يعتبر المسجد معلمة بارزة في تاريخ ومكونات الحضارة الإسلامية، شهدت عدة تغيرات وتحولات، وأسهمت أيضا في عدة تغيرات وإصلاحات، واختلفت جوانب بروزها؛ منذ أول نشأتها ومرورا بمراحل مختلفة الظروف من التاريخ الشاهد على نشاط وتفاعل هذه المؤسسة، وبناء عليه؛ يحاول هذا المقال تسليط الضوء على مرحلة تاريخية محددة ترتبط بتاريخ المغرب وبتاريخ الأسرة الحاكمة فيه، من أجل قياس وتقييم حجم المشاركة التفاعلية لهذه المؤسسة بين الامس والحاضر، وقد تمركزت بؤرة البحث حول المرحلة العلوية وما سبقها من دول قريبة؛ وذلك لرصد أهم ما ميز المسجد في هذه المرحلة، وهل يمكن اعتبار ذلك بمثابة مرحلة تأسيس لبنة مسجد أكمل مسيرة انخراطه المجتمعي فيما بعد؟ ولمحاولة مقاربة هذا الإشكال وقع الاختيار على المنهج الوصفي لكونه الأنسب في طبيعة هذا الموضوع وما يصبو إليه، كما أن المصادر والمقالات التاريخية شكلت منهلا أصيلا للمادة التي استندت عليه المكونات المعرفية لهذه المقال، ويقع تصميمه في عنصرين أساسين؛ وهما: المسجد التفاعلي في المغرب خلال العهد ما قبل العلوي-المسجد التفاعلي خلال العهد العلوي. العنصر الأول: المسجد التفاعلي في المغرب خلال العهد ما قبل العلوي. إن الحديث عن ملامح المسجد المغربي ورصد أهم مميزاته في هذا المرحلة التاريخية هو جزء من الحديث عن نشأة هذه المؤسسة بمنطقة الغرب الإسلامي عموما، حيث مع دخول الفاتحين العرب المسلمين إلى شمال إفريقيا؛ اعتنق المغاربة الإسلام وعمدوا إلى تحويل كل أماكن العبادات على غير طريقة هذا الدين من نصرانية ووثنية إلى مساجد، ووضعوا لها محاريب في اتجاه القبلة، وكان أول مسجد أسّسه المغاربة بعد دخول الإسلام هو مسجد أغمات غيلانة سنة 85ه، حيث يذكر المؤرخون أنه أقدم مساجد المغرب وأول مسجد بناه المسلمون بالمغرب . وعرفت الأماكن المفتوحة تأسيس عدد مهم من المساجد، وذلك من أجل ترسيخ تعاليم الدين الجديد، والإسهام في تعليم السكان مبادئ هذا الدين، واعتُبرت هذه المساجد أماكن توجيه وإرشاد للفاتحين ، فعندما دخل عقبة بن نافع الفهري المغرب الأدنى اختط القيروان وبنى بها المسجد الجامع وبنى الناس مسكنهم ومساجدهم حوله . وعرف المغرب الأقصى اهتماما كبيرا ببناء المساجد مع الدول التي تقلدت زمام حكم هذه المنطقة، وخاصّة في عهد الأدارسة وخير دليل على ذلك ما حظي به مسجد القرويين من شهرة بلغت الآفاق، حتى إنه يكاد يرتبط اسم الأدارسة بهذا الجامع وباسم بانيته فاطمة الفهرية، يقول ابن خلدون (808ه): 'واستجدّت فاس في العمران وبنيت بها الحمامات والفنادق للتجار، وبنيت الأرباض، ورحل إليها الناس من الثغور القاصية واتفق أن نزلتها امرأة من أهل القيروان تسمّى أم البنين بنت محمد الفهريّ، وقال ابن أبي ذرع اسمها فاطمة، وأنها من هوّارة، وكانت ثرية بموروث أفادته من ذويها، واعتزمت على صرفه في وجوه الخير فاختطت المسجد الجامع بعدوة القرويّين أصغر ما كان سنة خمس وأربعين في أرض بيضاء كان أقطعها الإمام إدريس، وأنبطت بصحنها بئرا شرابا للناس، فكأنما نبّهت بذلك عزائم الملوك من بعدها، ونقلت إليه الخطبة من جامع إدريس لضيق محلته وجوار بيته. واختط بعد ذلك أحمد بن سعيد بن أبي بكر اليغرنيّ صومعته سنة خمس وأربعين وثلاثمائة، على رأس مائة سنة من اختطاط الجامع حسبما هو منقوش في الحجارة بالركن الشرقي منها. ثم أوسع في خطته المنصور بن أبي عامر، وجلب إليه الماء وأعدّ له السقاية والسلسلة بباب الحفاة منه. ثم أوسع في خطته آخر ملوك لمتونة من الموحدين، وبني مرين واستمرّت العمارة به، وانصرفت هممهم الى تشييده والمنافسات في الاحتفال به' . من خلال هذا النص في تاريخ تخطيط وتنفيذ بناء جامع القرويين، تتبين العناصر التفاعلية لهذا المسجد من خلال الحرص على استحضار البعد الاجتماعي ومراعاة المصلحة العامة وإمداد الخير ونشره على أفراد البلاد الذين حجوا نحو المدينة من مناطق شتّى لتعميرها، ويمكن إجمال هذه العناصر التفاعلية في النقاط الآتية: 1- اتخاذ قرار نقل الخطبة الجمعية إلى هذا المسجد حرصا على المصلحة العامة المتجلية في تكثير أعداد المصلين واستيعاب الجامع لأكبر قدر ممكن لهم، الشيء الذي لا يمكن أن يتأتى في المسجد الآخر الضيق، فالمصلحة والمنطق يقضيان بأن تكون شعائر الجمعة بالمسجد الكبير لا بالمسجد الضيق رفعا للحرج على المصلين، حتى لا يصلوا بالخارج فيتأثروا بأحوال الطقس خلال أدائهم للصلاة واستماعهم للخطبة. 2-تخطيط الصومعة بالجانب أو الركن الشرقي من المسجد مراعاة لعنصر الظهور للناس القادمين إلى المسجد من بعيد، ومراعاة كذلك للمكان المناسب من حيث ظروف ومعايير التشييد، إلا أنني أجدني أتساءل لماذا كل هذا التأخير الذي يصل إلى فرق مئة سنة؟ هل هو راجع إلى عدم توفر الموارد المالية الكافية أم ماذا؟ 3-التركيز على عنصر الماء وأهميته الحيوية، مع التخطيط في توفيره وتسهيل سبل الوصول إليه والانتفاع به في الجامع، نظرا لأن المتوافدين على المسجد لا ينبغي إيقاعهم في المشقة والحرج في التنقل باستمرار من أجل جلب الماء للشرب أو الوضوء، كما أن توفر الماء بشكل جيد سيمكن من الإقامة بالمسجد للحاجة العلمية، مما سيحوله بعد ذلك إلى مركز وقطب علمي وازن. 4-إقامة مجموعة من الاحتفالات الاجتماعية به على مدار التاريخ، يؤكد على نجاحه في استقطاب مختلف الشرائح الاجتماعية المكونة للنسيج العمراني بالمدينة، وبالتالي سكون هؤلاء المكونات الاجتماعية لأجواء الاحتفال بأرجائه واهتمامها بشهود هذه الوقائع المؤثرة. وذكر الناصري صاحب الاستقصا أن فاطمة الفهرية صامت منذ الشروع في بنائه إلى أن أُتمَّ بناؤه فصلت فيه شكرا لله تعالى . وسيشهد جامع القرويين عدة تغيرات مع مرور الزمن وتعاقب الدول على حكم المغرب، حيث سيعرف زيادات في مساحته على عهد المرابطين والموحدين، كما سيتم الاعتناء بتزيينه وزخرفته بما لا يحيد عن طابع البساطة وتوفير الطمأنينة والأريحية للمصلين به ، وبرز جامع القرويين بروزا وازنا على المستوى الحضاري، خاصة في جانب التلاقح الفكري والعلمي بين علماء المغرب وعلماء الأندلس نتيجة الأوضاع السياسية والأمنية التي شهدتها المنطقتانلتشرف جامعة القرويين في فاس باجتماع هذه الأطياف الزاخرة فتقوم بتثوير الحركة العلمية بأحضانها، يقول عبد الواحد المراكشي (647ه): 'ومدينة فاس هذه هي حاضرة المغرب في وقتنا هذا، وموضع العلم منه؛ اجتمع فيها علم القيروان وعلم قرطبة؛ إذ كانت قرطبة حاضرة الأندلس، كما كانت القيروان حاضرة المغرب. فلما اضطرب أمر القيروان -كما ذكرنا-بعَيْثِ العرب فيها، واضطرب أمر قرطبة باختلاف بني أمية بعد موت أبي عامر محمد بن أبي عامر وابنه، رحل من هذه وهذه من كان فيهما من العلماء والفضلاء من كل طبقة؛ فرارًا من الفتنة؛ فنزل أكثرهم مدينة فاس؛ فهي اليوم على غاية الحضارة، وأهلها في غاية الكَيْس ونهاية الظَّرْف' . ولعل المخلفات العلمية والآثار الثقافية التي توجد بمدينة فاس من تراث ومخزون كتبي ومخطوطي وآثار التدريس والطلب، لخير دليل وشاهد مباشر على جهود الأدارسة في إنجاح النشاط المسجدي في عهدهم، وأن المسجد قد أسهم إيجابا في نهضتهم على المستوى العلمي والاجتماعي. وفي العهد المرابطي، استمرت مظاهر العناية بالمساجد بناء ونشاطا، فعندما دخل يوسف بن تاشفين مدينة فاس وذلك في سنة 462ه بادر بإحصانها وإتقانها وهدم الأسوار التي تفصل عدوة القرويين عن عدوة الأندلسيين، فأصبحتا مصرا واحدا، ثم أمر ببناء المساجد في أحوازها وأزقتها وشوارعها ، وكانت عاقبة كل حي أو زقاق لا يتوفر على مسجد هو معاتبة أهله وقد يصل ذلك إلى مرحلة العقوبة الشديدة نظرا لهذا التقصير الذي لا مسوغ له . يعتبر يوسف بن تاشفين المؤسس الحقيقي لمدينة مراكش، وهو الذي أرسى الدعائم وأتمّ البنيان، فبنى فيها المسجد وبيت المال ومستودعات السلاح، وكان رحمه الله لما شرع في بناء المسجد يحتزم ويعمل في الطين والبناء بيده مع الخدمة تواضعا لله ، ولعل له في هذا العمل أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي شارك بنفسه في بناء أول مسجد في الإسلام وهو يحمل اللبنات والأحجار الثقيلة بنفسه الشريفة فيرسّها في مكانها. ويمكن القول أنه من أجلّ المواصفات التي ميزت المدينة الإسلامية في العهد المرابطي توفرها على مسجد جامع، ولذلك تأخرت مجموعة من المدن على الظهور والبروز حضاريا ونيل مسمّى المدينة نظرا لغياب هذه المواصفة، يقول الأستاذ كريدية إبراهيم: 'ومعناه أن مدينة آسفي وحتى العصر المرابطي، لم تحز على مواصفات المدينة الإسلامية، لافتقارها إلى أهم شروطها وهما المسجد الجامع والسور ... ولأنه كان أكثرهم (أي: الموحدين) انصرافا إلى بناء المساجد العظيمة لا سيما بعد انتصاره في معركة الأرك (يعقوب المنصور) ... وأيضا لأن يعقوب المنصور كان شغوفا بالصلاة، متشددا في الدعوة إليها ... اشتهر بناء العديد من الجوامع الكبرى' . ومن مظاهر إسهام المسجد اجتماعيا في العهد المرابطي ما يروى عن أهل الأندلس أنه لما استنجدوا بالخليفة المرابطي يوسف بن تاشفين -الذي ندب نفسه للجهاد والدفاع عن حوزة الإسلام بهذه الأرض-ليخلصهم من غطرسة الصليبيين وما مر بهم من محن وابتلاءات، تم استقبال الجيش المرابطي في الأندلس بكل حفاوة، وخرج إليه أهل الجزيرة بما عندهم من الأقوات والضيافات وامتلأت المساجد والرحبات بضعفاء المتطوعين مستبشرين باستعادة ما سلب من حقوق وما هدُر من كرامة ، ولم يكن الإسهام المسجدي في العهد المرابطي مقصورا على الزاوية الاجتماعية فحسب، بل تعدى هذا الإسهام إلى الجانب السياسي المتعلق بسلطة صنع القرار الحاسم، ولذلك تقول الأستاذة نعيمة مني: 'وإلى جامع القرويين يعود الفضل في بروز عدد كبير من العلماء الفضلاء، ولا ننسى أن نسجل ما كان لهؤلاء العلماء الأجلاء من دور في تدبير شؤون البلاد في الداخل والخارج، فنجدة ((يوسف بن تاشفين)) للأندلس لم تكن إلا بعد أن صدرت فتوى عن رجال القرويين تسمح باستجابة المرابطين لاستغاثة أهل الأندلس' . وبالتالي فمؤسسة المسجد حظيت في العهد المرابطي بأهمية كبرى نظرا للتعويل عليها وظيفيا في المجالات الدينية والاجتماعية والسياسية والحضارية كما سلف البيان. أما عهد الموحدين؛ فقد عُرف بعهد المساجد، وذلك نظرا للعدد الكبير للمساجد التي تمّ إنشاؤها في عهدهم، خصوصا وأن فكرتهم في تأسيس الدولة قامت على مبدأ ديني، مشيرين إلى انحرافات الدولة المرابطية في أواخرها، لذلك فقد حاولوا تصحيح هذا الأمر من خلال المؤسسات الدينية ذات الإشعاع، خاصة المساجد التي تساهم في تجميع عدد كبير من الناس حول إمام واحد نظرا لمركزية المسجد في المدن والقرى ، ويلاحظ ارتباط بعض ملوك هذه الدولة بمؤسسة المسجد وأثره التعليمي منذ صغر سنهم وقبل أن يصلوا إلى سدة الحكم، فهذا الخليفة الموحدي المهدي بن تومرت والذي ظهر اهتمامه وشغفه بالعلم منذ شبابه؛ يقول عنه اين خلدون: 'وشبّ محمد هذا قارئا للعلم، وكان يسمّى (أسافو) ومعناه الضياء لكثرة ما كان يسرج في القناديل بالمساجد لملازمتها' . ومن نماذج المساجد الموحدية التي ذاع صيتها في هذا العصر والتي هي شاهدة على آثارهم والتي لا تشكل إلا نزرا يسيرا من المساجد التي أنشئت في عهدهم نجد: جامع الموحدين في تازة، جامع تنمل (قرية كبيرة)، جامع الكتبية وجامع القصبة بمراكش وجامع حسّان بالرباط ، ولعل هذا الأخير حظي بالشهرة والتميز لكون بني في أزهى وأفضل عصور الدولة الموحدية في عهد الخليفة أبي يعقوب المنصور، حيث إنه سعى إلى إكمال ما خططه والده في بناء وعمارة مدينة الرباط، فبنى بها مسجدا عظيما متسع الفناء ذا مئذنة شامخة على هيئة منارة الإسكندرية يصعد إليها بغير درج وتدعى منارة حسّان ، يقول المؤرخ محيي الدين عبد الواحد المراكشي(647ه): 'ثم شرع في بنيان المدينة العظمى التي على ساحل البحر والنهر من العدوة التي تلي مراكش. وكان أبو يعقوب رحمه الله هو الذي اختطَّها ورسم حدودها وابتدأ في بنيانها، فعاقه الموت المحتوم عن إتمامها؛ فشرع أبو يوسف-كما ذكرنا-في بنيانها إلى أن أتم سورها، وبنى فيها مسجدًا عظيمًا كبير المساحة واسع الفناء جدًّا، لا أعلم في مساجد المغرب أكبر منه. وعمل له مئذنة في نهاية العلو، على هيئة منار الإسكندرية، يصعد فيه بغير درج، تصعد الدواب بالطين والآجُرِّ والجِصِّ وجميع ما يحتاج إليه إلى أعلاها. ولم يتم هذا المسجد إلى اليوم؛ لأن العمل ارتفع عنه بموت أبي يوسف؛ ولم يعمل فيه محمد ولا يوسف شيئًا. وأما المدينة فتمت في حياة أبي يوسف وكملت أسوارها وأبوابها وعُمِّر كثير منها. وهي مدينة كبيرة جدًّا، تجيء في طولها نحوًا من فرسخ، وهي قليلة العرض. ثم خرج بعد أن رتب أشغال هذه المدينة وجعل عليها من أمناء المصامدة من ينظر في أمر نفقاتها وما يصلحها؛ فلم يزل العمل فيها وفي مسجدها المذكور طول مدة ولايته إلى سنة 594، وسار هو حتى نزل مراكش' ، ويظهر من خلال هذا النص التركيز على المميزات العمرانية لأهم المكونات المادية للبناء، كالعلو المتناهي في المئذنة، وهذا الأمر عنصر تفاعلي كبير في المسجد، إذ يحقق شذ الانتباه لكل زائر إلى المدينة بحيث ينتبه إلى علو الصومعة قبل ولوج حدود المدينة، كما يحقق التأثير في النفس من خلال ارتباط المعاني الروحية للأذان بكل ما يدل على كبر وعظمة هذا الدين. أما إذا انتقلنا إلى مدينة مراكش؛ نجد أن صومعة الكتبية قمة وأوج العطاء الإبداعي الفني للموحدين، سيما وأن تاريخ بنائها خلال عهد هذه الدولة شهد ثلاث مراحل متتالية من حكم الخلفاء الثلاثة الأوائل فانتهت أشغال إتمام بنائها المعماري الضخم مع الخليفة أبي يوسف يعقوب المنصور، واعتُبرت بذلك أعلى مئذنة بالغرب الإسلامي وثاني أعلى مئذنة في العالم الإسلامي بعد مئذنة قطب منار بدلهي في الهند ، كما تميزت المساجد الموحدية في تصاميمها بتعدد الأروقة والصحون على غرار جامع القصبة بمراكش، وما ذلك إلا لكون الأمراء وأولياء الأمر اتخذوا تدابير مادية وقائية في هذه المؤسسة نظرا لخطورة الوقائع والمجابهات العنيفة التي كانت تحدث بالمساجد الجامعة والتي أسفرت أحيانا على سفك الدماء بداخله . لم يغفل الموحدون رسالة المسجد وتأثيره في صناعة القرار وإحداث ما يتطلعون إليه من تغيير إيجابي في المجتمع، يقول الدكتور علي الصلابي عن الخليفة الثاني للموحدين الذي جاء بعد ابن تومرت وهو عبد المومن الموحدي في شأن استراتيجيته التخطيطية في تسيير الدولة: 'ورأى عبد المومن أنه من الحزم والفطنة أن يضع للدولة نُظُما موطدة الدعائم، فأطلق حرية العلوم والمعارف، وسار في كل ذلك مع نهج الدين الحنيف، وبنى عددا من المساجد والمدارس الفخمة التي غدت مراكز للعلوم والآداب، وقرنها بالخدمة العسكرية دوما، مع التمرين على فنون الحرب، ذلك أن عبد المومن كان يخشى أن يؤدي الانقطاع إلى العلم والدرس إلى إضعاف الهمم وفتور الحماسة الحربية لدى الموحدين' . ويتبين إذا من خلال علاقة الموحدين بالمسجد أنها كانت علاقة حرب وتكوين عسكري للحفاظ على نفوذ الدولة وسلطتها، ولم يكن مقصدها أصالة خدمة العلم وتأهيل الكفاءات المتخصصة في علوم الشريعة، كما أن ملوك الدولة الموحدية لم يغفلوا موقع المسجد في وقت الفتن وتأثيره في إخماد نارها، ولذلك كان لا مفر لهم عند حلولها من اللجوء إليها والاحتماء بأعتابه لعل الأوضاع تهدأ على إثر ذلك، يروي عبد الواحد المراكشي عن نهايات حكم المهدي بن تومرت فيقول: 'وذلك أن ابن تومرت حين خرج من مراكش على الحال التي تقدمت من إخراج أمير المسلمين إياه عنها، سار حتى نزل الضيعة التي فيها أبو إبراهيم؛ فدخل المسجد، فاجتمع أهل الضيعة على باب المسجد ينظرون إلى ابن تومرت ويقول بعضهم لبعض همسًا: هذا الذي نفاه أمير المسلمين عن بلاده لإفساده عقول الناس؛ ونحو هذا القول؛ وهموا بقتله تقربًا بذلك إلى أمير المسلمين. فلما رأى ذلك أبو إبراهيم من أمرهم، تقدم إلى ابن تومرت فسأله عن إعراب هذه الآية: {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} (سورة القصص، الآية 20). ففهم ابن تومرت ما أراد، وخرج عن تلك الضيعة، وعرف لأبي إبراهيم نصحه؛ ثم لحق به أبو إبراهيم هذا بعد ما اشتهر أمره ب تينمل؛ فهو معدود في أهل الجماعة' ، ويؤكد هذا النص كذلك توالي تأثير الوظيفة الأمنية التي أدّاها المسجد عبر مدار التاريخ، تلك الوظيفة التي تغطي الجانبين الاجتماعي والسياسي للبلاد، وكأن قناعة معينة كانت قد انطبعت على أذهان الناس مفادها أن مؤسسة المسجد هي الملاذ الوحيد عند الفتن والمحن وموطن يُؤَمُّ لتحصين النفس وتأمينها من الفتن والأخطار. وقريبا من هذه الحقبة التاريخية، كانت الدولة الأيوبية السنية بمصر تريد هي الأخرى ضم ما يمكن ضمه من منطقة النفوذ الموحدي فأرسلوا لهذا الغرض قراقوش التقوى، والذي نجح في الاستيلاء على كثير من البلاد التي كانت تحت قبضة الموحدين، يشار إلى أن الدولة الأيوبية السنية كان لها اهتمام بارز بإنشاء المدارس إلى جوار الجوامع والمساجد وتكثير عددها-خاصة في القرنين السابع والثامن-بغية تقوية تدريس العلوم التي تخدم رسالة المسجد العلمية، ومن أمثلة هذه المدارس: المدرسة الناصرية والمدرسة القمحية . وفيما يخص العهد المريني في مراحل حكم المغرب، فهو عهد ذو سمات خاصّة فيما يتعلق بالمساجد، إذ يمكن أن نصطلح عليه بعهد الإتمام والتكملة، وذلك نظرا لخصوصية وطبيعة الأسرة الحاكمة وتأثرها الحضاري بمؤثرات خارجية، فقد اهتمت الأسرة المرينية بتشييد المساجد خاصّة في مدينة فاس، إلا أن تركيزها كان موجها على التزويق والتنميق، فقد عرف عهدهم بانتشار المدارس ذات الطابع الراقي في العمران مع الاهتمام بجانب الزخرفة والنقوش، سواء على الجبس أو الخشب، وكانت هذه المدارس تضم أيضا مساجد داخلها أو بجنبها . وفي عهد حكم الدولة السعدية، عرف المغرب تهديدات ايبيرية للسواحل المغربية، مما فرض التأكيد على أهمية الجهاد، فاهتم السعديون ببناء المساجد مع إصلاح وتوسيع وتجميل القائمة منها خاصّة الجامعة، والغرض من ذلك هو السعي إلى التصدي لهذه الأطماع والرفع من قوة المقاومة للعدو، ومن السلاطين الذين اهتموا بذلك عبد الله الغالب، كما كان للنساء الدور البارز في هذا الاهتمام . وندرك من خلال مطالعة هذه المراحل التاريخية أنه رغم وجود فروق وتكاملات بينها في الوظائف المسجدية وحجم مشاركة هذه المؤسسة في الشأن العامّ، إلا أنه لم تكن هناك قطيعة بين خصوصيات المسجد رغم اختلاف وتعاقب الدول الحاكمة، أي أن جميع هذه الدول الحاكمة حظي المسجد عندها بأولوية في الاعتبار الوظيفي والرهان التغييري. العنصر الثاني: المسجد التفاعلي في المغرب خلال العهد العلوي. يرجع السبب الذي على إثره اخترت اعتبار مرحلة العهد العلوي مرحلة زمنية مستقلة والمبحث بينها وبين مرحلة ما قبل العهد العلوي هو أن المغرب عرف استقرارا سياسيا واجتماعيا بتقلد الدولة العلوية لزمام الحكم بالمغرب الأقصى وبقاء الأمر على ما هو عليه إلى حد الآن، بالمقابل عرفت الدول المتعاقبة على حكم المغرب قبل هذه المرحلة عدم الاستقرار وسرعة السقوط وتوالي الجهات الحاكمة مع التباين في أنماط التسيير والسياسة، فكانت بذلك كثير من التغيرات التي عرفتها أجواء هذه المؤسسة خلال تلك الفترة لا يشك مطالع لصفحات التاريخ المغربي في مدى الاهتمام الكبير الذي أولاه ملوك الدولة العلوية بالمساجد تشييدا وإحياء لثروتها الروحية والعلمية -مع تفاوت في درجات الاهتمام بينهم- على طول امتداد فترات الحكم، بالإضافة إلى ما كانت تؤديه من وظيفة في تعزيز النفوذ السياسي للدولة الحاكمة بالمنطقة، وكان اهتمامهم هذا ممتدا على طول ربوع المملكة ولم يقتصر في ذلك على منطقة معينة بالذات خاصة فيما يتعلق بالجانب العلمي ونشاط العلماء، وإذا كانت الدولة السعدية والتي سبقت فترة حكم الدولة العلوية قد انصب اهتمامها على إقامة إصلاحات كثيرة للمساجد، مع إضافة ألوان من فنون الزخرفة على كثير من معالم المساجد، فإن الدولة العلوية قد سجلت رقما قياسيا في تشييد المساجد والتفنن في زخرفتها وتزيينها، بكل ما يليق بالمكان المقدس، وخير معلمة في هذا الصدد مسجد الحسن الثاني بالدارالبيضاء . ويمكن القول إن الدولة العلوية اهتمت بالمساجد منذ أن توطد لها الحكم بالمغرب لارتباطها الوثيق بالمساجد، ذلك أن الحسن بن القاسم-جد الأشراف العلويين-كان علما من علماء المسجد الجامع بسجلماسة في النصف الأخير من مراحل حكم الدولة المرينية ، وأسوق هنا أنموذجا من تاريخ السلطان المولى سليمان، الذي بعث إلى أهل تطوان -بطلب منهم - الشيخ محمد الحراق (فقيه عالم لا ينتسب للتصوف ولا للمشيخة) وهو أحد علماء فاس، لإنعاش الحركة العلمية بمنطقتهم وذلك ليعمر هنالك الجامع الكبير بالدروس العلمية وليقوم بمهمة الخطابة والإمامة بجامع العيون ، ويوضح هذا الإجراء من السلطان أنه كان على دراية تامة بالنشاط الديني في شقّه التعليمي بالمناطق التابعة لنفوذه، حتى لا يدع منها ما يشكو من خصاص في هذا الجانب. ونجد أن السلطان المولى رشيد ممن أولوا اهتماما بالغا بالعلماء وطلبة العلم وبسير الدروس ونشاطها في جامع القرويين وبغيره من المساجد، ولعل هذا ما يبين أن ظاهرة التدريس أصبحت شيئا مألوفا بالمساجد الجامعة وغير الجامعة، مما زاد في أعداد الطلبة، وتمخض عن ذلك أن أصبح العصر الإسماعيلي يتسم بنشاط فكري متزايد، حيث تمثلت أهم عوامل نشاط حركته الفكرية حينذاك في بروز عدد من كبار العلماء وتصدرهم للتدريس والفتيا، وسار على نفس النهج السلطان العالم سيدي محمد بن عبد الله . وممّا يؤثر عن فترة حكم السلطان محمد بن عبد الرحمان جدّ الحسن الأول والذي ساد في المرحلة ما بين 1859م إلى 1873م، أنه بعد جلاء الإسبان عن مدينة تطوان، عمل أهلها على بناء وترميم مختلف المساجد والأملاك المحبسة عليها، غير أن أوقاف تطوان عجزت عن تغطية تكليف ومصاريف ذلك، فأذن السلطان محمّد بتجديد بنائها من بيت المال برسالة لقائد تطوان، نصّها ما يلي: وبعد فقد وصلنا كتابك أخبرت فيه أن ثلاثة مساجد عندكم تهدمت هي وأحباسها، وتعطلت معالم الدين بها وطلبت اغتنام أجر بنائها لكونها جاءت في محلّ العمارة، فها نحن أمرنا الأمناء ببنائها، والسلام . وسيزداد الاهتمام بالمساجد في العهد العلوي بشكل قوي مع دخول المستعمر الفرنسي إلى المغرب، لتصبح المدرسة الوطنية الخاصّة بترسيخ الفكر الوطني أساسا وتأطير رجال المقاومة حتى يتم الحصول على الاستقلال . وقلما نجد أزمة من الأزمات الخارجية التي عاشتها الدولة العلوية في تاريخ حكمها للمغرب إلا وللمسجد فيها حضور بارز ووازن لخدمة المصلحة الوطنية في ذلك، وسيتم بسط هذا الأمر بتفصيل عند التطرق للأثر السياسي للمسجد في فصل لاحق بحول الله تعالى. وفي عهد السلطان محمد بن يوسف رحمه الله، اتجه الاهتمام بالمساجد في المغرب إلى الاهتمام بالجانب المادي لعلماء المسجد، فمنذ بيعته سنة 1929م أصدر تعليماته بمساعدة العلماء، وذلك بالزيادة في رواتبهم الشهرية تشجيعا لهم على بث العلم، ومساعدة لهم على حياتهم المعيشية . أما عهد الملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله، فتميز بتشييد أكبر معلمة دينية في مدينة الدارالبيضاء بالمغرب وهو مسجد الحسن الثاني بمرافقه المتعددة وشساعة مساحته، فكان هذا العمل الرائد امتدادا لبرنامج الاهتمام بالشأن المسجدي. وتميز عهد الحسن الثاني بكثرة التشييد والبناء في المجال الديني من خلال بنائه لعدد من المساجد في كل مدن المملكة، لكن الأشهر في ذلك كلّه هو مسجد البيضاء الموسوم باسمه لكونه السبب المباشر فيه، وأهم ما ميّز هذه المعلمة الشاهدة وأبرز تفردها على المستوى التاريخي ثلاثة أمور: -القدرة على استيعاب التأثيرات الخارجية ومسايرة التكنولوجيا الحديثة ، حيث إن مجموعة من المكونات المادية والمرافق المسجدية لهذه المعلمة قد عرفت تناغما جميلا ومسايرة واضحة مع مستجدات التطور العلمي التكنولوجي الذي وصل إلى الساحة الوطنية، مما جعل كل زائر لهذا المكان يدرك هذه الإضافة النوعية المتجلية في هذا الإنجاز الحضاري، يقول الأستاذ محمد علال سيناصر: 'وبلغ امتزاج القديم والحديث ذروته في سقف قاعة الصلاة التي تم إحكام تزويقها بصبر وأناة ملحوظين، ناهيك أن هذا السقف ينفتح آليا في ظرف خمس دقائق فترخي الشمس أشعتها في هذا المجال' . -ارتباط هذا المسجد بشكل كبير بالعنصر البحري الذي يضفي عليه طابعا خاصّا مع التركيز على إشعاع الإسلام في المحيط والتذكير بالرمز القرآني المتمثل في الماء الذي شُيّد المسجد بإحكام على ضفافه، ولا شك أن هذا الارتباط له من البعد الجمالي والتأملي الذي يسهم في التدبر للملكوت الكوني والذي يزيد من منسوب إيمان الفرد. -تمثيل هذا المكان لموطن إبداع وإتقان الصنع المغربي الأصيل في فنون البناء والتشكيل والهندسة المعمارية، ولا شك أن الأصالة لها قوتها التأثيرية بحيث لم تترك مجالا للاستيراد في هذا المجال. -الامتزاج الداخلي في مكوناته بين القديم والحديث وتبادل التأثير والتأثر فيها بين التراث المعماري الداخلي والتراث المعماري الخارجي الذي يمتح من روح الثقافة الإسلامية الأصيلة، يقول محمد علال سيناصر: 'ولم يكن هذا الامتزاج وليد الصدفة بل تراكم تجارب ومندرجا في سياق إحياء التراث الأندلسي وتجويده، فهو ثمرة لمجموعة متلاحقة من البنايات والمنشآت الإسلامية وخاصّة المغربية منها، وهو يستمد نبله ومظاهره الجميلة من جامع القرويين بفاس ...، كما يرث كثيرا من رونق صومعة حسان بالرباط، وصومعة الكتبية بمراكش (آثار الموحدين) ويشترك مع المدارس المرينية في الخزانة، لكن المتحف الذي يعتبر امتدادا للخزانة يجعل منه مركبا ثقافيا حقيقيا يضفي ثراء على مجموع البناية وهي تؤدي رسالتها الدينية الخالدة' . وفي عهد الملك محمد السادس، بقيت نفس السياسة المعتمدة في الاهتمام بالمساجد، حيث إنه كلما حلّ بمدينة من المدن في المملكة إلا وقام بتدشين مسجد أو وضع الحجر الأساس لبنائه، أو إعطاء الانطلاقة لترميمه وإصلاحه، وقد أسهمت هذه الجهود المخططة في انتشار شبكة من المساجد على مجمل التراب الوطني متوفرة على كل الخصوصيات الضرورية . لقد تنوعت المظاهر التفاعلية الإشعاعية لمؤسسة المسجد، وذلك عبر مجموعة من محطات التاريخ المغربي، وقد كانت هذه العناصر معالم واضحة تستأثر بالاهتمام والملاحظة الدقيقين، كما أنها كانت تنحو اتجاهات عدّة توفق بين الاتجاه المادّي الجمالي؛ وبين الاتجاه التربوي الاجتماعي؛ وبين الاتجاه السياسي؛ وبين الاتجاه الحضاري في بعده الإنساني، ولعل هذه الاتجاهات برزت في تفاوت جلي من حيث قوة بروزها، وذلك تبعا للحاجات الفردية والجماعية لمكونات المجتمع الذي يحتضن هذه المؤسسة، ولا شك أن الجماعة المسجدية في أمس الحاجة إلى استحضار أبعاد كل هذه الاتجاهات في الوقت الراهن، وذلك لكونها تتكامل في تشكيل المنظومة التفاعلية المسجدية؛ والتي تثبت قوة هذه المؤسسة وحضورها البارز ضمن النسيج الثقافي الإسلامي.
بقلم أ.د. عدنان مهنديس باحث في العلوم الشرعية - كلية الآداب سايس فاس.