أدرك قادة ورواد المشروع الصهيوني مبكراً، منذ الأيام الأولى لتأسيس كيانهم على أرض فلسطين، الحاجة الماسة لضمان مستقبل مشروعهم، وأمن دولتهم، إلى أداة عسكرية قوية، قادرة على بث الرعب، وتحقيق الإرهاب، ومنع العرب ودول الجوار من الاعتداء عليها، وتثبيت وجودها، وتشريع كيانها، وأنها في حاجةٍ أكبر إلى مجال إضافي يمنع التهديد العربي المستمر، ويردعهم عن التفكير في تدمير وزوال دولتهم الصغيرة النامية، وإعادتهم إلى الشتات من جديد، فالذاكرة الإسرائيلية واليهودية مازالت قريبة، تحمل ذكريات المذابح والمجازر الأليمة التي تعرض لها اليهود في أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية، فكان هذا دافعاً حقيقياً للمسؤولين الإسرائيليين، كما هو دافعٌ كبير لعامة اليهود الهاربين والفارين من جحيم أوروبا، لرسم خطط إستراتيجية مستقبلية بعيدة المدى، تحقق الأمن لشعبهم، والبقاء لدولتهم، وتؤمن لهم الصمود والثبات أمام المتغيرات الآنية والمستقبلية، فكان رواد المشروع الصهيوني من اليهود والأوروبيين معاً، يدركون منذ اليوم الأول لاغتصابهم فلسطين، وطردهم لسكانها العرب منها، طبيعة وأبعاد مشروعهم الصهيوني التوسعي الاستيطاني الإحلالي، سواء في فلسطين عبر تهويدها وطرد وتغييب شعبها، وتحقيق أحلامهم بإقامة دولةٍ لهم على أرض فلسطين كلها، أو لأداء الدور الوظيفي المنتظر منهم والمنوط بهم في المنطقة، فهذا يتطلب قوةً وقدرة عسكرية فائقة، قادرة على تحقيق هذه الأهداف، ومواجهة التحديات التي قد تعترض مسيرتهم. ولتحقيق هذا الهدف، وتثبيت أركان الكيان الصهيوني في فلسطين، وإرهاب العرب وترويع السكان تمهيداً لطردهم والحلول مكانهم، كان هناك ضرورة ملحة لممارسة المزيد من العنف والإرهاب قبل وخلال تأسيس الدولة العبرية، وهذا العنف لا يتحقق بغير القوة المفرطة، التي لا يمكن أن تنافس، أو أن يوضع لخطورتها وفاعليتها حد، فلهذا رأى قادة المشروع الصهيوني الأوائل أهمية أن تستمر الأداة العسكرية في أيديهم قوية ومرعبة، بحيث تكون قادرة على بسط نفوذهم، وتنفيذ مخططاتهم، والحفاظ على واقعية أحلامهم، وقد كان فريق من القادة الصهاينة، يرون ضرورة أن تمتلك دولتهم القدرة العسكرية الفائقة بعيداً عن الدعم والإسناد الدولي لها، ودون الحاجة إلى الإعتماد على النصير الدولي، رغم أنه كان متحققاً بقوة في تلك الفترة، ولكنهم أرادوا تحصين كيانهم من داخله بغض النظر عن مدى الحماية الدولية لهم ولمستقبلهم، ودون الركون إلى الضمانات الدولية المعطاة لهم، معتقدين أن استقلالهم هو في بقاء القدرة العسكرية بأيديهم، فهي التي تحميهم من أي محاولةٍ دولية لاحتوائهم، أو لفرض الشرعية الدولية عليهم، إذ كانوا يخشون على أنفسهم من المتغيرات الدولية، ومن اختلال موازين القوى، وأفول شمس بعض القوى الداعمة لها، وصعود قوى أخرى قد لا تكون منسجمة مع مشروعها في المنطقة. كما أدرك القادة الصهاينة أن السلاح التقليدي مهما بلغ، فإنه لن يشكل رادعاً لدول المنطقة، ذات الأغلبية العربية والمسلمة، والتي ترفض الاستسلام لواقع ضياع فلسطين، وتسعى لاستعادة الأرض، وطرد اليهود، وترفض الاعتراف بدولة "إسرائيل" في المنطقة، خاصةً أن الأفكار القومية كانت تسود المنطقة، وتنمو فيها المشاعر الرافضة لوجود دولة إسرائيل، فرأوا أن السلاح التقليدي لن يتمكن من فرض كيانهم، وجلب الاعتراف العربي والدولي به، كما لن يتمكن من تحقيق الرعب المطلوب، وبث الإرهاب اللازم لتحقيق الأهداف وبسط النفوذ، لذا فلا بد من وجود سلاح آخر غير السلاح التقليدي، ليحقق لهم التفوق النوعي، والردع القاطع، والقدرة على فرض وتنفيذ مخططاتهم، ولهذا سعت دولة إسرائيل إلى امتلاك أسلحة نووية وبيولوجية، وإلى زيادة ترسانة أسلحتها التقليدية، بأسلحةٍ رادعة من أسلحة الدمار الشامل، وقصدت بسياستها الداعية إلى امتلاك أسلحة دمارٍ شامل إلى إرهاب دول الجوار، فألقت في روعها أنها تمتلك أسلحةً رادعة، وأنها أصبحت بمنأى عن الخطر العربي، وأن أي حربٍ قادمة سيكون الخاسر فيها هو الفريق العربي، ولهذا فلا داعي للعرب لأن يفكروا في شن حربٍ ضد إسرائيل، بل على العكس من ذلك على العرب أن يتجهوا نحو خيار السلام معها، وأن يعترفوا بها واقعاً، لأن أي حربٍ قادمة لن تكون في صالح العرب، كما أنها لن تؤدي إلى تدمير دولة إسرائيل، ولن تفرض عليهم إعادة الحقوق العربية والفلسطينية إلى أصحابها، وقد سعت إسرائيل إلى تكريس هذا الفهم وتعميمه على الحكومات العربية، بعد أن تأكدت أنها باتت تمتلك السلاح النووي الرادع، وأن أحداً غيرها من دول المنطقة لا يملك هذا السلاح، وليس من المتوقع أن يمتلكه في المستقبل المنظور، وبذا تستطيع إسرائيل أن تتفرغ لتنفيذ أهدافها الأخرى. أما على الجانب الشعبي، فقد أرادت إسرائيل لشعبها أن يشعر بالثقة والأمان في ظل دولتهم، وأن يطمأن إلى أن شتاتاً آخر لا ينتظرهم، ومذابح أخرى لن تكون مصيرهم، وأن جيشهم قوي وقادر على حمايتهم، دون الحاجة إلى دعم أحد، وأن الدول العربية مهما تسلحت وامتلكت من وسائل قتالية، فإن ما لدى الجيش الإسرائيلي كافي لسحقهم جميعاً، وإعادتهم إلى الوراء مئات السنوات، وأراد قادة المشروع الصهيوني أن يدفعوا شعبهم إلى الالتفات للعمل في الأرض، والتفرغ لتكريس الوجود، وعدم الخوف من تردي الأوضاع، أو زعزعة الظروف، وقد أوحت إلى كبار المستثمرين اليهود في كل أنحاء العالم، أن الاستثمار في "إسرائيل" آمن، وأن حرباً قادمة لن تدمر مشاريعهم، ولن تقضي على أحلامهم، ولن تفقدهم رؤوس أموالهم. وعلى الجانب الشعبي العربي، فقد أرادت إسرائيل أن ترغم الحكومات العربية على لجم ومنع أعمال المقاومة ضد إسرائيل، بحجة أنها مقاومة غير مجدية، وأنها تعود بالضرر على أمن ومستقبل وسلامة الدول والحكومات العربية، ولهذا عليها أن تحارب المجموعات المقاومة، وأن تضع حداً لأنشطتها العسكرية، وأن ترغمها على القبول والرضوخ للإرادة الصهيونية، طالما أن ما تملكه إسرائيل من أسلحة كافٍ لحمايتها، وقادر على رد أي إعتداءٍ عليها، فما على قوى المقاومة إلا القبول بواقع دولة إسرائيل، والتعامل معها، والاعتراف بشرعية وجودها، وإلا فإن حكومات الدول العربية ستضطر إلى سحق المقاومة والقضاء عليها، ومنعها من القيام بأي شكلٍ من اشكال المقاومة، وذلك حرصاً منها على بقاء دولها وحكوماتها ومستقبل ممالكها وإماراتها. ولكن الحقيقة أن سعي القادة الصهاينة لامتلاك أسلحة الدمار الشامل، لا يقع في إطار الحرب الدفاعية، أو الحرب الوقائية، بقدر ما يصب امتلاكها للقدرات العسكرية غير التقليدية في صلب استراتيجيتها ومشروعها التوسعي، الذي هو تعبير جلي عن الطبيعة العدوانية التوسعية للأفكار الصهيونية، خاصةً وأن المنطقة العربية إثر تأسيس دولة الكيان، كانت خالية تماماً من أي أسلحة تقليدية، قد تشكل خطراً على مستقبل وأمن دولة إسرائيل، ومازالت المنطقة العربية كلها تخلو من الأسلحة النووية، فإسرائيل عندما بدأت في بناء مفاعل ديمونا النووي، بمساعدةٍ فرنسية في منتصف الخمسينيات من القرن العشرين، قد انطلقت من فرضية أساسية تقول بأن امتلاك السلاح النووي يمنع العرب من التفكير في القضاء عليها، حتى ولو هزمت في معركة تقليدية، ولكن في السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين، أصبح هدفها من وراء امتلاك السلاح النووي إلى تحقيق مسألتين أساسيتين، الأولى دفع العرب إلى الاقتناع بأن إسرائيل قوة نووية كبيرة، فلا يمكن هزيمتها، أما المسألة الثانية التي هدفت إسرائيل إلى تحقيقها من وراء امتلاكها للسلاح النووي، فهي إرغام الخصم وهم العرب على القبول بالحل السلمي للصراع العربي – الإسرائيلي، وفق الشروط والمصالح الإسرائيلية، والاعتراف بأن المفاوضات هي السبيل الوحيد لحل الصراع، ولهذا لا بد من التسليم بوجودها ، والاعتراف بشرعيتها، فقد كان بن غوريون يرى في القنبلة النووية الإسرائيلية، المفتاح الاستراتيجي لبقاء الدولة العبرية على قيد الحياة في فلسطين، وفرض هيمنتها على منطقة الشرق الأوسط، ولكن شرط خلو المنطقة كلها من سلاحٍ نووي غيرها، فلا ينبغي أن يتسلح أهل المنطقة الأصليين بالسلاح النووي، كما يجب عليهم ألا يفكروا في امتلاك هذا النوع من السلاح، لأنه ببساطةٍ شديدة يهدد أمنهم، ويعرض مستقبل دولتهم للزوال، ويحرمهم من تحقيق أهدافهم في القوة والتفوق والتميز، ولهذا يجب حرمان الدول العربية من هذه القدرة، والحيلولة دون تمكينها من امتلاك هذا السلاح، كما يجب تجريد إيران من سلاحها النووي، ووضع حدٍ لطموحاتها النووية، كما تمكنت إسرائيل من إجهاض قدرات العراق النووية في سنيه بحثه الأولى، وقضت على مفاعله النووي الأول، كما يجب على المجتمع الدولي أن يتفهم حاجات إسرائيل في إرهاب دول المنطقة، وفي تجريدها من السلاح، وحرمانها من أسباب القوة والعزة، فقط لتبقى إسرائيل وحدها، بظلمها وبغيها وإعتداءاتها. يتبع ... دمشق في 8/5/2010