نور الدين طويلع تأبط الراعي إدريس عصاه النخرة التي يتكأ عليها كلما أعياه المسير،ويهش بها على أبقاره،ويقضي بها مآرب أخرى،ووضع حقيبته على ظهره قاصدا حظيرة البقر، وزع نظراته على جماعة الأبقار والعجول والثيران، فشعر بنوع من عدم الارتياح بعدما لحظت عيناه خدوشا بليغة على أجسادها،وهو الذي تركها البارحة سليمة معافاة،وودعها وقلبه مطمئن... من فعل هذا بأبقاري ياترى؟ تساءل إدريس،ثم أردف دون أن ينتظر جوابا: إن هذا لمكر مكره شخص يعرف ما يفعل ويدري جيدا حجم جريمته،لئن ضبطته لأقطعن دابره، أو لأرجمنه، لكن أنى لي هذا وأنا أمام خصم هلامي ربما جاء من كوكب غير كوكبنا ... بعد هذا الوعيد المنذر بالغضب المستطير خلد إدريس إلى تأمل عميق مصحوب بوجوم كأن على رأسه الطير،وسرعان ماتذكر أن الوقت يداهمه وأن أوان إخراج القطيع قد اقترب،ففتح باب الحظيرة الذي لم يكن موصدا بالعناية الكافية آذنا بذلك لقطيعه بمغادرتها والتوجه إلى الحقول والمزارع من أجل ملء البطون الخمصة والالتقاء بصنواتها،ومباشرة العمل بالنسبة إليه، في الطريق لاحظ إقدام الأبقار على تصرفات غريبة لم يعهدها من ذي قبل،كأن الخدوش تطورت إلى لوثات دماغية أصابت عقولها في مقتل، أصدر بعضها خوارا غريبا، ونطح بعضها البعض الآخر،وخثئ آخرون بشكل متواصل ودون توقف ، ورغم كل هذه السلوكات المستفزة حافظ إدريس على توازنه العصبي، فلم يشتم ولم يسب ولم يضرب ولم يطرد أحدا امتثالا لتوصيات مالك الأبقار ، بيد أن صبره هذا لم يدم طويلا، فقد خارت قواه العصبية ونسي ما أفضي به إليه، ولم يجد عزما أمام ثور فسق عن أمره وأتى لوحده بكل ماجاءت به الأبقار مجتمعة،فانهال عليه ضربا وأرغد وأزبد، وكتب تقريرا في الأمر وجهه إلى راعي الرعاة الذي دعا إلى عقد محكمة ومؤتمر للبث في قضية الثور الهائج الناشز،( فقال قائل : لقد كفر) وأتى (بجريمة لاتغتفر)، ورد عليه آخر : دع الأبقار تخوض وتلعب، الذنب ليس ذنبها، بل ذنبنا نحن الرعاة الذين لم نحسن تربيتها وشغلتنا أنفسنا وأموالنا عنها حتى أنستنا ما علينا من حقوق تجاه البقر، فصارت عجافا تدخل البؤس والأسى إلى قلوب الناظرين. اشتد وطيس النقاش، وفي خضمه رفع ثالث عقيرته قائلا:عجافة الأبقارهذه مردها إلى رداءة عشبها وكلئها اللذين لم تعد لهما أية قيمة غذائية تذكر سوى ملء فراغ البطون بما لا يناسب، كنتيجة حتمية لاستجابتنا لأوامر صناديق وأبناك الأعلاف الآتية من وراء البحار. تدخل راعي الرعاة لفض اللجاج وتهدئة الوضع قائلا: أتفهم قلق الجميع، وسأضطر لمصارحتكم بأننا لانستطيع اتخاذ أي قرار كيفما كان نوعه، لأن أربابنا أوصوني وأوصوكم عن طريقي بالتزام الصمت تجاه انحراف البقر، وإلا سيتهموننا بالظلم والإجحاف والشطط وشق عصا الطاعة ، لذا سنكتفي بجعل لقائنا هذا تشاوريا خلاصته : جميعا من أجل زرع روح البقر في البقر، ومنحه فرصة أخيرة كي يعود راشدا إلى الحظيرة . طأطأ الجميع رؤوسهم مؤذنين باستجابة صامتة على قرار لاناقة لهم ولا جمل في صياغته ،لأنه لا طاقة لأحد منهم على مخالفة أمرراعي الرعاة وأسياد راعي الرعاة. انفض الاجتماع ، وبعد حين من الدهر سمعت حادثة مثيرة، لم ترجع الثيران والأبقار كما أريد لها ، ولكن رمى الرعاة عصيهم وتوجهوا فرادى وزمرا إلى غرفة العناية المركزة رغبة في الخلود إلى الراحة الأبدية. للحقيقة العلمية : اقتبست بعض المقاطع في آخرالقصة من قصيدة الثور والحظيرة للشاعر أحمد مطر.