لهذا قد يلاحظ المتتبع النزيه لمسار النقاش الدائر حول علاقة الإسلام بأوربا عموما وحول ظاهرة الاسلاموفوبيا خصوصا، اختلافا جوهريا بين ما تحمله هذه المقالة/ الدراسة من الأفكار والمواقف وبين ما تتضمنه معظم المراجع الإسلامية من الأفكار والمواقف كذلك حول الموضوع. لكن قبل أن نمضى في مناقشة وتحليل الظاهرة - نقصد هنا ظاهرة الاسلاموفوبيا - لابأس من التوقف أولا عند الدوافع الرئيسية في اختيارنا لهذا الموضوع، الشائك والعويص، حيث يكمن اختيارنا لهذا الموضوع في وجود عدة أسباب موضوعية، نجملها في سببين رئيسيين. أولهما هو أن موضوع الاسلاموفوبيا مطروح بقوة في أجندة الحكومات الأوربية، وبالتالي فانه يساهم بشكل كبير جدا في تحديد السياسة الأوربية في مجال الهجرة والمهاجرين من جهة ، وفي تحديد سياسة الأمن القومي الأوربي من جهة ثانية. ولهذه الاعتبارات يحضى هذا الموضوع باهتمام واسع من قبل المواطنين الأوربيين والفاعلين السياسيين والإعلاميين على حد سواء. وثانيهما هو وجود كم هائل من المقالات والدراسات والكتب التي أنجزها المثقفون الإسلاميون حول الموضوع. وهي في معظمها كتابات تحاول الدفاع عن الإسلام والمسلمين انطلاقا من تصور يقول بوجود " مؤامرة " أوربية صهيونية على الإسلام والمسلمين، وبالتالي محاولة تبرئة الإسلام من التهم الموجهة إليه انطلاقا من ثلاث نقط رئيسية وهي على الشكل التالي: النقطة الأولى: هي أن الغرب يجهل حقيقة الإسلام، وبالتالي فإن هذا العنصر - أي الجهل بحقيقة الإسلام – يودي حسب القائلين بهذا الرأي إلى الخوف والقلق المستمر لدى الآخر (=أوربا). لكن ما صحة هذا التحليل؟. نعتقد أن هذا النوع من التحليل يجازف الحقيقة والصواب لعدة أسباب، سنذكرها فيما بعد، كما أننا لا ندري في واقع الأمر كيف يتم اتهام الأوربيين، هكذا بالمطلق وبشكل عام، بعدم معرفتهم لجوهر الإسلام علما أن المعطيات المتوفرة حول الموضوع تنفي هذه التهمة طولا وعرضا!!؟. فإذا ما نظرنا إلى الموضوع من الزاوية التاريخية والدينية والسياسية سنستنتج حقيقة أخرى، مفادها أن أوربا الغربية تعرف جيدا الإسلام كدين، بل وتعرف أيضا ما يسمى بالمجتمعات الإسلامية حق المعرفة. ومن المؤكد إن علاقة الإسلام بأوربا هي علاقة قديمة جدا، حيث تمتد إلى البدايات الأولى لظهور الإسلام، وهي علاقة تتميز بالصراع والتوتر أحيانا، وتتميز بالتعاون والتفاهم/ التعايش أحيانا أخرى. ومما لا شك فيه أن هذه العلاقة أدت إلى اطلاع الأوربيين على الإسلام، وذلك نتيجة احتكاكهم المباشر مع المسلمين في الأندلس وأثناء الاستعمار الأوربي لمعظم الدول الإسلامية في نهاية القرن الثامنة عشر وبداية القرن التاسع عشر. هذا بالإضافة إلى انتشار أزيد من خمسة عشر مليون مسلم في أوربا الغربية كما ذكرنا ذلك في الجزء السابق (منها حوالي 6 ملايين في فرنسا وحدها). هذا إلى جانب انجاز عدد هائل جدا من الدارسات والأبحاث العلمية حول الإسلام وما يسمى بالمجتمعات الإسلامية من طرف المستشرقين الأوربيين، خاصة أبان فترة ما قبل الاستعمار وبعدها، وذلك نظرا لدور التاريخي للإسلام في مقاومة الاستعمار أولا. وثانيا لكون أن الإسلام يشكل احد العناصر الأساسية في تشكيل وتكوين شخصية الإنسان والمجتمع الإسلاميين، وبالتالي فهو عنصر أساسي في تكوين البنية الفكرية والدينية للمسلمين. يضاف إلى هذه الأمور مسألة الأحداث والتطورات السياسية والاجتماعية والإعلامية التي ألقت بضلالها على الموضوع، وهي الأحداث التي كان فيها الإسلام عنصرا مركزيا في صياغتها وتشكلها. انطلاقا من هذا المنظور نعتقد انه ليس من المعقول ولا من المنطقي الاستمرار في اتهام الأوربيين بجهلهم لحقيقية الإسلام كدين، وإنما المشكل الحقيقي يكمن في اعتقادنا في عدم استيعاب المسلمين، بشكل عام، لتطورات والأحداث التي يعيشها العالم، فواقع أوربا خلال مرحلة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي ليس هو الواقع الراهن على جميع المستويات والمجالات. لا شك أن تصاعد وتنامي الكراهية تجاه الإسلام والمسلمين في أوربا لا يعود فقط لأسباب ترتبط بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية السائدة في أوربا /الغرب خلال العقد الأخير، بل كذلك لمشكلات ذاتية للمسلمين تتعلق أساسا في الطرح ( كيفية طرح الإسلام في المجتمعات الأوربية؟) والتوجه ( الانخراط في المجتمع الأوربي العلماني والحداثي؟) والقدرة على إنتاج ثقافة التوافق والانسجام، الانسجام بين قيم الثقافية " الإسلامية" وقيم الثقافة الغربية، الانسجام بين الإسلام والديمقراطية، الانسجام بين التعدد والاختلاف وبين الهوية الأصلية وغيرها من القضايا التي تطرح على عاتق المسلمين في المجتمعات الأوربية في علاقتها مع الآخر. هذا من جهة، ومن جهة أخرى يكمن المشكل أيضا في الانتشار الواسع للإسلام السياسي في ربوع التراب الأوربي الذي يتعارض في خطابه مع التوجهات السياسية لأوربا في العديد من المجالات والملفات، منها سياسة إدماج وانخراط المسلمين في سوق العمل والدراسة والسياسية، فعلى سبيل المثال هناك العديد من الأئمة يحرمون المشاركة في الانتخابات وغيرها من الأمور التي تتعارض مع السياسات الأوربية والقيم الثقافية والحقوقية السائدة في أوربا، ومنها على سبيل المثال قيم المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات. بناءا على ما سبق ذكره نعتقد أن الاستمرار في اتهام الأوربيين بعدم معرفتهم لجوهر الإسلام يجعلنا نقوم بإعادة إنتاج ثقافة الضحية والمؤامرة، بينما أن الواقع الموضوعي والعملي للمسلمين في أوربا يؤكد على أننا طرف رئيسي في الصراع، ولسنا مجرد ضحايا لتوجهات سياسية معينة أو أننا ضحايا الصهيونية كما تقول بعض الكتابات(7). النقطة الثانية: تتعلق بمحاولة تبرير التصرفات والسلوكيات التي يقوم بها بعض المسلمين على أساس أنها لا تعبر عن جوهر وحقيقة الإسلام، وهو تبرير غير منطقي بالمرة حيث أن السؤال المطروح في هذا الإطار هو: ما هي المقاييس والمعايير التي يتم اعتمادها لتحديد حقيقة الإسلام من عدمه وبالتالي اعتبار هذا السلوك أو ذاك من جوهر الإسلام أو العكس؟. فعندما يصرح مثلا أحد الأئمة المشهورين بهولندا؛ وهو إمام مسجد مدينة تلبورخ الهولندية، بأنه لا يجوز دفع الضرائب للكفار ويرفض مصافحة وزيرة الهجرة والاندماج السابقة، السيدة ريت فردونك، على أساس أن الإسلام لا يجوز ذلك!!، فعندما تقع هذه التصرفات من قبل شخص متخصص في الإسلام(خطيب المسجد)، فهل يمكن لنا اعتبار هذه التصرفات والسلوكيات ليست من صميم وجوهر الإسلام ، وبالتالي فإن الإمام القائل بهذا الكلام جاهل لجوهر الإسلام؟؟ ولنفترض جدلا بأن هذا الأمام لا يعرف بالفعل جوهر الإسلام أو أنه متشدد في التطبيق الحرفي للنصوص الدينية ( القرآن والحديث)، فمن هو المسؤول عن هذه المواقف والسلوكيات التي عبر عنها هذا الإمام؟ فهل هو الإمام نفسه أم النصوص الدينية التي تحوي هذه المواقف ؟. لا ياسيدي فالرجل يعرف جيدا جوهر الإسلام، لكن قراءته وتأويلاته السياسية للنصوص الدينية جعلته يتخذ مواقف سياسية اسلاموية، فإذا كان الأمر ليس كذلك؛ أي أنه يلتزم بأوامر الدين فقط ولا يمارس السياسة باسم الدين، فعليه أن يركب أول طائرة في اتجاه الرياض أو القاهرة أو أية عاصمة إسلامية أخرى تنفيذا وانسجاما مع ما يقره الإسلام حول موضوع العيش مع الكفار حيث حرم جمهور العلماء العيش مع الكفار بشكل قاطع، سواء بالنص القرآني كما هو واضح من الآيات التالية: (( ان الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا الم تكن ارض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم ...)) أو (( ياأيها الذين امنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين..)) أو (( ياأيها الذين امنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق ..)، وفي سورة أخرى (( ومن يتولهم منكم فإنه منهم...)). ونفس الموقف تؤكد عليه الأحاديث ومنها الحديث الأتي{ إني برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين }. كما أنه لا يحل للمسلم الإقامة في الأرض التي يسب فيها السلف حسب رأي الإمام مالك. هناك طبعا أحاديث أخرى كثيرة في هذا المجال التي لا يتسع لنا المجال لذكرها وتناولها بالتفصيل والتحليل. علاوة على هذا فإن مسألة عدم التزام المسلمين وتقيدهم بجوهر الإسلام هي مسألة ذاتية خاصة بالمسلمين ولا تعنى بالضرورة الآخر. وبصيغة أدق المسلمون هم وحدهم من يتحملون مسؤولية عدم التزامهم بجوهر الإسلام وليس الآخر( = الأوربيين) ، خاصة أن معظم هذه التصرفات والمواقف تتم باسم الإسلام. نضيف إلى هذه الواقعة التصريح الذي أدلى به الأمام المومني حول ظاهرة اللواط داخل المجتمع الهولندي، حيث كان يتحدث باسم الإسلام وليس باسمه الخاص؛ أي أنه لا يعبر عن وجهة نظر شخصية قد تكون صحيحة وقد تكون خاطئة، وبالتالي فإنها تقبل الجدل والنقاش باعتبارها وجهة نظر شخصية لا تلزم احد ما غيره، وإنما كان يتحدث باسم الإسلام، وبالتالي فإنه يعبر عن وجهة نظر الإسلام من اللواط، ومن هذا المنطلق فإن الموقف هو موقف الإسلام. هكذا ينظر الإنسان الهولندي العادي، والغربي، إلى التصريح المشار إليه سابقا، وفي هذه الحالة هل سنقول كذلك بأن الشيخ المومنى لا يعرف جوهر الإسلام؟. ومن هنا يجب فهم وإدراك موقف اللوطيين من الإسلام والمسلمين وليس خارجه. نفس الشيء ينطبق على حادثة اغتيال تيو فن خوخ حيث أن منفذ العملية نفذ ما يفرضه عليه الإسلام من الجهاد ضد " الكفار" كما جاء في تصريحه بعد الحادثة، وبالتالي فإن مسألة الحديث حول مدى معرفة واطلاع منفذ العملية على جوهر الإسلام لا تهم المواطن الهولندي في شيء. فالإنسان الهولندي والأوربي تهمه فقط الأسباب والدوافع والخلفيات التي أدت إلى تنفيذ الجريمة وكيفية تنفيذها. ومن المؤكد أن منفذ تلك العملية البشعة، بصرف النظر عن مواقف وتصريحات تيو فان خوخ حول الإسلام والمسلمين، يستمد شرعيته من النصوص الجهادية الكثيرة في القرآن، ومنها الآية 29 من سورة التوبة (( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق..)). النقطة الثالثة: تتعلق بعدم الاعتراف بالإسلام كدين رسمي في الدساتير الأوربية، حيث يرى الكثير من الإسلاميين أن مسألة عدم الاعتراف القانوني بالإسلام في الدساتير الأوربية يعتبر سببا رئيسيا في تنامي الكراهية تجاه الإسلام والمسلمين. وهذا " السبب" يعتبر في نظر القائلين به من الأسباب والعراقيل الرئيسية في منع بناء المساجد مثلا. طبعا، هذا الأمر غير صحيح إذا ما نظرنا إلى الواقع المعاش للمسلمين في أوربا، صحيح أن الدول الأوربية، باستثناء بلجيكا، لا تعترف رسميا بالإسلام في دساتيرها، لكن هذا الأمر لا ينفي وجود الالف المساجد والمدارس والمراكز الإسلامية داخل الدول الأوربية، مما يعنى أن حرية بناء المساجد وممارسة الشعائر الدينية مكفولة للمسلمين، وذلك بقوة القوانين التي تنضم الحياة العامة للدول الأوربية التي يراعى فيها فصل السياسة عن الدين. انطلاقا من هذه المعطيات الموضوعية نرى أن اعتبار مسألة عدم الاعتراف بالإسلام في الدساتير الأوربية سبب من الأسباب الرئيسية في تنامي الكراهية تجاه الإسلام والمسلمين هو كلام فارع لا معنى له ولا أساس له من الصحة، وهو كلام يتنافى مع واقع المسلمين بأوربا كما اشرنا إلى ذلك سابقا. فهولندا على سبيل المثال تتوفر على أزيد من 500 مسجد ومئات المنظمات والمدارس الإسلامية، بل وجامعة إسلامية كذلك، هذا بالرغم أن الإسلام غير معترف به قانونيا في الدستور الهولندي. وفي المقابل كم يوجد من المدارس والمنظمات المسيحية في السعودية أو المغرب مثلا؟. وأمام هذا الواقع لماذا يتم التركيز على مسألة الاعتراف الدستوري بالإسلام؟ لنفترض أن هولندا والدول الأوربية اعترفت رسميا بالإسلام فماذا بعد ذلك؟. الحديث سيستمر... للتواصل: [email protected] المراجع: 7: انظر على سبيل المثال المرجع السابق التجاني بولعوالي