- 1 - ما دامت بواعث القِيَم سامية في النفس البشرية، فقد كان المفترض فيها أن تكون مشتركة بين الناس. غير أن حواجز المجتمعات، ومن ثَمّ حواجز الثقافات، قد أفرزت التمايز بين أهل كل مجتمع وثقافة وأهل كلّ مجتمع وثقافة آخرين. بل لقد أفرز العزل الاجتماعيّ التمايز داخل المجتمع الواحد نفسه، كأن تكون هناك قيمةٌ مرتبطة بالذكور دون الإناث، أو العكس. فهل القيمة مرتبطة بجنسٍ دون آخر؟ الأصل أن لا يكون ذلك كذلك. لكن الواقع يدلّ على هذا التمايز بين مجتمع الرجال ومجتمع الإناث. إن قيمة كالشجاعة مثلاً ترتبط في المجتمع العربي بالرجل وحده؛ حتى إن "موسوعة القيم ومكارم الأخلاق العربية والإسلامية"(2) لتدلّ على ذلك بقولها: "الشجاعة التي تعبّر عن قيمة يجلّها أفراد المجتمع كبيرهم وصغيرهم، تطفو على سطح الذاكرة عند كل موقفٍ (رجوليٍّ)، يقتضي (شهامة ورجولة)." وكأن الشجاعة قيمة لا تكون إلاّ في الرجال، مع أنها تكون في النساء كذلك؛ من حيث هي خصلة نفسيّة، وذلك ما أثبتته المرأة اللبنانيّة، على سبيل المثال، خلال الحرب الأهلية في لبنان(3)، كما أثبتته المرأة عبر شواهد التاريخ. إلاّ أن العُرف الاجتماعيّ يجعل نموذجيّة الشجاعة هاهنا مرتبطة بالذكورة وحدها. ويشهد على هذا النزوع التصنيفيّ للقِيَم كذلك المجلّدُ (الثلاثون) الخاص بقيمة الشجاعة من تلك الموسوعة؛ حيث تنقل اقتران الشجاعة بالرجل عند العرب. حتى إن هذه الصفة لا توصف بها المرأة، حسب ما يزعم (ابن فارس)(4) عن (أبي زيد). "قال أبو زيد: سمعت الكلابيّين يقولون رجلٌ شجاع، ولا توصف به المرأة."(5) وتوشك هذه الصفة حين تقترن بالمرأة في لسان العرب أن تشير إلى قيمة سلبيّة من قلّة الأدب (مع الرجال)؛ "فالشجعة من النساء الجريئة على الرجال في كلامها وسلاطتها."(6) فهل ذلك لطبيعة المرأة فقط، كما حاولت "موسوعة القِيَم"(7) أن تلتمس التوفيق بين نفي الشجاعة عن المرأة واتّصاف بعض النساء بها؟ أم أن الأمر يتعدّى ذلك إلى قيمة الذكورة والأنوثة في المجتمع العربيّ أصلاً، والميل إلى عزل المرأة عن مواجهة الحياة، بحُجّةٍ ظاهرها ضعف المرأة وباطنها قِيَم ذكوريّة أخرى، وصلتْ في بعض مستوياتها في المجتمع الجاهليّ إلى وأْد البنات، وفي عصورنا المتأخّرة إلى وأْد المرأة اجتماعيًّا وثقافيًّا ومعنويًّا؟ هذا لأن من "دواعي الشجاعة وأسبابها دفع الظلم والذلّ [كذا وَرَدَ في الموسوعة، والصواب: "الذَّبّ"] عن النفس، وطلب العزّ والمجد"(8)، وليس للمرأة نصيبٌ من ذلك، إن لم يكن نصيبها بعكسه. - 2 - ويمكن أن يقال نقيض هذا عن قيمة أخرى أكثر ارتباطاً بالمرأة، هي قيمة "الحياء". حتى كانت الفتاة مضرب المثل في الحياء؛ فجاء في أمثال العرب: "أحيَا من بِكْر"، و"أحيَا من فتاة"، و"أحيَا من كَعاب"، و"أحيَا من مخدّرة"، و"أحيَا من هَدْيٍ"، و"أحيَا من مُخَبَّأة"(9). وتقول المرأة نفسها في امتداح الحياء في الرجل، وإن كان أصله في المرأة، حسب الشاعرة (الخنساء)(10): وأحيَا من مخبّأةٍ كَعابٍ وأشجع من أبي شِبلٍ هِزَبْرِ كما تقول (ليلى الأخيليّة)(11) عن حبيبها (توبة بن الحُمَيِّر): وتوبةُ أحيا من فتاةٍ حَيِيَّةٍ وأجرأُ من لَيْثٍ بِخُفَّانَ خادِرِ وهذا ما تشير إليه "موسوعة القِيَم"(12) حينما تقول عن الحياء: "وأجمل ما يكون في النساء، وذلك حين تنكسر أنظارُهنّ وتتمارض لواحظهنّ"، مستشهدة بشِعرٍ للفرزدق. لأنه "كما أن الحياء يستر صاحبه كما يستره اللباس، فإنه كذلك يقيه قالة الناس، ويمنع عِرضه من آفات ألسنتهم وقذفه بالحق أو بالباطل، وهو بالنساء أجمل وألصق، يقول (النابغة الجعديّ) في مدح نساء بني تميم: ومثل الدُّمَى، شُمُّ العرانينِ سَاكِنٌ بهنَّ الحَيَاءُ لا يُشِعْنَ التَّقافِيَا"(13) ولذلك قد تدَّعي المرأة عدم الحياء والعفاف- كما تذكر "الموسوعة"(14)- لتُذيق الرجل طعم الغيرة، مثلما فعلتْ (هند الهمدانيّة)(15)، في رسالتها إلى زوجها، الذي تركها وذهب غازياً. وعلى كلّ حال، فكثيرًا ما يبدو أن القلم- ذا القِيَم الذكورية- يتدخّل لنفي البشريّة عن المرأة أو مساواتها مع الرجل في السلوك، إيجابيًّا أو سلبيًّا. في مقابل ذلك جاء عن حياء الرجال في أمثال المولّدين، حسب (الميدانيّ)(16): "حياء الرجل في غير موضعه ضَعْف"، و"الحياء يمنع الرِّزْق". فكما أن الشجاعة كانت قيمة ذكوريّة، نموذجها الأعلى الرجل، فإن الحياء ظلّ قيمة أنوثيّة، نموذجها الأعلى المرأة. ولم يصبح الحياء قيمة أخلاقيّة للرجال إلاّ في الإسلام، حينما صار شُعبةً من شُعَب الإيمان، فجاء في الأحاديث الشريفة مثلاً: "الحياء من الإيمان"، و"الحياء خيرٌ كلّه"، و"إن لكلّ دِينٍ خُلُقاً، وإنّ خُلُق الإسلام الحياء"، و"إن فيك خصلتين يُحِبّهما الله، الحِلْم والحَياء"، و"كان النبيّ أشدّ حياءً من العذراء في خِدْرها"، و"إن الله حَيِيٌّ ستيرٌ يحبُّ الحياء"(17)، وغيرها من الأحاديث. على أن قيمة كهذه هي قيمة مواربة، قابلة لأن يُنظر إليها بأهواء مختلفة، حتى إن المجتمع العربيّ قد يتصرّف فيها ليجعل ما خالف العادات والتقاليد أمرًا ينبغي أن يُسْتَحَى منه، وإن وافق قِيَم الحقّ والخير والعقل والجمال، وذلك كحياء الناس في معظم المجتمعات العربيّة من ممارسة بعض الحِرَف والأعمال الشريفة، لا لشيء سوى أنها تتعارض مع بعض العادات والتقاليد الموروثة. ولهذا كانت المعضلة متمثّلة في تربية الشعوب التي تتذرّع بقيمة الحياء في غير موضعها، فجاءت عبارات قرآنية توجيهية كقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ﴾ (الأحزاب، 53). وأٌقوال مأثورة في أنْ "لا حياء في الدِّين ولا حياء في العِلْم"، كقول (مجاهد): "لا يتعلّم العِلْمَ مُسْتَحْيٍ ولا مُسْتَكْبِر"، أو قول (عائشة) في فضل تعلّم المرأة- وكان العِلم معيبًا في حقّ المرأة لدى العرب، أو مخشيًّا منه عليها، فضلاً عن حياء المرأة من بعض مسائله-: "نِعْم النساء نساء الأنصار، لم يمنعهنّ الحياء أن يتفقَّهْن في الدِّين."(18) وتلك قيمنا، الجديرة دومًا بالمراجعة والنقد، لما يعتورها من تلبيسٍ ثقافيّ، لأغراض مختلفة ومصالح متعدّدة، ولما يُفترض أن تكون عليه من تطوّر، من حيث هي صنيعة الحياة ووليدة المجتمع، لا قوالب أبدية جامدة، صالحة بالضرورة لكل زمان ومكان.(19) وكلّ إشكاليّاتنا الثقافيّة هي بسبب ذلك التلبيس، وعدم الجرأة على المراجعة والنقد. (1) هذه محاضرة ألقيتُها في قسم اللغة العربية وآدابها، كلية التربية- الأقسام الأدبيّة، جامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن، بالرياض، تحت عنوان "مكانة المرأة في الخطاب الأدبي العربي"، صباح الثلاثاء 25 ربيع الآخر 1430ه= 21 أبريل 2009م. (2) (2000)، (الرياض: دار رواح)، 1: 57. (3) انظر: كلاّب، إلهام، (1994)، "نسق القِيَم في لبنان"، مجلة المستقبل العربي، (مركز دراسات الوحدة العربية)، ع183، ص101. (4) انظر: (1952)، معجم مقاييس اللغة، تح. عبد السلام هارون (القاهرة: دار إحياء الكتب)، 3: 247 (شجع). (5) ابن منظور، لسان العرب المحيط، (شجع). (6) م.ن. (7) 30: 8. (8) 30: 33. (9) الزمخشري، (1987)، المستقصى في أمثال العرب، (بيروت: دار الكتب العلمية)، 1: 90- 91. (10) (د.ت)، شرح ديوان الخنساء، (بيروت: دار مكتبة الحياة)، 48. (11) (1967)، ديوان ليلى الأخيليّة، تح. خليل إبراهيم العطية وجليل العطية (بغداد: دار الجمهورية)، 80: 20. (12) 25: 8. (13) موسوعة القِيَم، 25: 23. (14) انظر: 25: 71- 72. (15) انظر: يموت، بشير، (1998 )، شاعرات العرب في الجاهليّة والإسلام، تح. عبد القادر محمد مايو (حلب: دار القلم العرب)، 232- 233. (16) (1955)، مجمع الأمثال، تح. محمّد محيي الدين عبد الحميد (مصر: مطبعة السنّة المحمّديّة)، 1: 230. (17) انظر: وِنْسِنْكْ، أ. ي. (ولفيف من المستشرقين)، (1986)، المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي عن الكتب الستة وعن مسند الدارمي وموطأ مالك ومسند أحمد بن حنبل، (استانبول: دار الدعوة)، 1: 542- 543 (حياء). (18) البخاري، (1981)، صحيح البخاري، ضبط وتعليق: مصطفى ديب البُغا (دمشق- بيروت: دار القلم) 1: 60 (باب الحياء في العلم). (19) انظر في هذا كتابنا: نقد القِيَم- مقارباتٌ تخطيطيّة لمنهاج علميّ جديد، (بيروت: مؤسسة الانتشار العربيّ، 2005).