لا أعتقد أن البلاغ الصحفي الذي أصدرته المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج، وفي نفس الخط بلاغ رءاسة النيابة العامة؛ يتضمنان تدخلا في استقلالية السلطة القضائية، إذ لا أحد له المصلحة في ذلك مجتمعا مدنيا ومؤسسات؛ لكن صدور البلاغين لا يمكن أن يعفينا من مسألة الإمعان في جملة السياقات الوطنية التي تعرف في ظلها المؤسسات السجنية اكتظاظا غير مسبوق، وهو أمر لم يعد يفاجئ المتتبعين للشأن الحقوقي والسجني في المغرب، فقد بدأت المنظمات والجمعيات الحقوقية الوطنية في التنبيه إلى وجود إرهاصات للخطر منذ 2016 عندما ارتفع عدد الساكنة السجنية من 78716، إلى 87 ألف و848 سجين خلال سنة 2021 ؛ يوجد ضمنهم 40 في المئة في حالة اعتقال احتياطي والذي غالبا ما تطول مدته. من وجهة نظر بعض الفاعلين الحقوقيين، فإن وضعا من هذا القبيل يبقى من اختصاص الحكومة والبرلمان، وشأنا يهمهما بالأساس كل في مجال اختصاصه، وإن كانت المندوبية العامة للسجون تندرج تحت إمرة رءاسة الحكومة، وتشتغل تحت إشراف المندوب السامي للسجون، فهي إدارة حكومية تختص حصرا في تنفيذ أحكام القضاء، إضافة إلى أهدافها الإصلاحية والتربوية الأخرى ذات البعد البيداغوجي والاجتماعي. والذي نطمح إليه هو تعاون الجميع بما فيه هيآت وجمعيات السلطة القضائية، نظرا لتجربة هذه الهيئة وخبرتهم الميدانية وبعد نظرهم الوطني، خاصة عند إمكانية الاحتذاء ببعض النماذج الدولية المقارنة، وكيفية تعامل مؤسستهم القضائية خلال هذه الحالات الاستثنائية مع مشكل الاكتظاظ، لا سيما وأن هذا العدد المعلن عنه حاليا في البلاغ الصحفي للمندوبية العامة للسجون؛ مرشح للارتفاع في الأيام والأسابيع القليلة القادمة، وقد أصبحنا نحتل على الصعيد الدولي المرتبة 19 بخصوص عدد نزلاء الساكنة السجنية، فكلما ارتفع عدد السجناء واستفحلت تبعات الاكتظاظ الحاد، إلا وزاد ابتعادنا عن أهداف الإدماج والتربية والإصلاح، واصبحنا أكثر قربا من الانتقام وربما حت الإمعان في التعذيب . بالفعل فإن الوضع الراهن قد يساعد كثيرا على الاستمرار في مواصلة النقاش في هذا الموضوع الخطير؛ نظرا لامتداداته وانعكاساته المتعددة، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار النقاش والإعداد المؤسساتي والإداري الذي يهم مشروع القانون 10/ 23 الخاص بإصلاح وتدبير المؤسسات السجنية المغربية وفق منظور جديد، والذي سيعمل على تجاوز ومعالجة ثغرات القانون القديم 98/23 الصادر في أغسطس 1999، دون أن نغيب موضوع العقوبات البديلة الذي يعرف نقاشا مجتمعيا مهما، وللأسف فإن الثقافة السائدة ونمط الذهنيات السائدة، تجنح في جزء منها إلى إعطاء العقوبات الزجرية الرادعة السالبة للحريات مكانا خاصا، وفي تعارض مع المقاربة الحقوقية الدولية ذات المنحى الإنساني المتقدم، وهذه المقاربة الأخيرة سيكون لها نتائج إيجابية على صعيد مستويات مختلفة، عند الشروع في تطبيق مقتضياتها القانونية . كما أن موضوع النقاش، لا يمكنه أن ينسينا بالمطلق، السياسة الجنائية وفلسفتها العقابية، والمنتظر تضمينها في القانون الجنائي والمسطرة الجنائية، وهما المشروعان اللذان طال أمد خروجهما إلى الوجود أكثر من اللازم، وعلى امتداد تعاقب تجارب ثلاث حكومات سياسية، لكون هذا المكتسب عند تحققه، سيتم التفاعل معه إيجابا من قبل الحركة الحقوقية المغربية وسائر القوى الوطنية والديمقراطية في بلادنا . وإذا كنا في موقع لا يحسد عليه، يتطلب حكمة وبعد نظر في الرؤية والتصور، أخذا بعين الاعتبار التأثيرات الممكن مرافقتها للأحكام القضائية التي ستصدر مستقبلا، وإن كانت عدالة السلطة القضائية تضع نصب عينيها المبادئ الدولية المعاصرة لحقوق الانسان، وتطبيق المقتضى الدستوري المغربي لسنة 2011 الذي يعتبر القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة، دون تجشم متاعب إحصاء المساحات السجنية ووضعية الاكتظاظ أو الشغور، لكون الأهم والأساسي لديها هو الحرص على تطبيق النص القانوني والبحث عن الحقيقة القضائية التي تخدم العدالة وكذلك مبادئ الانتصاف المشكلة لدولة الحق والمؤسسات . فالمسألة إذن، ليست مجرد إجراءات تقنية أو إدارية، بل الموضوع له صلة بالسياسة الجنائية الحالية في المغرب والرهانات المستقبلية التي تستهدف إصلاح الترسانة القانونية المنظمة، وتأهيل المؤسسات السجنية، بما في ذلك إحداث مؤسسات سجنية جديدة ذات مواصفات دولية وحقوقية معاصرة، فسجن الحسيمة مثلا في جهة طنجةالحسيمةتطوان رغم إعادة بنائه مجددا بعد كارثة زلزال 2004 وموقعه في وسط المدينة، ولكونه في الأصل يرجع تاريخ بنائه الأول إلى فترة الحماية والاستعمار الاسباني الذي تعرضت له المنطقة، ولا يزال ضمن نفس الموقع والمساحة ذاتها، ويعرف بدوره بين الحين والآخر اكتظاظا غير محمود، فإنه من الأنسب والأجدر التفاعل إيجابا مع المطلب الحقوقي القديم؛ الذي يهدف إلى تشييد مؤسسة سجنية بديلة بالإقليم، ذات مواصفات أكثر مقبولية وخدمة لمصالح الساكنة السجنية بالمدينة وعموم الإقليم .