طالما تغنى دعاة الفصل اللائكي بهذه المقولة السحرية الهادفة لاستبعاد الدين وحشره في الركن القصي؛ بيد أنها حقيقة ليست سوى انعكاس لسريان مفاعيل التغريب الفرنكوفوني والأوربي. فإذا كان التحضر الغربي انتهى إلى صيغة الفصل وتنحية الدين ولو نظريا من الأزمنة الغربية المعاصرة، وهي تنحية تظل موضع شك وريبة بفعل استمرار توظيف الدين في عدة مواقع ومواقف وأحداث تاريخية وحاضرة، فإن التحضر الإسلامي قام تاريخيا على أساس الدين وقيمه ومفاهيمه ومبادئه وأبجدياته العقدية التوحيدية. وما موجة الصحوة الدينية المعاصرة وانبعاث الإسلام الحركي المفعم بالحيوية إلا تذكير بحاجة التحضر الإسلامي المعاصر للفاعلية الدينية على مستوى العقل والروح والإرادة لتحقيق قومته وانبعاثه من جديد. لكن السؤال المطروح هو متى يكون الدين شأنا خاصا يهم الفرد، ومتى يكون شأنا مجتمعيا عاما يهم الأمة والمجتمع ككل بما يمتنع على أي سلطة زمنية أو دينية كهنوتية أن تحتكره بموجب الحق الإلهي أو الوصاية القانونية أو العرفية؟ والحقيقة أن الدين قضية إنسانية كبرى تهم الفرد والمجتمع على السواء بما يجعله، أي الدين، هو المحرك الفعلي للتاريخ البشري، ولا يمكن مطلقا فصل مفاعيله الفردية عن أبعاده الاجتماعية وامتداداته الحضارية. فالدين يكون شأنا خاصا فيما يتعلق بالاتصال الروحي الثري بين الإنسان وخالقه؛ لكنه شأن مجتمعي عام فيما يتعلق بالإسناد الفاعل والقوي الذي يحققه الدين لمنظومة القيم والأخلاق وأثره في ترسيخها في المجتمع. وقد درج أهل الإسلام على تويصف الدين بأنه عقيدة وشريعة وأخلاق وسلوك ونسق شامل موجه للفكر والفعل، وفي هذا التحديد ما يفضح حقيقة الانتهازيين المنافقين ممن يتخذون الدين والخطاب الديني ومظاهر التدين أداة للمآرب الدنيوية، دون ان يكون الدين قضيتهم الفردية أو المجتمعية، فكل من يتاجر بالدين ينازع بالدين نفسه. وفي ذلك أيضا نقد لدعاة الفصل والقطيعة لكونهم يرومون فقط إقصاء الدين كليا ليس من الحياة العامة للمجتمع بل حتى من الحياة الخاصة للفرد لأنه لا يستقيم في التدين الإسلامي أن يحضر الدين في الحياة الخاصة ويغيب في امتداداتها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية المشكلة لأساس التحضر وروحه داخل المجتمع، اللهم إذا كان الإنسان مصابا بانفصام الشخصية وهذا ليس سوى ثمرة من ثمار التحضر الغربي القائم على الفصل بين العوالم. إن وصل الفرد والمجتمع بقيم الدين المثلى ومقصده الأسنى هو ما يجعل للحياة معنى؛ في الوقت الذي نلحظ فيه ضياع المجتمعات التي أضمرت القطيعة والفصل وافتقادها للمعنى حيث يعيش الإنسان الفرد أبترا من كل معاني الإيمان والتعبد، رغم ما حققته هذه المجتمعات على مسوى المنجز المادي من نجاحات مبهرة لا يشوبها إلا افتقادها للمعنى التعبدي الإيماني اللهم ما قد يتسرب من نفحات من خلف شقوق اللائكية العلمانية البئيسة المتهالكة.
بقلم د. فؤاد بلمودن الأستاذ بكلية الآداب و العلوم الانسانية بالجديدة