لم يحدث، وعلى مدى أكثر من ستين عاما من احتلال فلسطين التاريخية، أن تصدرت هذه القضية، وبالطريقة الصائبة، قمة أولويات الرأي العام العالمي ومؤسساته، مثلما كان عليه الحال في الأسبوعين الماضيين، والفضل في ذلك يعود إلى أربعة أمور رئيسية: الأول: شجاعة السيد رجب طيب أردوغان، رئيس وزراء تركيا، وتحوله إلى محام بارع مقدام للدفاع عن أهالي قطاع غزة المحاصرين وإصراره على عدم التخلي عنهم حتى إنهاء الحصار المفروض عليهم. الثاني: دماء النشطاء الأتراك الذين استشهدوا على ظهر السفينة مرمرة أثناء مواجهتهم لفرق الكوماندوز الإسرائيليين، فقد أوقع هؤلاء المهاجمين في مصيدة الكرامة وعزة النفس وأفسدوا على الإسرائيليين جميع خططهم وحطموا غرورهم وتعاليهم وتفوقهم المزعوم عندما رفضوا الإذعان والاستسلام وقرروا المقاومة بكل ما أتيح لهم من أدوات دفاعا عن النفس. الثالث: صمود أهل غزة البطولي تحت الحصار، ولجوء منظمي قوافل الحرية إلى أساليب عصرية سلمية لكسر الحصار، وتعبئة أحرار العالم بأسره للمشاركة في هذا العمل الإنساني المشروع. الرابع: تعاظم «القرف» الغربي من «البلطجة» الإسرائيلية، السياسية منها والعسكرية، ووصولهم إلى قناعة بأن هذه البلطجة باتت تشكل خطرا مباشرا على مصالحهم وأمنهم وأرواح مواطنيهم. هذا الإنجاز الكبير الذي لم يكن أي دور للأنظمة الرسمية العربية في تحقيقه، من المفترض أن يستثمر بشكل جيد، ويتم البناء عليه، وإطالة أمد زخمه، وقوة دفعه، من خلال تحركات سياسية ودبلوماسية نشطة، ولكن هذا لم يحدث، ونقولها بمرارة شديدة، ونحن هنا نتحدث عن الجانب الرسمي وليس الشعبي العربي. قوافل كسر الحصار ستتواصل دون شك، وهناك خطط لكي تكون أكبر، وأكثر تحديا، للغطرسة الإسرائيلية. وعلينا أن نتذكر أن شهر رمضان المبارك، شهر التضحيات بات على الأبواب، وهناك الملايين من شباب العرب والمسلمين، يتطلعون إلى الشهادة في هذا الشهر الفضيل. ومن المفارقة أن مجموعة من اليهود المعادين للصهيونية وإسرائيل يستعدون حاليا لتنظيم قافلة سفن تضم ناشطين من مختلف المهن والمواقع، بعضهم فنانون وكتاب ومبدعون، تتوجه إلى قطاع غزة لكسر الحصار، وسيكون قبطان القافلة غلين سيكر، رئيس منظمة «العدالة للفلسطينيين» البريطانية، مثلما أفادت صحيفة «الجويش كرونيكل» اليهودية البريطانية. وسط هذا الزخم العالمي غير المسبوق الذي دفع المسؤولين الإسرائيليين وحلفاءهم إلى التواري في الغرف المظلمة وعدم الحديث مطلقا إلى الإعلام كعادتهم دائما، لأنهم باتوا عراة من أي منطق بعد ارتكابهم مجزرة لا يمكن الدفاع عنها وكانت بمثابة القطرة التي أحدثت الفيضان وأعادت إلى السطح كل المجازر السابقة، نقول وسط هذا الزخم، حدث تطوران رئيسيان لا بد من التوقف عندهما متأملين ما ينطويان عليه من معان تسلط الأضواء على حقيقة المأساة التي نعيشها كاملة حاليا، وتكشف أن البعض منا مصر على العيش خارج التاريخ: الأول: إعلان السيد محمود عباس، رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية، خلال لقاء جمعه مع 30 من قادة الجاليات اليهودية واللوبي الصهيوني (إيباك) في مركز دانيال أبرامز للسلام في الشرق الأوسط، حق اليهود في أرض فلسطين، حيث قال بالحرف الواحد: «أنا.. لا.. ولن.. أتجاهل حق الشعب اليهودي في العيش على أرض إسرائيل». الثاني: مطالبة السيدة هيلين توماس، الصحافية الأمريكية وعميدة المراسلين في البيت الأبيض اليهود في فلسطينالمحتلة، بالعودة إلى مواطنهم الأصلية في بولندا وألمانيا والولايات المتحدة وباقي البلدان التي كانوا يعيشون فيها. لا نعتقد أن حكومة بنيامين نتنياهو ستثمّن موقف الرئيس عباس غير المسبوق هذا وستقدم إليه القدسالمحتلة هدية على طبق من فضة، ومن غير المتوقع أن تكافئه بوقف الاستيطان وهدم السور العازل، وإزالة ستمائة حاجز في الضفة الغربية تشل حركة ثلاثة ملايين فلسطيني. لا نعرف ما إذا كان السيد عباس قد ذكر في الجلسة نفسها حق ستة ملايين لاجئ فلسطيني في العيش على أرض فلسطين نفسها التي وصفها بكونها «إسرائيل»، ونعتقد أنه لم يذكر هؤلاء مطلقا، وإلا لأنهى مضيفوه اللقاء فورا. إقرار السيد عباس بحق «الشعب» اليهودي في العيش على أرض إسرائيل هو «اعتراف عملي» بإسرائيل كدولة يهودية، هكذا نفهمه، وهكذا قد يفسره الكثير من الفقهاء القانونيين الدوليين، ولذلك فإن رئيس السلطة مطالب بتوضيح لمثل هذه «الزلة» والمقصود منها، منعا لأي التباس أو تأويل. تابعت شخصيا جميع الردود التي وردت على موقع صحيفة «الواشنطن بوست» الأمريكية بشأن تصريحات السيدة توماس، وهي بالآلاف، ومن قبل قراء من مختلف المشارب والألوان السياسية والدينية، وفوجئت بأن الغالبية الساحقة منها متعاطفة معها وتؤيد ما قالته، وتؤكد أن العالم بات يشعر بالغثيان من تصرفات الإسرائيليين تجاه الفلسطينيين. وأحتفظ شخصيا بجميع هذه الردود لمن يريد الاطلاع عليها. ولذلك لم أفاجأ عندما أشار استطلاع للرأي أجرته الصحيفة نفسها، أي «الواشنطن بوست»، بين قرائها، إلى أن أغلبية هؤلاء يرفضون إخراج الصحافية المخضرمة (90 عاما) من البيت الأبيض بسبب تصريحاتها الأخيرة. فردا على سؤال الصحيفة «هل يجب إخراج هيلين توماس من غرفة الصحافة في البيت الأبيض؟»، أجاب 81 في المائة بلا، في حين صوت 18 في المائة فقط على إقصائها، وواحد في المائة قالوا أن لا رأي لهم في الموضوع. نتمنى أن يطلع الرئيس عباس على هذا الاستطلاع، وأن يقرأ مستشاروه ردود فعل القراء على أقوال هذه السيدة التي عايشت عشرة رؤساء أمريكيين ابتداء من جون كيندي وانتهاء بباراك حسين أوباما. لعلهم يفيقون جميعا من غفوتهم، ويدركون حقيقة أن العالم يتغير، بينما لا يزالون في مواقعهم التي تقوقعوا فيها منذ السبعينيات والنقاط العشر الشهيرة. أسلوب المواجهة مع الغطرسة الإسرائيلية يتطور ويأخذ أشكالا عديدة، فنحن الآن أمام تحالف ثلاثي جديد: تركي، إيراني، سوري مدعوم بمليار ونصف المليار مسلم، ونسبة كبيرة من الرأي العام العالمي، وصدور قرار عن مجلس الأمن الدولي بفرض عقوبات اقتصادية على إيران (عارضتها تركيا والبرازيل) قد يقرب الانفجار العسكري ولا يبعده، وقد تستغل إسرائيل هذا القرار لشن عدوان على إيران للخروج من عزلتها الحالية، فعندما دمرت المفاعل النووي العراقي عام 1981 لم تستشر أمريكا (أمريكا كانت تدعم العراق في حربه ضد إيران في حينها) وعندما قصفت مفاعل دير الزور المزعوم في شمال شرق سورية لم تأخذ الضوء الأخضر من واشنطن. المواجهة الأقرب التي سيخوضها هذا المثلث، وتركيا على وجه الخصوص، ستكون سياسية واختبارا حقيقيا للإدارة الأمريكية والعالم الغربي ونواياهم تجاه الحصار والبلطجة الإسرائيلية، ونعني بذلك تشكيل لجنة تحقيق دولية في مجزرة سفن الحرية، فالموقف الأمريكي من هذه اللجنة سيحدد أمورا كثيرة في المنطقة والعلاقات الدولية. نتوقع أن يكون موقف أردوغان من هذه اللجنة وأعمالها ونتائجها مختلفا كليا عن موقف السلطة الفلسطينية من تقرير لجنة غولدستون (قبل أن تتراجع عنه وتتبناه بسبب الغضب الفلسطيني والعربي)، فالدماء التركية الزكية التي سالت على سطح السفينة مرمرة لن تذهب سدى. وربما لو كانت هذه الدماء عربية لما سمعنا عن لجنة تحقيق وحتى لو جرى تشكيل لجنة لرضخ النظام الرسمي العربي لشروط أمريكا وإسرائيل، فالدم العربي أرخص من التراب بالنسبة إلى الزعماء العرب، نقولها وفي حلوقنا غصة. تركيا الآن تحتل كرسي القيادة عن جدارة واستحقاق، ولهذا تتعرض لحملات تشويه مشبوهة، ويتعرض زعيمها أردوغان لهجمة «اغتيال شخصية» من المعتدلين العرب تحت ذريعة استيلائه على أدوارهم، فإذا كان هؤلاء قد تخلوا عن أوراقهم فلماذا يعتبون أو يغضبون إذا أخذها الآخرون؟ نخشى أن نرى في الأشهر المقبلة مثلثا جديدا يواجه المثلث التركي الإيراني السوري، تكون إسرائيل أبرز أضلاعه، ويكون الضلعان الآخران عربيين، فصحف إسرائيلية قالت «خسرنا تركيا، ولكننا كسبنا مصر»، وأشادت بالتنسيق الأمني المتعاظم معها. ففي هذا الزمن الرديء كل شيء جائز.