الإمام الكبير أربكان تحت المجهر ليستفاد منها في بناء منظومة الدولة المستقلة القادرة على التحرك وبطمئنان من خلال التالي . 1. تحويل مشروع الحزب الحاكم من مشروع النخبة إلى مشروع الطبقة الأوسع في الشعب التركي والذي أصبح اليوم في عهد أردوغان يعبر عن ذاته بقوه والذي سيشاهد من خلال الإستفتاء القادم على بعض التغيرات في الدستور. 2. بناء تغيير تراكمي طبيعي يتناغم مع رؤية (الأردوغانيين ) وطموحات الشعب التركي في مؤسسات الدولة التي شكلت له الحماية في حدها الأدنى من خلال تغلغل أتباعه في كافة مؤسسات الدوله . 3. خلق علاقة وثيقة مع رجال المال في تركيا واستقطاب بعض أركان المال الذين ظلوا دوماً إلى جانب المؤسسة العسكرية وخاصة بعد فتح جملة من الأسواق المهمة في العالم العربي ودول أمريكا اللاتينية . 4. التأسيس لسياسة خارجية تربط بين الحاجة للغرب والقدرة بهدوء للتحرك في الشرق الذي يعد الفضاء الحيوي لدولة تركيا القادرة المستقلة من خلال تأثير في صناعة دور فاعل وسعي نحو دور اقتصادي وسياسي في بيئة ثقافية متناغمة . 5. الفهم العميق للحدود التي يمكن للغرب قبول تركيا فيها وخاصة الإتحاد الأوروبي وعدم السباحة في الأحلام التي ستبقي تركيا الدولة الضعيفة الهامشية . 6. ترسيخ ثقافة الحرية والديمقراطية والانتماء من خلال المزج بين تاريخ الأمة التركية ومنظومتها الفكرية الحضارية القائمة على الهدف الواضح . هذه النقاط الست التي دعمت توجه تركيا الجديد ضد إسرائيل وهي ذاتها المحرك لبناء تركيا فاعلة وقادرة ، هي نفسها أركان المدرسة الأردوغانية التي يجب على حكام العرب ومفكريهم النظر إليها والإفادة منها والتحالف معها وفق أسس واضحة وتبادلية للمصالح لا بقصد التبعية العمياء . أردوغان اليوم ومن خلال صدق خطابه يدخل بيوت الفقراء في العالم العربي كما يزاحم نفوذ الكبار ليخلق له في كل ساعة شأن كبير يراه الكثير فاتحة أمل لأمة تبحث عن مستقبل تحاسب فيه إسرائيل ، ويحترم فيه الغرب دم الشعوب المقتولة كرامتها في شرق تاق للحرية المسروقة . منهجية اردوغان وبعيداً عن العاطفة ولخلاصة مفيدة تحتاج إلى إسناد الأمة وضبط للخطى من ساستها مع جرئة تقتنص الفرص المواتية ، مع حرص من إسرائيل التي عزمت على المواجهة في الخفاء ، مع تجنيد الطاقات القابلة للتطويع في شرق فرت عقوله بحثاً عن فرصة في الغرب السارق . بذلك يمكن أن يبدأ التحول ويمكن أن تكتمل معه أبجدية الانطلاق والتحول لصالح المنطقة .