تشتهر اليوم جل المجتمعات الإنسانية بالاحتفاء بالديمقراطية و تقديس مفاهيمها، كما تشيد بأولوية ترسيخ ثقافة تشاركية بين الحاكم والشعوب المحكومة، كُلّها تعابير ومفردات توحي بأن الشعوب الآنية متحررة، قادرة على تقرير المصير، و التسيير الذاتي عن طريق الاقتراع الحر الشفاف النزيه، هذا ويتشدق عشاق الديمقراطية عبر الوسائل الدعائية الرسمية ببلوغ الشعوب اليوم مبتغاها، نظرا لاستطاعتها وضع ثقتها في من سيمثلها أحسن تمثيل ويرعى مصالحها عبر انتخابه... هذا و الله كلام جميل طنان غالبا ما نسمعه من الساسة أمام عدسات الكاميرا! لكن هل تمت ترجمته إلى أفعال على أرض الواقع؟ ما تعيشه المجتمعات الإنسانية في الغرب والشرق يفند تماما ما يرسمه لنا خيال السرديات الكبرى عن الديمقراطية، إذ ما يكمن اصطلاحه بالديمقراطية في المجتمعات الرأسمالية لا يزيد عن كونه مسرحية سياسية تتكون من نخب محنكة في عالم السياسة وقطيع من المشاهدين المتفاعلين، تهدف إلى التحكم في إرادة الشعوب وإخضاعها لشروط السوق الاقتصادية الرأسمالية العالمية. إن الديمقراطية الرأسمالية اليوم "تبيع القرود و تتهكم على من يشتريها"، فمن من عاقل سيصدق أن هذا النظام الطوبوي جاد في دعاياته بتحرر الشعوب من الاستبداد و الكليانية، بينما تقوم الآلة الرأسمالية بطحن الأخضر واليابس يوميا من أجل البقاء؟ تأملوا معي مقارنة بسيطة بين الأمس واليوم! ماذا تغير؟ فعوض عصا الطاعة التي حملتها الأنظمة الديكتاتورية في الماضي، و التي مازالت قائمة في بعض الأنظمة العربية الشموليةً، استبدلتها الدولة الحديثة بنظام البانبتيكون و المراقبة الشاملة التي تنبني على دارسة الأفراد والمجتمعات، وهكذا سُخِرت علوم البيولوجيا والسيكولوجيا والسوسيولوجيا وغيرها من التخصصات لفهم الإنسان البسيط، حتى توصلت هذه المعارف العلمية إلى إدراك ماهيته وسلوكياته أفضل بكثير مما يتخيله هو عن نفسه. هل استُخدمت هذه العلوم في تطوير كفايات الإنسان البسيط ومعارفه إلى أرقى مستوى أم اقتصر تحصيلها على نخب نصّبت نفسها ممثلا عنه، إذ تحل محله في التفكير والتخطيط، فتمتح من هذه العلوم قصد التحكم في مصيره وتطويعه؟ لقد أصبحت الدولة الحديثة بصريح العبارة في غنى تام عن استخدام العصا لكي ترغم الشعوب "على أكل البطاطس".
انظروا! كلنا والحمد الله "نأكل البطاطس"! بل طورت الشعوب "وصفات بالبطاطس" ! و المغرب رائد في "أكل البطاطس"!
كفانا نحن الشعوب عصا! ترى الدولة الحديثة في الغرب أننا الآن في حاجة إلى التطويع عن طريق حقننا بأفكار وقيم و معتقدات وتمثلات تؤطر المفهوم السائد للديمقراطية، فتصاحبنا معانيه منذ بدايات تنشئتنا عبر مختلف وسائل الإعلام و أقسام المدارس التي تدعم هذا التصور.
إن دور الإعلام في هذا السياق، ليس بسلطة رابعة تراقب الاعوجاج وتقومه، كما تنبأت بذلك مدينة هابرماس الفاضلة، ولكنه عبارة عن وسيلة دعائية استهلاكية تنشر الفرجة السياسية، و تنقل مسرحيات نخبوية، تطبل وتزمر من خلالها للصورة التي ترسمها النخب السياسية الحاكمة، وهكذا على الرغم من ظهور العديد من المؤسسات الإعلامية بمظهر الانعتاق و التحرر من قبضة أجهزة الدول، يظل الإعلام في عمقه دعائيا ينتقي عبر مصفاته كل ما من شأنه دعم هيمنة إيديولوجيات الأنظمة على حد تعبير هرمان وتشومسكي، فينحاز الإعلام لمؤسسات أقوى منه اقتصاديا وسياسيا، إذ تتحكم الدولة في مصادر المعلومة، كما تتحكم في أسلوب تواصلها مع الإعلام عبر إحداث مؤسسات ناطقة باسمها، هذا بالإضافة إلى استخدامها لاستراتيجيات أخرى، نذكر منها تخويف الإعلاميين بالمتابعات القضائية والسجون أو شراء ولاءاتهم، وتقديم الدعم المادي للمؤسسات الإعلامية المنحازة، وسن قوانين لفرملة الأصوات الإعلامية المعارضة و تكبيل أقلامها، ومساومة المقاولة الإعلامية بلعاب وعسل الإعلانات الإشهارية. متى كانت قطعان الشعوب الضالة وفق تشومسكي دائما تنعم بالولوج الحر إلى المعلومة؟ هل وظيفة الإعلام إشاعة الخبر أم تشويهه؟ لماذا يتم تسريب معلومات دون أخرى؟ ولماذا يتم هذا في ظروف تاريخية معينة؟ لماذا تحظى بعض المحطات الإعلامية بلقاءات صحافية دون أخرى؟
نادرا ما تجد صحافيا مرموقا ذائع الصيت دون أن يكون متزلفا عميلا للنظام القائم، ذلك طبعا لأنه يحظى بالتفرد بالأخبار، و يُمنح السبق في المعلومة واللقاءات التواصلية، مما قد يمكنه من صنع شبكة علاقات مصلحية داخل أجهزة الدولة.
ماذا عن دور المدارس في تكريس هيمنة النخب الحاكمة على عالم السياسة؟ هل تعتبر المدرسة في "العالم الديمقراطي" محطة تنوير أم آلة مغنطة و"تضبيع" للقطعان التائهة؟ على الرغم من تقدم العلوم والفنون في بعض المجتمعات، يظل السؤال الذي يؤرق الجفون، هل يستفيد القطيع الضال من هذه العلوم أم فقط يستهلك منتجاتها؟ قد يلج القطيع التعليم مجانا، لكن هل يتلقى تعليما ديمقراطيا؟ بمعنى آخر، هل تستفيد قطعان الشعوب من التعليم الراقي الذي قد تستفيد منه النخب الحاكمة؟ أليس تسليع التعليم، و تعليم البعثات، و التعليم في الخارج يمنح تفوقا للنخب وأبنائها، كما يجعلهم في صدارة المجتمع، وبذلك يعمق الهوة المعرفية بين النخبة و قطيع الشعب، كما يحافظ على استمراريتها في الحكم، إذن ما دور المدارس والجامعات إذا لم تستقل بذاتها من مقصلة الدولة، وتكف عن لعب دور الدعاية و توزيع المعارف غير النافعة على باقي أبناء الفقراء؟
هل هذه هي المنظومة الديمقراطية الحقوقية المتخيلة؟ إنها تضمن للنخب احتكار العلم والسياسية والاقتصاد، فتتناسل النخب معرفيا وسياسيا، ويرزح القطيع تحت وطأة حكمها، يختار بين أعضائها؟ وحتى إذا قُدر لأحد من القطيع الانفلات من قبضة التضبيع في المدارس يصطدم بجدار الحجر الصحي، إذ يتم عزله و منعه من الاختلاط بالنخبة حتى يستسلم و يقدم فروض الطاعة والولاء، فإما إن ينسلخ عن جذوره، ويتنكر لها فيلبس قناع الزيف، و إما أن يتمسك بعضويته في القطيع، فينتحر، لأنه سيخوض معارك ضد جيوش النخبة، وهو أعزل منفصل عن القطيع الضال، و بالتالي إما أن يقتل، أوينفى أو يسجن أو في أحسن الأحوال يُتهم بالجنون.
يتضح لنا جليا أن نظام السيطرة الدعائية اليوم، يعتبر من أنجع طرق التحكم، ذلك لأنه لا يشتغل بمنطق العصا، ولكنه يعمل بميكانيزمات الإقناع والتكرار قصد استبطان القيم والمعتقدات والأفكار، فبعد تكاثر الكائن البشري وتناسله، أصبح من الصعب ملازمته بقرناء مراقبين عبر أنحاء العالم، لذا أتاحت العلوم الأكاديمية اليوم إمكانية ترويض القطيع وتخديره إن دعت الضرورة إلى ذلك عن طريق حقنه بخطابات وإيديولوجيات وتمثلات وخطاطات وفرجة ينشأ عليها منذ ولوجه المدارس، ثم سخّرت وسائلها الدعائية الأخرى لتقنعه بتنشئة جديدة على مبادئ الديمقراطية تتجلى في حرية الاختيار واحترام الحقوق، لكن في إطار حديثنا عن النموذج السياسي الذي تقترحه الديمقراطيات العريقة والفتية معا، ماهي هذه الاختيارات الحرة في العمق؟ أليست تلك اختيارات مقيدة بوجود نخب في القمة تتبادل الأدوار فيما بينها، و باقي القطيع يتعب ويكدح طول النهار ليعود في آخر اليوم متعبا، ثم يشغل التلفاز ليتفرج على السّاسة، وهم يمثلون أدوار مسرحية يتخللها أحيانا التشابك بالأيدي دفاعا عن ما يسمى بحقوق القطيع.
ألستم متفقون معي بأن مسرحية الديمقراطية عبر العالم تأخذ طابعا فرجويا، حيث تتكون من نخب سياسية، دفعت بها ظروف تاريخية واقتصادية إلى قيادة المجتمعات، فاستمتعت بكعكة الحكم، و هي تنقسم إلى أنماط أوليغارشية متعددة، منها من جمع بين ثروة المال و ثروة السياسة، بينما بقيت قطعان الشعوب التائهة تتفرج من بعيد على مصيرها، وهو تسطره أقلام النخب المتعلمة في أرقى المدارس و تتبادل الأدوار فيما بينها لتحكمه. فلنأخذ مثال الفارس بيرلسكوني "التايكون" الإعلامي الذي استغل قنواته العالمية للترويج لحملاته الانتخابية، مما مكنه من الفوز برئاسة الحكومة الإيطالية لأربع مرات، وماذا عن دايفيد كاميرون و صديقه التايكون روبيرت مردوك الذي يمتلك شركات إعلامية عملاقة؟ هل هي علاقات بريئة أم تؤشر على وجود تحالفات سياسية في الكواليس بين رجال المال والسياسة؟ أين هي الرقعة المخصصة للقطيع في هذه اللعبة/ الفرجة السياسية؟ يظل القطيع التائه يقبع في المدرجات، يشاهد المسرحية السياسية عن بعد، ويتمتع بأدوار البيلاياتشو والكومبارس، وهنا أتحدث عن أولئك الذين قد ينفلتون من القطيع، وينسلخون عن جلودهم العضوية ليتسربلون بجلود مستوردة، ليست على مقاسهم، فيتعثرون فيها و يسقطون أرضا.
ومع اقتراب الانتخابات، يدخل القطيع حلبة الصراع، وتشاهده على خشبة المسرح، وهو يقوم بأدوار المساندة والاختيار، اختيار من؟ اختيار أحد أفراد النخبة الحاكمة، لا أقل ولا أكثر؟ وهكذا يصبح للقطيع دورا مهما في اختيار من سيمثلهم َويحكمهم في المرحلة القادمة، وتشتغل الآلة الدعائية بإيهام القطيع بأن الحكم يتعلق بإدارة مصالحه والحفاظ عليها، بينما هي بالدرجة الأولى مصالح المجتمع الحاكم، و بين هذا وذاك يتم الاختيار، لكن المفارقة المضحكة في هذه المسرحية، هو أن القطيع لا يتمتع بحرية الاختيار، ذلك لأن من يترشح للانتخابات هو من تزكيه النخب الحاكمة، وتقدمه بصفته الكومبارس الجديد أو بلغة دعائية رجل المرحلة الذي سيدير الشأن العام.
أحيانا تهب الرياح بما لا تشتهيه السفن، فتقع أزمات سياسية أو اقتصادية، قد تتيح لبعض أفراد القطيع التسلل إلى خشبة التمثيل السياسي، و قد يحاول بعض هؤلاء زعزعة استقرار النخبة الحاكمة، فماذا قد يحدث يا ترى في هذا السياق؟ غالبا ما تتجند النخب ووسائل اتصالها لكبح جماح الوافد الجديد وتبخيس ثورته، و يعد هذا التسلل بمثابة انقلاب على الثوابت. أليس هذا ما وقع لجبهة الإنقاذ بالجزائر لما فازت بانتخابات 1991، فتم إلغاء النتائج وطرد الجبهة من العمل السياسي، مما أحدث شرخا خطيرا في المجتمع الجزائري، و دفع ببعض العناصر الإسلامية إلى حمل السلاح في وجه النظام؟ أليس هذا ما وقع للشيخ مرسي كذلك لما تسلل من المدرجات إلى الخشبة بعد أحداث الربيع العربي، فانتهى به المطاف في سجون مصر؟
ينكمش القطيع الضال في دور المتفرج على اللعبة السياسية، وهذا هو الدور التخديري الذي تحرص المسرحية الديمقراطية على القيام به على أكمل وجه، مسرحية تسهر على إخراجها وتوزيعها النخبة الحاكمة، وبين الفينة والأخرى يستدعى القطيع للمشاركة في الانتخابات واختيار من سيمثله في المراحل القادمة، بعدها يعود بوصفه متفرجا يشاهد فصول المسرحية على شاشات التلفزيون ويطالع أخبارها على صفحات الجرائد.
إن الدرس الذي نستخلصه من ديمقراطية الفرجة هذه هو أن من يمتلك مفاتيح المعرفة النافعة يسود ويحكم، ومادام القطيع محدود المعارف، وتنخر أحشائه الأمية كما هو حاصل في الدول المتخلفة، مخدرا مغيبا عن قضاياه، ولم يلج إلى المعلومة بعيدا عن مصفاة الدعاية، فهو إذن لا يمتلك خيارات حقيقية، سيظل سجينا في قفص يؤدي أدوار الزيف في مسرحية عنوانها:"مجتمع القرود وديمقراطية الفرجة."