بنخضرة تستعرض تقدم إنجاز خط أنبوب الغاز إفريقيا-الأطلسي بواشنطن    قمة الدول العربية الطارئة: ريادة مغربية واندحار جزائري    منع مشجعي اتحاد طنجة من مباراة المغرب الفاسي    مانشستر يونايتد يدخل التنافس على خدمات نايف أكرد    أفضلية إنجليزية وتفوق واضح للضيوف في ذهاب ثمن نهائي دوري أبطال أوروبا    فصل تلاوة القرآن الكريم في شهر رمضان    اتفاقية شراكة بين وكالة بيت مال القدس ووزارة التنمية الاجتماعية الفلسطينية للتكفل بالأيتام والأطفال مبتوري الأطراف ضحايا الحرب على غزة    شركة لإيلون ماسك تفاوض المغرب لتوفير الإنترنت عبر الأقمار الصناعية في الصحراء المغربية    إيرلندا تدعم جهود المبعوث الأممي    الأداء السلبي ينهي تداولات بورصة الدار البيضاء    توقعات نشاط قطاع البناء بالمغرب    أخبار الساحة    الكاف: إبراهيم دياز السلاح الفتاك لأسود الأطلس وريال مدريد!    تأجيل العطلة البينية بين مرحب ورافض    تساقطات ثلجية وزخات مطرية قوية مرتقبة اليوم الخميس بعدد من مناطق المملكة    طنجة تتصدر مقاييس الأمطار بالمغرب    ارتفاع عدد ضحايا حادثة السير المروعة على الطريق الساحلي باتروكوت    تأجيل ملف الطفلة "ملاك" إلى 13 مارس وسط مطالب بحريتها    قصص رمضانية...قصة الصبر على البلاء (فيديو)    سكينة درابيل: يجذبني عشق المسرح    الملك يهنئ رئيس غانا بالعيد الوطني    السمنة تهدد صحة المغاربة .. أرقام مقلقة ودعوات إلى إجراءات عاجلة    عائلات محطمة بسبب مآسي الهجرة سباحة إلى سبتة مع تزايد أعداد المفقودين    "مرجع ثقافي يصعب تعويضه".. وفاة ابن تطوان الأستاذ مالك بنونة    الفاتنة شريفة وابن السرّاج    حملات مراقبة بالأسواق والمحلات التجارية بأربعاء الساحل بإقليم تزنيت    "كونفدرلية المقاولات الصغرى" تحذر من غياب الشفافية في صرف الدعم الحكومي للمقاولات    مؤشر الإرهاب العالمي 2025    تسرب الغاز في حقل "تورتو أحميم" يهدد مستقبل مشروع ضخم بين موريتانيا والسنغال    السعودية تدعم مغربية الصحراء وتعتبر مبادرة الحكم الذاتي حلا وحيدا لهذا النزاع الإقليمي    كأس العرب قطر 2025 في فاتح ديسمبر    خبير يدعو إلى ضرورة أخذ الفئات المستهدفة للتلقيح تجنبا لعودة "بوحمرون"    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها بأداء إيجابي    تضامنا مع حراس الأمن المضربين ببني ملال.. نقابة تحتج للمطالبة بإنهاء معاناتهم    إحباط تهريب مخدرات على متن شاحنة في الميناء المتوسطي    بريظ: تسليم مروحيات أباتشي يشكل نقلة نوعية في مسار تعزيز الشراكة الاستراتيجية بين المغرب والولايات المتحدة    تقارير تنفي اعتزال اللاعب المغربي زياش دوليا    البيض ماكلة الدرويش.. تا هو وصل لأثمنة غير معقولة فعهد حكومة أخنوش.. فين غاديين بهاد الغلاء؟ (فيديو)    المكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني يعقد اجتماعا برئاسة شي جين بينغ لمناقشة مسودة تقرير عمل الحكومة    أمطار رعدية في توقعات طقس الخميس    قمة أوروبية طارئة بمشاركة زيلينسكي على ضوء تغير الموقف الأمريكي بشأن أوكرانيا    اليابان.. قتيل وجريحان في انفجار بمصنع لقطع غيار السيارات    المغرب حصن عزة وتلاحم أبدي بين العرش والشعب أسقط كل المؤامرات    أوزين: عدم التصويت على قانون الإضراب مزايدة سياسية والقانون تضمن ملاحظات الأغلبية والمعارضة    الأمم المتحدة تحذر من قمع منهجي لنشطاء حقوق الإنسان في الجزائر    صرخة خيانة تهز أركان البوليساريو: شهادة صادمة تكشف المستور    لهذه الاسباب سيميوني مدرب الأتليتيكو غاضب من المغربي إبراهيم دياز … !    وزارة الصحة : تسجيل انخفاض متواصل في حالات الإصابة ببوحمرون    عمرو خالد: 3 أمراض قلبية تمنع الهداية.. و3 صفات لرفقة النبي بالجنة    مسؤول يفسر أسباب انخفاض حالات الإصابة بفيروس الحصبة    «دلالات السينما المغربية»:إصدار جديد للدكتور حميد اتباتويرسم ملامح الهوية السينمائية وعلاقتهابالثقافة والخصائص الجمالية    «محنة التاريخ» في الإعلام العمومي    القناة الثانية تتصدر المشهد الرمضاني بحصّة مشاهدة 36%    أمن طنجة يحقق في واقعة تكسير زجاج سيارة نقل العمال    مكملات غذائية تسبب أضرارًا صحية خطيرة: تحذير من الغرسنية الصمغية    عمرو خالد يكشف "ثلاثية الحماية" من خداع النفس لبلوغ الطمأنينة الروحية    في حضرة سيدنا رمضان.. هل يجوز صيام المسلم بنية التوبة عن ذنب اقترفه؟ (فيديو)    عمرو خالد: هذه أضلاع "المثلث الذهبي" لسعة الأرزاق ورحابة الآفاق    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هدم الديكورات الثورية إرضاء لماما أمريكا
نشر في دنيابريس يوم 12 - 03 - 2011

مسلسل عميد الطغاة العرب أو الوافي الكافي في فكّ طلاسم القذافي
” الحلقة الثالثة ”
بعد تأكد القذافي أنّ هجوم الدول الغربية جاد هذه المرة عليه وعلى نظامه ، خاصة بعد تطبيق قرار مجلس الامن القاضي بفرض العقوبات للمرة الثانية من 15-8-92 وحتى 15-12-92 ، وأنّ مجلس الامن سوف يعود في هذا التاريخ للنظر فيما إذا امتثل الطاغية لشروط الغرب أم لا ، كي يرفع العقوبات أم يجددها للمرة الثالثة ، سارع العقيد لارضاء أمريكا باتخاذ العديد من الإجراءات العاجلة ، ومنهاهدم العديد من الهياكل الادارية والسياسية والاعلامية التي أقامها اساسا للترويج لجماهيريته وعقده النفسية، منفقا عليها مليارات من ثروة الشعب الليبي الذي نتيجة هذا التبذير والفساد، كان وما يزال الدخل القومي للفرد فيه ، لا يختلف عن دخل الفرد في الدول الفقيرة غير النفطية. وقد طالت عملية الهدم هذه الديكورات التالية عقب أكتوبر 1992 :
1- جمعية الدعوة الاسلامية ، وهي جمعية كانت تدّعي أنها تعمل في مجال نشر الإسلام في مختلف القارات .أسسها الطاغية عام 1973 ، وكان يرأس مجلس إدارتها الدكتور محمد الشريف وزير تربية قذافي سابق . وقد كان للجمعية مكاتب وممثلون فيما لا يقل عن ثلاثين عاصمة في الدول الأسيوية والافريقية ، وامتدت نشاطاتها لتشمل كافة العواصم التي توجد فيها جاليات إسلامية. وقد حاول العقيد في سنوات 1990 – 1992 ، دعم نشاطاتها الإعلامية فألحق بها بعض الإعلاميين الليبيين مثل القصاص (زياد علي) والصحفي (علي ماريا) رئيس تحرير مجلة الثقافة العربية، وسفير ليبيا في الإمارات العربية سابقا، والقائم بالأعمال في القاهرة حاليا. وقد اشتهرت الجمعية في سنوات تأسيسها الاولى ببحثها وترغيبها غير المسلمين من العرب والأجانب على دخول الاسلام مقابل (35000) دولار لمن يشهر إسلامه أمام شيوخ الجمعية . وقد لاقت هذه الدعوة – والتي تبدو وكأنها نكتة- استجابة واسعة بين العديد ممن استهوتهم هذه المبالغ من الدولارات ، الى حد أنَ العديد من الصحفيين والكتاب كان يتمنى لو أنه ولد مسيحيا ، كي يستفيد من هذه الثروة التي لا تكلف صاحبها سوى الوقوف أمام شيوخ الجمعية المدّعين أيضا، والنطق بالشهادتين ( أشهد أنّ لا إله إلا الله وأنّ محمدا رسول الله) . وفي أعوام 1974 و 75 و 76 و 77 نطق بهاتين الشهادتين العديد من الصحفيين الغربيين الذين كانوا يزورون طرابلس، أو يعملون فيها وكان أشهر من استغل هذه الدعوة الملاكم الأمريكي محمد علي كلاي ، الذي نقدته الجمعية حوالي خمسة ملايين دولار عام 1979 ، مقابل إشهار اسلامه ومن أجل بناء مسجد في نيويورك . وأتذكر أننا كنا تلك الليلة من ذلك العام في فندق الشاطئ الذهبي ، الذي كان آنذاك الفندق الوحيد من فنادق الدرجة الاولى في طرابلس، ودخل محمد علي كلاي صالة الفندق وهو يصفر ويرقص نشوة وطربا ، فهرعنا نسأل عن أسباب هذه النشوة ،فأجابنا صحفي عربي كندي الجنسية ومقيم في كندا، كان يرافقه للترجمة أنه – أي كلاي- ربما يصاب الليلة بالجنون ،لأنه لا يصدق وجود (مهابيل) ينقدونه خمسة ملايين دولار من أجل نطقه بجملة لا يفهم معناها، ولا ماذا يريد منه الذين نقدوه الملايين الخمسة. أما الصحفي العربي
فقد حصل على مبالغ طائلة لترجمة الكتاب لأخضر ، وتوزيعه في أمريكا وكندا. وبعد ذلك لم يبن كلاي مسجدا في نيويورك، ولا توزع الكتاب الأخضر في أمريكا وكندا، لأنه في حالة ترجمته سيخجل من قام بذلك من توزيعه.
تبذير ثروة الشعب الليبي ثم إغلاقها
وقد أنفق الطاغية مئات الملايين على جمعية الدعوة الاسلامية ،فقط كي توزع القرآن الكريم عبر مكاتبها في مختلف العواصم، غطاءا لتوزع معه كتيبه الذي لا يحيض (الكتاب الأخضر)، ومعه خطب وبياناته، الذي كان يطرح نفسه من خلالها في الدول الإسلامية – غير العربية- على أنه (مفكر اسلامي) يعمل من أجل الصحوة الاسلامية ، وتوحيد جهود العالم الاسلامي ، كما أنّ مكاتبها كانت مرتعا وغطاء للعديد من عناصر مخابراته وأمنه خاصة في مجال تعقب أعضاء المعارضة الليبية واغتيالهم. وفي السنوات التي أعقبت عام 1992 ،دخلت جمعية دعوته الإسلامية مجال الاستثمار العقاري في داخل ليبيا وخارجها ، فأقامت لأولاده وعائلته مشاريع استثمارية كان أهمها أبراج المكاتب الخمسة ، وهي عبارة عن خمسة عمارات (12 طابقا) أقامتها له شركات تركية وصينية على شاطئ البحر جوار فندق باب البحر ، وقد خصصت هذه الأبراج الفخمة مكاتب للشركات والسفارات الأجنبية فقط ، على أن تؤجر لها بالعملات الصعبة، وقد كانت هذه الابراج الخمسة آنذاك أضخم مشروع عقاري في جماهيرية الخوف والموت.
وبعد كل هذا التبذير، ولإرضاء أمريكا والدول الغربية، توقف عن كونه داعية إسلاميا، يسعى لنشر الإسلام، فأعلن الطاغية عبر أجهزة (مؤتمر الشعب العام )، الذي هو مكاتب خاصة به ومخابراته ولا علاقة للشعب بها، في دورته الاخيرة (آب اغسطس) 1991 ، الغاء هذه الجمعية واقفالها نهائيا ووقف نشاطاتها وتصفية ممتلكاتها وتوزيع العاملين فيها على الدوائر الحكومية الليبية، وهو يدرك أنّ هذا القرار يعني لدى الدوائر الغربية اقفال مكاتب الامن والمخابرات التي كانت تعمل تحت غطاء ولافتات هذه الجمعية ، وبعدها سيأتي الدور على ما سمّاه مؤتمر الشعب العام.
2- ( مؤتمر الشعب العربي ) هو اسم الهيئة التي شكلها القذافي عام 1977 عقب زيارة السادات لاسرائيل، حيث أعلن آنذاك أنه يشكل هذا المؤتمر ليقوم بمحاكمة السادات على جريمته المتمثلة في زيارة اسرائيل، واستقدم لذلك العديد من السياسيين والمحامين العرب خاصة من المعارضة المصرية ، وعقدوا محاكمة شكلية للسادات حكموا عليه فيها بالاعدام . ولمّا وجد القذافي أنه يمكن استغلال هذا الديكور لبناء علاقات جديدة والتبشير بأفكاره (الخضراء)، قام برصد الأموال اللازمة لجعل (مؤتمر الشعب العربي) هيئة عربية دائمة مقرها طرابلس، وبالفعل تم تخصيص جناح في (قصر الشعب) ليكون مقرا للمؤتمر. ولمّا كثر زبائنه وعملاؤه انتقل المقر الى بناء كامل ضخم من ثلاثة طوابق في وسط العاصمة التجاري في شارع الفاتح قريبا من الشاطئ خلف (الفندق الكبير) أفخم وأقدم فنادق طرابلس ، لتكون اقامة الوفود سهلة وغير متعبة في التنقل. وقد تشكلت للمؤتمر (أمانة عامة) برئاسة الليبي (عمر الحامدي) وعضوية حوالي 12 عضوا تم اختيارهم من مختلف الاحزاب العربية ذات التوجه والبضاعة القومية.
وكان أطرف اعلان صدر عن (مؤتمر الشعب العربي) هو إعلان بعض أعضاء الامانة العامة المصريين ، أنّ حادث اغتيال السادات في حادث المنصة الشهير، أكتوبر 1981 كان تنفيذا لقرار مؤتمر الشعب العربي عام 1977 بإعدامه.
هذا وقد تخصص المؤتمر في عقد الندوات والمؤتمرات التي تخدم توجه المفكر العالمي الطاغية القذافي ، وكان أطرفها ما أطلق عليه مؤتمر(أحزاب المعارضة الرسمية المعترف بها في أقطارها) ، الذي عقد في طرابلس في عام 1987، وكان مسرحية هزلية بمعنى الكلمة . كانت فكرة المؤتمر في البداية أن يكون مؤتمرا لاحزاب المعارضة العربية ، و هذا يعني دعوة أحزاب المعارضة التي تقف موقفا معارضا وربما عدائيا من حكومات وأنظمة اقطارها. إلا أنّ التطبيق الكامل لهذا المفهوم كان يعني دعوة أحزاب المعارضة السورية والعراقية واليمنية والجزائرية ، وهذا يوتر علاقات الطاغية الجماهيري مع أنظمة البلدان الاربعة المذكورة التي كانت حليفة أو شبه حليفة له. فأعاد القذافي التفكير في أمر هذا المؤتمر خاصة بعد تجميد حزب البعث السوري لمشاركته في نشاطات الامانة العامة لمؤتمر الشعب العربي، وبعد تفكير طويل اهتدى القذافي وعمر الحامدي لمسرحية هزلية ولا مسرحيات الفرنسي موليير ، إذ قرّرا عقد المؤتمر لأحزاب المعارضة العربية المعترف بها رسميا في أقطارها مثل حزب التجمع التقدمي الوحدوي في مصر. وبهذا الإخراج التافه لم تدع أية احزاب معارضة سورية و عراقية ويمنية وجزائرية ، إذ ليس في هذه الدول أحزاب معارضة معترف بها ، وبذلك أزال مفكر الكتاب الأخضر عن نفسه الحرج كما اعتقد ، وشارك في المؤتمر ممثلون لجبهة الانقاذ الوطني الفلسطيني الديكورية أيضا بصفتها أحزاب معارضة لمنظمة التحرير الفلسطينية.
هذا وقد أصبح مؤتمر الشعب العربي خلال تلك السنوات، إقطاعية خاصة لمالكها وصاحبها الملازم القذافي ووكيله العام فيها عمر الحامدي ، يشترون من خلالها الاقلام والذمم ويوزعون العملاء والرشاوي. وهكذا ما إن ادرك الملازم القذافي الصباح ، وأيقن أنّ تهديدات أمريكا جادة ، حتى انحنى خاضعا مستجديا الرحمة، فهو على استعداد لتنفيذ طلبات القوى الغربية، فقط ليبقى في السلطة ينهب الثروة والشعب والوطن. لذلك بدأ بتفكيك مؤتمر الشعب العربي فلم يعد هناك حاجة قذافية لا للشعب العربي ولا لمؤتمر يحمل اسمه، طالما إرضاء أمريكا والغرب يتطلب ذلك.
حاكم يقصف شعبه بالطائرات
من يصدّق هذا الجنون؟ إنّ التمتع بالسلطة والبلاد والعباد ، وتحول كل فرد من عائلته إلى إقطاعية خاصة تملك المليارات، وجنون كهذا يستمر 42 عاما، لن يصدّق أنّ شعبه بعد كل هذا السكون يثور عليه ثورة عارمة، إقتربت من الإطاحة به ومحاكمته، لذلك فهو مستعد لقصفهم ليس بالطائرات، ولكن بالقنابل النووية إن امتلكها. فهذا الشعب هو (عدوه ) وبالتالي فشعاره ( عليّ وعلى أعدائي )، فهل يعقل بعد كل هذا الطغيان والاستبداد، أنّ يثور عليه الشعب ويحاكمه كمجرم؟. تلك هي نهاية الطغاة التي بدأها الشعب العربي بعد سكون وذلّ دام طويلا.
[email protected]
www.dr-abumatar.net
د.أحمد أبو مطر
مسلسل عميد الطغاة العرب أو الوافي الكافي في فكّ طلاسم القذافي
” الحلقة الثالثة ”
بعد تأكد القذافي أنّ هجوم الدول الغربية جاد هذه المرة عليه وعلى نظامه ، خاصة بعد تطبيق قرار مجلس الامن القاضي بفرض العقوبات للمرة الثانية من 15-8-92 وحتى 15-12-92 ، وأنّ مجلس الامن سوف يعود في هذا التاريخ للنظر فيما إذا امتثل الطاغية لشروط الغرب أم لا ، كي يرفع العقوبات أم يجددها للمرة الثالثة ، سارع العقيد لارضاء أمريكا باتخاذ العديد من الإجراءات العاجلة ، ومنهاهدم العديد من الهياكل الادارية والسياسية والاعلامية التي أقامها اساسا للترويج لجماهيريته وعقده النفسية، منفقا عليها مليارات من ثروة الشعب الليبي الذي نتيجة هذا التبذير والفساد، كان وما يزال الدخل القومي للفرد فيه ، لا يختلف عن دخل الفرد في الدول الفقيرة غير النفطية. وقد طالت عملية الهدم هذه الديكورات التالية عقب أكتوبر 1992 :
1- جمعية الدعوة الاسلامية ، وهي جمعية كانت تدّعي أنها تعمل في مجال نشر الإسلام في مختلف القارات .أسسها الطاغية عام 1973 ، وكان يرأس مجلس إدارتها الدكتور محمد الشريف وزير تربية قذافي سابق . وقد كان للجمعية مكاتب وممثلون فيما لا يقل عن ثلاثين عاصمة في الدول الأسيوية والافريقية ، وامتدت نشاطاتها لتشمل كافة العواصم التي توجد فيها جاليات إسلامية. وقد حاول العقيد في سنوات 1990 – 1992 ، دعم نشاطاتها الإعلامية فألحق بها بعض الإعلاميين الليبيين مثل القصاص (زياد علي) والصحفي (علي ماريا) رئيس تحرير مجلة الثقافة العربية، وسفير ليبيا في الإمارات العربية سابقا، والقائم بالأعمال في القاهرة حاليا. وقد اشتهرت الجمعية في سنوات تأسيسها الاولى ببحثها وترغيبها غير المسلمين من العرب والأجانب على دخول الاسلام مقابل (35000) دولار لمن يشهر إسلامه أمام شيوخ الجمعية . وقد لاقت هذه الدعوة – والتي تبدو وكأنها نكتة- استجابة واسعة بين العديد ممن استهوتهم هذه المبالغ من الدولارات ، الى حد أنَ العديد من الصحفيين والكتاب كان يتمنى لو أنه ولد مسيحيا ، كي يستفيد من هذه الثروة التي لا تكلف صاحبها سوى الوقوف أمام شيوخ الجمعية المدّعين أيضا، والنطق بالشهادتين ( أشهد أنّ لا إله إلا الله وأنّ محمدا رسول الله) . وفي أعوام 1974 و 75 و 76 و 77 نطق بهاتين الشهادتين العديد من الصحفيين الغربيين الذين كانوا يزورون طرابلس، أو يعملون فيها وكان أشهر من استغل هذه الدعوة الملاكم الأمريكي محمد علي كلاي ، الذي نقدته الجمعية حوالي خمسة ملايين دولار عام 1979 ، مقابل إشهار اسلامه ومن أجل بناء مسجد في نيويورك . وأتذكر أننا كنا تلك الليلة من ذلك العام في فندق الشاطئ الذهبي ، الذي كان آنذاك الفندق الوحيد من فنادق الدرجة الاولى في طرابلس، ودخل محمد علي كلاي صالة الفندق وهو يصفر ويرقص نشوة وطربا ، فهرعنا نسأل عن أسباب هذه النشوة ،فأجابنا صحفي عربي كندي الجنسية ومقيم في كندا، كان يرافقه للترجمة أنه – أي كلاي- ربما يصاب الليلة بالجنون ،لأنه لا يصدق وجود (مهابيل) ينقدونه خمسة ملايين دولار من أجل نطقه بجملة لا يفهم معناها، ولا ماذا يريد منه الذين نقدوه الملايين الخمسة. أما الصحفي العربي
فقد حصل على مبالغ طائلة لترجمة الكتاب لأخضر ، وتوزيعه في أمريكا وكندا. وبعد ذلك لم يبن كلاي مسجدا في نيويورك، ولا توزع الكتاب الأخضر في أمريكا وكندا، لأنه في حالة ترجمته سيخجل من قام بذلك من توزيعه.
تبذير ثروة الشعب الليبي ثم إغلاقها
وقد أنفق الطاغية مئات الملايين على جمعية الدعوة الاسلامية ،فقط كي توزع القرآن الكريم عبر مكاتبها في مختلف العواصم، غطاءا لتوزع معه كتيبه الذي لا يحيض (الكتاب الأخضر)، ومعه خطب وبياناته، الذي كان يطرح نفسه من خلالها في الدول الإسلامية – غير العربية- على أنه (مفكر اسلامي) يعمل من أجل الصحوة الاسلامية ، وتوحيد جهود العالم الاسلامي ، كما أنّ مكاتبها كانت مرتعا وغطاء للعديد من عناصر مخابراته وأمنه خاصة في مجال تعقب أعضاء المعارضة الليبية واغتيالهم. وفي السنوات التي أعقبت عام 1992 ،دخلت جمعية دعوته الإسلامية مجال الاستثمار العقاري في داخل ليبيا وخارجها ، فأقامت لأولاده وعائلته مشاريع استثمارية كان أهمها أبراج المكاتب الخمسة ، وهي عبارة عن خمسة عمارات (12 طابقا) أقامتها له شركات تركية وصينية على شاطئ البحر جوار فندق باب البحر ، وقد خصصت هذه الأبراج الفخمة مكاتب للشركات والسفارات الأجنبية فقط ، على أن تؤجر لها بالعملات الصعبة، وقد كانت هذه الابراج الخمسة آنذاك أضخم مشروع عقاري في جماهيرية الخوف والموت.
وبعد كل هذا التبذير، ولإرضاء أمريكا والدول الغربية، توقف عن كونه داعية إسلاميا، يسعى لنشر الإسلام، فأعلن الطاغية عبر أجهزة (مؤتمر الشعب العام )، الذي هو مكاتب خاصة به ومخابراته ولا علاقة للشعب بها، في دورته الاخيرة (آب اغسطس) 1991 ، الغاء هذه الجمعية واقفالها نهائيا ووقف نشاطاتها وتصفية ممتلكاتها وتوزيع العاملين فيها على الدوائر الحكومية الليبية، وهو يدرك أنّ هذا القرار يعني لدى الدوائر الغربية اقفال مكاتب الامن والمخابرات التي كانت تعمل تحت غطاء ولافتات هذه الجمعية ، وبعدها سيأتي الدور على ما سمّاه مؤتمر الشعب العام.
2- ( مؤتمر الشعب العربي ) هو اسم الهيئة التي شكلها القذافي عام 1977 عقب زيارة السادات لاسرائيل، حيث أعلن آنذاك أنه يشكل هذا المؤتمر ليقوم بمحاكمة السادات على جريمته المتمثلة في زيارة اسرائيل، واستقدم لذلك العديد من السياسيين والمحامين العرب خاصة من المعارضة المصرية ، وعقدوا محاكمة شكلية للسادات حكموا عليه فيها بالاعدام . ولمّا وجد القذافي أنه يمكن استغلال هذا الديكور لبناء علاقات جديدة والتبشير بأفكاره (الخضراء)، قام برصد الأموال اللازمة لجعل (مؤتمر الشعب العربي) هيئة عربية دائمة مقرها طرابلس، وبالفعل تم تخصيص جناح في (قصر الشعب) ليكون مقرا للمؤتمر. ولمّا كثر زبائنه وعملاؤه انتقل المقر الى بناء كامل ضخم من ثلاثة طوابق في وسط العاصمة التجاري في شارع الفاتح قريبا من الشاطئ خلف (الفندق الكبير) أفخم وأقدم فنادق طرابلس ، لتكون اقامة الوفود سهلة وغير متعبة في التنقل. وقد تشكلت للمؤتمر (أمانة عامة) برئاسة الليبي (عمر الحامدي) وعضوية حوالي 12 عضوا تم اختيارهم من مختلف الاحزاب العربية ذات التوجه والبضاعة القومية.
وكان أطرف اعلان صدر عن (مؤتمر الشعب العربي) هو إعلان بعض أعضاء الامانة العامة المصريين ، أنّ حادث اغتيال السادات في حادث المنصة الشهير، أكتوبر 1981 كان تنفيذا لقرار مؤتمر الشعب العربي عام 1977 بإعدامه.
هذا وقد تخصص المؤتمر في عقد الندوات والمؤتمرات التي تخدم توجه المفكر العالمي الطاغية القذافي ، وكان أطرفها ما أطلق عليه مؤتمر(أحزاب المعارضة الرسمية المعترف بها في أقطارها) ، الذي عقد في طرابلس في عام 1987، وكان مسرحية هزلية بمعنى الكلمة . كانت فكرة المؤتمر في البداية أن يكون مؤتمرا لاحزاب المعارضة العربية ، و هذا يعني دعوة أحزاب المعارضة التي تقف موقفا معارضا وربما عدائيا من حكومات وأنظمة اقطارها. إلا أنّ التطبيق الكامل لهذا المفهوم كان يعني دعوة أحزاب المعارضة السورية والعراقية واليمنية والجزائرية ، وهذا يوتر علاقات الطاغية الجماهيري مع أنظمة البلدان الاربعة المذكورة التي كانت حليفة أو شبه حليفة له. فأعاد القذافي التفكير في أمر هذا المؤتمر خاصة بعد تجميد حزب البعث السوري لمشاركته في نشاطات الامانة العامة لمؤتمر الشعب العربي، وبعد تفكير طويل اهتدى القذافي وعمر الحامدي لمسرحية هزلية ولا مسرحيات الفرنسي موليير ، إذ قرّرا عقد المؤتمر لأحزاب المعارضة العربية المعترف بها رسميا في أقطارها مثل حزب التجمع التقدمي الوحدوي في مصر. وبهذا الإخراج التافه لم تدع أية احزاب معارضة سورية و عراقية ويمنية وجزائرية ، إذ ليس في هذه الدول أحزاب معارضة معترف بها ، وبذلك أزال مفكر الكتاب الأخضر عن نفسه الحرج كما اعتقد ، وشارك في المؤتمر ممثلون لجبهة الانقاذ الوطني الفلسطيني الديكورية أيضا بصفتها أحزاب معارضة لمنظمة التحرير الفلسطينية.
هذا وقد أصبح مؤتمر الشعب العربي خلال تلك السنوات، إقطاعية خاصة لمالكها وصاحبها الملازم القذافي ووكيله العام فيها عمر الحامدي ، يشترون من خلالها الاقلام والذمم ويوزعون العملاء والرشاوي. وهكذا ما إن ادرك الملازم القذافي الصباح ، وأيقن أنّ تهديدات أمريكا جادة ، حتى انحنى خاضعا مستجديا الرحمة، فهو على استعداد لتنفيذ طلبات القوى الغربية، فقط ليبقى في السلطة ينهب الثروة والشعب والوطن. لذلك بدأ بتفكيك مؤتمر الشعب العربي فلم يعد هناك حاجة قذافية لا للشعب العربي ولا لمؤتمر يحمل اسمه، طالما إرضاء أمريكا والغرب يتطلب ذلك.
حاكم يقصف شعبه بالطائرات
من يصدّق هذا الجنون؟ إنّ التمتع بالسلطة والبلاد والعباد ، وتحول كل فرد من عائلته إلى إقطاعية خاصة تملك المليارات، وجنون كهذا يستمر 42 عاما، لن يصدّق أنّ شعبه بعد كل هذا السكون يثور عليه ثورة عارمة، إقتربت من الإطاحة به ومحاكمته، لذلك فهو مستعد لقصفهم ليس بالطائرات، ولكن بالقنابل النووية إن امتلكها. فهذا الشعب هو (عدوه ) وبالتالي فشعاره ( عليّ وعلى أعدائي )، فهل يعقل بعد كل هذا الطغيان والاستبداد، أنّ يثور عليه الشعب ويحاكمه كمجرم؟. تلك هي نهاية الطغاة التي بدأها الشعب العربي بعد سكون وذلّ دام طويلا.
[email protected]
www.dr-abumatar.net


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.