في ظل الحراك السياسي الذي تشهده البلاد، وجه عدد من شيوخ ودعاة السلفية نقدًا لاذعًا إلى الداعين للتغيير والإصلاح في مصر، وعلى رأسهم زعيم "الجمعية الوطنية للتغيير" د.محمد البرادعي، باعتبار شعاراتهم ودعواتهم السياسية مفرغة من الإسلام و"لا دين فيها"، وهو ما فتح عليهم أبوابًا من الاتهام من قبل قوى وقطاعات عديدة، رأت في هجومهم وتوقيته دعمًا لاستمرار النظام وسياساته التى تلقى معارضة شديدة لدى الشعب، في مقابل تغاضي الحكومة عن نشاطاتهم. ومما ساهم في حدة الهجوم الذي لقيه السلفيون على موقفهم، التأييد الواسع الذي بات يحظى به دعاة التغيير لدى الرأي العام، باعتبارهم مناهضين للحكم الحالي، مع ما يُعلق عليهم من آمال لتغييره إذا ما حالفهم النجاح.. وهو ما أثار المخاوف من موقف التيار السلفي حيالهم، كونه أحد أكبر القوى الإسلامية التي تمتلك ناصية الخطاب الديني، ولها قبول واسع في الشارع. كما رأى البعض في الموقف السلفي من الإصلاحيين مفارقة في ظل اتهام السلفيين بالقعود عن المشاركة السياسية وعزوفهم عن الشأن العام. مآخذ السلفيين على الإصلاحيين ففي إطار انتقاداتهم، رفض السلفيون المطالبة بالتغيير من أجل التغيير، داعين إلى وضع ضوابط شرعية لهذه العملية، كما نحوا باللائمة على دعاة التغيير كونهم لا ينطلقون من منطلقات إسلامية، حتى الإسلاميين منهم كجماعة الإخوان، إذ رأوا في المثار حاليا على الساحة "دعوات ليس لله فيها نصيب" بعدما أكد معظم الساسة المتصدرين للمشهد الحالي أن الديمقراطية الغربية بكل نظمها هي وسيلتهم الوحيدة في إصلاح الأوضاع الحالية وتغييرها، في حين يرى السلفيون أن لا إصلاح ولا صلاح بغير تحكيم شرع الله. وفي شأن المدير السابق لوكالة الطاقة الذرية، د.محمد البرادعي، نفى السلفيون تعمدهم نقد شخص بعينه، فالقضية ليست مسألة أشخاص "بقدر ما هي قضايا لا بد أن تأخذ بتجرد"، لكنهم في الوقت نفسه يرون عدم المجازفة أو الرهان على أطروحات غير منضبطة بموازين الإسلام، حتى وإن نجحت في التخلص من النظام الحالي، ف"كلّهم متفاوتون في السوء طالما لم يرفعوا الإسلام منهج حياة"، كما يقول الشيخ سعيد عبدالعظيم في محاضرة له، مضيفًا "لا أقبل أن أنتقل من سيء لأسوء". جاء هجوم السلفيين على محمد البرادعي انطلاقا من بعض مواقفه التي اصطدمت برؤيتهم الإسلامية للإصلاح، كاستعداده لإجراء نقاش حول المادة الثانية من الدستور المصري التي تنص على أن "الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع"، وتصريحه بأن دولة المؤسسات ليس لها دين، وزيارته الكنيسة لحضوره قداسا هناك، ودعم أقباط المهجر له، وامتداحه نصر حامد أبوزيد الذي فرق القضاء بينه وبين زوجته، ما يؤكد على علمانية خطاب الرجل وعدم مراعاته موقف الشرع الإسلامي مما يطرحه.. فضلا عما يتردد حول دعمه أمريكيًا، وعلاقته الوثيقة بالدوائر الغربية بسبب منصبه الدولي، الذي شغله لسنوات، ما يجعله في النهاية وجه آخر للنظام العلماني الحالي، بكل مساوئه، من ازدراء القضايا الشرعية، والارتماء في أحضان الغرب، وارتباطه بقوى معادية للدين. ولعله يبدو للمتابع أن الموقف السلفي من البرادعي متسق تمامًا مع منهجهم الفكري والعقائدي، بغض النظر عن رضى الحكومة عنه أو عدم رضاها. هل السلفيون يدعمون النظام الحاكم؟ فإذا كان هذا موقفهم من التغيير ودعاته، فهل السلفيون مؤيدون لاستمرار النظام الحالي؟ يدرك أي مطلع على طبيعة العلاقة بين النظام السياسي والسلفيين في مصر استحالة قيام أي حوار بين الطرفين، أو حتى الجلوس للتفاوض حول مصالح مشتركة، وذلك لتناقض المشروعين جملة وتفصيلا، فنظام الرئيس مبارك علماني مناهض للأطروحات الدينية والداعين لها على حد سواء، في حين يدعو السلفييون إلى أن يكون الإسلام حاضرًا في كل كبيرة وصغيرة من شؤون الحياة، سياسية كانت أو اقتصادية واجتماعية وعسكرية.. إلخ. فضلا عن النهج الاقصائي الذي اتبعه مبارك في مواجهة القوى الموجودة على الساحة، خاصة الإسلاميين، الذين تعامل معهم بمنطق استعلائي، باعتباره يملك من القوة ما يضطرهم إلى الرضوخ لإملاءاته، شاءوا أو أبوا، فمنذ مجيئه إلى السلطة أحال الرجل ملف الإسلاميين كاملا إلى الدوائر الأمنية، التي اتبعت بدورها نهج الضربات الموجعة، وسياسة تجفيف المنابع. وعلى مدار ثلاث عقود كان السلفيون من أوائل من طالتهم سياسة القبضة الحديدية، بلا هوادة، على الرغم من أنهم لم يشاركوا في أي من عمليات العنف، ولم تثبت ضدهم ولو حادثة واحدة، كما لم ينخرطوا في العمل السياسي كي يرى فيهم النظام تهديدًا سياسيًا لبقائه، إلا أن الاعتقالات، والمداهمات الليلية، والاستجوبات، والمنع من الخطابة ووقف أنشطتهم الدعوية ظلت بهم بالمرصاد، وإن لم يصل الإعلام منها إلا النادر، نظرًا لحرصهم على إبقاء مساحة بينهم وبين الانخراط في العمل الإعلامي والسياسي. وبينما لا يتوقف السلفيون عن انكارهم الأمراض الأخلاقية التي انتشرت في المجتمع، جراء الإعلام الرسمي، وما يبثه من ميوعة وانحلال أخلاقي، إلى جانب حديثهم عن المخالفات الشرعية كالربا والرشوة والفساد، ودعوتهم إلى حجاب المرأة وعدم خروجها من البيت إلا بضوابط ، شن النظام الحاكم حملة تشويه إعلامية لأطروحاتهم ورؤاهم، دامت لعقود، تحالف خلالها مع القوى المناهضة لهم كاليسار والعلمانيين، وقد تزامنت مع الضربات الأمنية التي وجهها لكل من "الجماعة الإسلامية" و"الجهاد" الذين دخلا في صرع مسلح مع أركان الدولة. ما يؤكد على أن نظرية المصالح المشتركة بين النظام والسلفيين حول الموقف من البرادعي أو غيره من دعاة التغيير مستبعدة تماما، لعدم وجود سوابق لها على الأقل، فضلا عن المنهج الاستعلائي الذي يتبناه النظام، كما أن السلطة الحالية لم تعتد التفاوض مع الإسلاميين في أي إطار، باستثناء من أطلق سراحهم من معتقلي الجماعة الإسلامية والجهاد، بعدما أعلنوا مبادرتهم لوقف العنف، وحتى الآن ليس هناك دليل على مكاسب دعوية حصلها السلفيون من الحكومة مقابل هجومهم على البرادعي، على ما ذهبت إليه بعض التفسيرات. أما بالنسبة للمساحة التي بات السلفيون يشغلونها في الفضائيات، فهي حالة "وعظية" تحت السيطرة الكاملة، لا يمكن أن تشكل أدنى تهديد للنظام، ولو علم أنها تشكل تهديدا لسارع إلى وقفها، كما أنها ليست وليدة ظاهرة التغيير أو بروز البرادعي، وليس مصادفة أن أشهر شيوخ السلفية الذين يظهرون على هذه القنوات هم من الممنوعين من إلقاء المحاضرات والندوات والخطب في المساجد، فالمساجد يصعب التحكم فيما يقال على منابرها أو في حلقاتها على عكس القنوات التليفزيونية. الرؤية السلفية للإصلاح وللسلفيين رؤية إسلامية خالصة للإصلاح، تتمثل في كونهم يرون أن لا صلاح ولا إصلاح إلا بالعودة إلى منهج الله، وتحكيم شريعته بين الناس، وذلك لا يتحقق إلا بالعمل على إقامة دولة إسلامية يكون كل من الحاكم والمحكوم فيها خاضعاً للتشريع الإلهي، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، كما يرون أن من يدعو إلى الإصلاح ينبغي أن يكون صالحًا في نفسه، وإلا كان هو أحوج إلى من يصلحه قبل أن يصلح غيره "فنحن محتاجون لأن نصلح ما بيننا وبين خالقنا كما تقول مبادرتهم للإصلاح حتى يصلح عاجلتنا وآجلتنا"، لأن ما عند الله من خير وبركة ونصر وسعة رزق لا نناله إلا بطاعته. وتجعل الدعوة السلفية من المجتمع أولويتها في الإصلاح، فإصلاح الناس يأتي أولاً، إلا أنه لا ينبغي أن يفهم من ذلك أنهم يقفون عقبة أمام وصول الحاكم الصالح إلى كرسي السلطة، ولكنهم يرون أن مجموع أفراد المجتمع حينما يتحقق فيهم الصلاح فإنه حتما سيخرج من بينهم صالح يحكمهم، وهو ما لا يتحقق إلا بنشر العلم، ومبادئ الإسلام وأحكامه بين قطاعات الأمة، وتصحيح مفاهيم الناس ومعتقداتهم، الذي من شأنه إيجاد الفرد المؤمن، والأسرة المؤمنة، التي حتما ستوجد المجتمع المؤمن. ويجعل السلفيون لكل فرد في المجتمع دورا في الإصلاح، يقع عليه بذاته، كما تنص الآية: {كل امرئ بما كسب رهين} ينبغي أن يؤديه حتى لو تقاعدت عنه البشرية كلها، فأنت "مصلح ولو كنت وحدك"، والوسائل تكون على قدر المستطاع والمتاح أمام الإنسان، فيكفيه أن يفعل ما في وسعه وطاقته، ولو لم يكن إلا دعاء صالح "لا يطلع عليه البشر"، فيدعو لهذه الأمة للبلاد وللعباد بصلاح الحال في العاجل والآجل. وللإيمان بقضايا الغيب الكبرى: كذكر الموت، وعذاب الآخرة، فضلا عن تفويض الأمر كله لله والتوكل عليه في الرزق دور هام في عملية الإصلاح، "لأن الإنسان إذا تفكر في الرحيل عن الدنيا"، هذه الحقيقة الرادعة "فإنه لن يسرق أو يرتشي"، بل سيحسن المسير إلى الله ويتوب حاكما كان أو محكوما. فإذا سأل سائل "كيف يتحقق لهؤلاء التمكين؟"، يجيب السلفيون بالقول: "نحن لا نوجب على الله أمراً معيناً نعتقد حتميته ولزومه، بل قد قص الله علينا من قصص أنبيائه ورسله من آمن قومه كلهم بدعوته بالحكمة والبيان قال سبحانه وتعالي: (فأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا فمتعناهم إلى حين)، فالتمكين منة من الله ووعد غايته تحقيق العبودية لله، والأخذ بالأسباب المقدورة لنا واجب علينا، والنصر من عند الله، لا بالأسباب، قال الله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم فى الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذى ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدوننى لايشركون بى شيئاً)، وقال سبحانه: (ولقد كتبنا فى الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادى الصالحون).