محمد لكموش باحث في العلوم السياسية لقد شكل شعار حزب الديمقراطيين الجدد "قليل من الايدولوجيا وكثير من النجاعة والفعالية"، موضوع أسئلة كثيرة سواء من قبل الإعلاميين والمتتبعين لتجربة تأسيس أول حزب لما بعد دستور فاتح يوليوز 2011، أو من قبل منخرطيه، وكذا الذين يودون الالتحاق به، بالنظر لأهمية الشعار الذي يهدف من وراءه الحزب الابتعاد عن الخطابات الإيديولوجية التي احتلت المشهد الحزبي لما يناهز خمسة عقود، المتمثلة في الصراع بين اليسار الاشتراكي واليمين المحافظ في مختلف تجلياته الاقتصادية بين خيار الرأسمالية أو الاشتراكية، أو السياسية بين خيار نمط تدبير الحكم، وهو ما انعكس سلبا عن مسألة الحكامة الحزبية في تدبير شؤون المواطنين؛ هذا ما سنتناوله بالتحليل من خلال مستويين: المستوى الأول: في انحسار الصراع الإيديولوجي كمحدد لهوية الأحزاب السياسية تعتبر أطروحة عالم الاجتماع الأمريكي الشهير دانيل بيل في سبعينيات من القرن الماضي عن "نهاية الإيديولوجية" من أولى الكتابات التي تناولت الصراع الإيديولوجي الذي كان بين الشيوعية في تطبيقها السوفياتي، والرأسمالية التي تقودها الولاياتالمتحدة الأميركية. غير أنه ومهما يقال عن انحسار أية إيديولوجية نتيجة الممارسة، أو نتيجة تناقضاتها الداخلية والضغوط الخارجية عليها،فلابد من أن تنهض على أساسها أيديولوجيات أخرى لأنها ضرورية لتوجيه السلوك السياسي والاقتصادي والثقافي في المجتمع، كما هو الشأن مع الليبرالية الجديدة. كما شكل محدودية النتائج التي عول عليها نفس الباحث حول مشروع الحداثة الغربية حين قرر في عبارة قاطعة "أن الحداثة وصلت إلى منتهاها"، بمعنى أنها لم تحقق وعودها التي قامت على أساس احترام الفردية والعقلانية والاعتماد على العلم والتكنولوجيا لحل مشكلات البشر، وتبني نظرية "خطية" Linear عن التقدم، بمعنى أن التاريخ يتقدم من مرحلة إلى مرحلة أخرى. وقد أدى هذا النقد العنيف إلى نشوء حركة "ما بعد الحداثة" والتي – على عكس حركة الحداثة – لا تتبنى مفاهيم عامة مجردة عن "الحقيقة"، ولا تنطلق من الأيديولوجيات كالاشتراكية أو الماركسية أو الرأسمالية، ولا تقبل أن تدعي أي حركة فكرية أنها تمتلك الحقيقة المطلقة. ولذلك أعلنت حركة "ما بعد الحداثة" سقوط الأيديولوجيات باعتبارها أنساقًا فكرية مغلقة وصعود الأنساق الفكرية المفتوحة التي تقبل بالتأليف الخلاق بين تغيرات كان يظن من قبل أنه لا يمكن التأليف بينها، مثل العلمانية والدين، والقطاع العام والقطاع الخاص. لقد تحول الاهتمام من الأحزاب السياسية العريضة بتنوعاتها الأيديولوجية المختلفة، والتي أثبتت الممارسة الفعلية في نظم ديمقراطية شتى أنها عجزت عن إشباع الحاجات الأساسية للجماهير، وضاع التمايز في خطابها الأيديولوجي، بعد أن ذابت الفروق بين اليمين واليسار بسبب طغيان عصر العولمة وانهيار الحركات الأيديولوجية اليسارية وانهيار نظريات التخطيط الاقتصادي لحساب اقتصاديات السوق، مما أدى إلى صعود مؤسسات المجتمع المدني بأنماطها المتعددة والتي تركز على حقوق الأفراد السياسية و الاقتصادية والثقافية بعيدً عن شعارات الأيديولوجيات الكلية التي كانت تدعي – في ظل مزاعم احتكار الحقيقة المطلقة – حل مشكلات البشر. وقد أدى ذلك إلى ضعف الإيمان بالأحزاب السياسية باعتبارها – وفقًا للعبارة الشهيرة – ممثلة لمصالح الجماهير، وتصاعدت الثقة في قدرة مؤسسات المجتمع المدني، التي لديها قدرة على التفاعل المباشر مع الناس وليس من خلال "ممثلين" عنهم سواء كانوا نوابًا في المجالس المحلية أو المجالس النيابية، وخصوصًا أن فكرة "التمثيل" ذاتها وجهت لها انتقادا عنيفا في العقود الأخيرة من زوايا متعددة، لعل أهمها قاطبة أن من "يمثل" الناس عادة ما يتحول لكي يمثل الطبقة الاجتماعية المسيطرة، وهكذا تضيع حقوق البشر، لذا كان الحديث في الدساتير الحديثة عن الديمقراطية التشاركية والديمقراطية المواطنة التي جاءت مكملة للأولى بالنظر لمحدودية نتائجها؛ غير أنه لا يجب أن يفهم أن تقلص دور الأحزاب السياسية في مختلف الأنظمة الديمقراطية وصعود دور مؤسسات المجتمع المدني، أن هذه المؤسسات تستطيع أن تقوم بالأدوار التي كانت تقوم بها الأحزاب السياسية بكفاءة في مراحل تاريخية سابقة (عصر ما بعد الديمقراطية: تضاؤل دورا لأحزاب السياسية، السيد يسن www.maaber.org)؛ وأمام هذه التغيرات العالمية على مستوى انحسار دور الإيديولوجيات كان لا بد لها من أن تنعكس على أداء دور الأحزاب السياسية، من خلال حل مشاكل المواطنين، لذا كان الهدف من رفع الحزب لشعاره حسب رئيس الحزب الأستاذ محمد ضريف، وعيه بأن مرحلة الصراع الإيديولوجي من الأسباب التي ساهمت في تخلف الممارسة الحزبية، إذ الصراع الذي كان بين اليمين واليسار كان مرده صراعا إيديولوجيا عقيما وقفت على حقيقته الأحزاب اليسارية لما دخلت في تجربة التناوب مع الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي، وهو ما جعله يقف على أهمية دور الحكامة الحزبية للرقي بممارسة سياسية نزيهة تروم خدمة المواطن في كل مجالات التنمية؛ المستوى الثاني: الحكامة الحزبية ودورها في تحجيم المرجعية الإيديولوجية بالنظر لما ذكر سابقا تم الوقوف على ضعف الأداء الحزبي نتيجة تضخم الخطاب الإيديولوجي عند الفاعلين السياسيين، وصراعات فوتت على الدولة فرصة الرقي بممارسة حزبية همشت أهمية الحكامة الحزبية، فهي حسب رئيس الحزب في إحدى مقالاته بجريدة المساء بتاريخ 29/05/2013 و 05/06/2013، ليست مجرد نمط للتدبير الديمقراطي للشأن الحزبي دون استحضار بعدها الإيديولوجي الذي يروم تكريس فعالية الأداء الحزبي، وذلك لا يتحقق إلا من خلال مستويين، مستوى تحجيم دور المرجعيات الإيديولوجية ومستوى تقوية القدرات التدبيرية. يتمثل مستوى تحجيم المرجعيات الإيديولوجية في مظهرين أساسيين، أولهما مرتبط بالانتقال من المشروع المجتمعي إلى المشروع السياسي، وثانيهما ذوصلة بالانتقال من الحزب العقائدي إلى الحزب البرغماتي: يفيد المظهر الأول، المتعلق بالانتقال من المشروع المجتمعي إلى المشروع السياسي، تحولا من الاشتغال بمنطق الحركة الاجتماعية إلى الاشتغال بمنطق الحزب السياسي، ذلك أن الحركة الاجتماعية تعمل أساسا من خارج النظام السياسي القائم وتسعى إلى تقويض أركانه والحلول محله، وعليه فهي حاملة لمشروع مجتمعي بديل أو مضاد للمشروع المجتمعي الذي يستند إليه النظام القائم، لذلك فكل حركة اجتماعية تكون ملزمة، لإضفاء الفعالية على أدائها، بالإعلاء من مرجعيتها الإيديولوجية، وهي مرجعية تضفي بعدا شموليا على مشروعها الذي لن يكون إلا مشروعا مجتمعيا باعتبار أنه مشروع يطال كل من احي حياة المحكومين، سياسيا واقتصاديا وثقافيا. يتأسس مفهوم الحكامة الحزبية، كخيار لتكريس فعالية الأداء الحزبي في مظهره الأول، على تأمين التحول بالعمل من خارج النظام السياسي القائم إلى العمل من داخله؛ يرتبط المظهر الثاني، المتعلق بالانتقال من الحزب العقائدي إلى الحزب البرغماتي، بالمظهر الأول شديد الارتباط؛ فالتحول من الاشتغال بمنطق الحركة الاجتماعية الحاملة لمشروع مجتمعي إلى الاشتغال بمنطق الحزب السياسي المدافع عن مشروع سياسي يقود إلى تغيير في طبيعة الحزب السياسي نفسه، حيث يغدو حزبا برغماتيا متحررا من أوهام الإيديولوجيا. وغالبا، عندما يصبح الحزب غارقا في نزعته البرغماتية فإنه لا يتذكر مرجعيته الإيديولوجية إلا عندما يجد نفسه في حالة دفاع تجاه خصومه ومناوئيه السياسيين. إذا كان المستوى الأول متمثلا في تحجيم دور المرجعيات الإيديولوجية كخيار لتكريس فعالية الأداء الحزبي، فإن المستوى الثاني لهذا الخيار يتجسد في تقوية القدرات التدبيرية التي تعبر عن نفسها من خلال مظهرين أساسيين: أولهما يركز على تحول الحزب السياسي إلى قوة اقتراحية، وثانيهما يشدد على القدرة على إعداد الأطر: يفيد المظهر الأول لمستوى تقوية القدرات التدبيرية تحولا لحزب السياسي إلى قوة اقتراحية، حيث ينتقل من مجرد أداة للتعبئة وتقديم المطالب إلى أداة لصياغة البرامج السياسية القادرة على المساهمة في تحسين أوضاع المحكومين. يشكل البرنامج السياسي لأي حزب سياسي مدخلا أساسي ال قياس وزنه. إن مفهوم الحكامة الحزبية، على مستوى تقوية القدرات التدبيرية من مظهرها الثاني، يقتضي التمييز بشكل واضح بين مجال تكوين النخب ومجال إعداد التأطير: أكيد أن الحزب السياسي تتحدد هويته وخياراته عبر نخبته السياسية التي غالبا ما تتميز بامتلاكها قدرات عالية على صعيد الانخراط في السجالات السياسية من أجل الدفاع عن التنظيم ومرجعياته، من جهة ،وإفحام الخصوم، من جهة أخرى. غير أن مثل هذه النخبة قد تلحق ضررا بالحزب السياسي عندما تتولى تدبير الشأن العام باسمه لافتقادها المؤهلات التدبيرية اللازمة. وعليه، فقد أضحت الحكامة الحزبية تفيد، من بين ما تفيده، قدرة الأحزاب على إعداد أطر قادرة على تحمل المسؤوليات العمومية أكثر مما تفيد قدرتها على إنتاج نخب لا تتقن إلا الجدل السياسي. إن الخطاب المهيمن حول الحكامة الحزبية، باختزال هل هذه الأخيرة في مجرد إجراءات ومساطر، يروم إخفاء حقيقة أساسية تتمثل في كون الحكامة الحزبية هي إيديولوجي المواجهة الإيديولوجيات الحزبية، حيث يتحول التنافس بين الأحزاب السياسية من تنافس موجه بمرجعيات إيديولوجية إلى تنافس محكوم بمنطق امتلاك القدرات التدبيرية من عدمها من خلال إحداث نوع من التماهي بين الفعل السياسي و الأداء التقنوقراطي، وذلك بإضفاء المشروعية على تحول التقنوقراطيين إلى سياسيين، كما يصبح السياسيون من أجل الاستمرار ملزمين بالتحول إلى تقنوقراطيين. هذه تلك حسب رئيس الحزب العوامل التي جعلت من حزب الديمقراطيين الجدد، ينأى بنفسه عن الصراعات الإيديولوجية ويبحث لنفسه عن شعار يروم الرفع من الأداء الحزبي من خلال حكامة حزبية قوامها خدمة مصالح المواطنين.