إن أي تقييم موضوعي للإنجازات الديبلوماسية المغربية في ما يخص ملف أقاليمنا الجنوبية يجب أن ينظر إليه من خلال ما أحدثته من خدوش غائرة في جدار الصمت والسكون الذي يطال هذا الملف منذ أكثر من ثلاثين سنة من حالة اللاحرب واللاسلم دون احتساب سنوات الحرب المريرة التي سبقتها . لكن قبل هذا و ذاك لابد من التطرق لحالة الجمود الممتدة التي تجد أساسها القانوني في الإلتزام المنفصل للطرفين بقرار هيأة الأممالمتحدة القاضي بوقف إطلاق النار سنة 1991 من أجل فتح الطريق أمام حل سلمي متفاوض عليه عبر تنفيذ القرار الأممي القاضي بإجراء إستفتاء لتقرير المصير لأقاليمنا الصحراوية بعد أن سحبت الأممالمتحدة مقترح الحكم الذاتي الذي طرحته سنة 1985، والذي لم يكن مقبولا من الطرفين، وهو القرار الذي تبين لاحقا أن تنفيذه لا يقل صعوبة عن مقترح الحكم الذاتي الذي أعاد المغرب طرحه رسميا سنة 2007 . إن تمديد وضعية اللاحرب و اللاسلم وحالة الجمود التي تعرفها قضيتنا الوطنية علاقة بمخرجات الحل القائم على القانون الدولي وليس بالوضع القائم على الأرض، والذي يكرس السيادة الإدارية المغربية على حوالي 80% من أقاليمنا الجنوببة، تعكس عدم قدرة الطرفين على إحداث أي إختراق دولي في الملف لصالح الحسم النهائي لهذا النزاع الذي يعد من أطول النزاعات الترابية في العالم، وذلك راجع لصعوبة تطبيق أي مبادرة للحل السلمي . وهو ما يدفعنا للنظر في الأسباب الكامنة وراء هذا التعثر المستمر في إيجاد حل نهائي للنزاع. * التعثر في مخرجات الحل : الاستفتاء /الحكم الذاتي – إن الربط بين مقترحي الإستفتاء والحكم الذاتي من منظور القانون الدولي ليست مسالة إعتباطية . بل هما حلان مكملان لبعضهما البعض، بحكم أن أغلب النزاعات الترابية المطروحة على طاولة مجلس الأمن تم حلها وفق مراحل متدرجة شكل فيها الحكم الذاتي مرحلة إنتقالية في اتجاه الإستفتاء المحدد لتقرير المصير النهائي، وهو ما يفسر مقترح الحكم الذاتي الذي طرحته الأممالمتحدة سنة 1985 قبل أن تسحبه لعدم إتفاق الطرفين عليه في تلك المرحلة التي كانت تعكس توجهاتهما التي راهنت منذ البداية على الحل العسكري في حل النزاع، وذلك لصالح مقترح الإستفتاء الذي تطالب به البوليزاريو وسبق أن تبناه المغرب في شخص الملك الراحل الحسن الثاني سنة 1981، وهو المقترح الذي بدأت تظهر بوادر فشله مباشرة بعد أن بدأت الأممالمتحدة في ترتيبات تنفيذه سنة 1991 عشية إعلان الطرفين عن وقف إطلاق النار ليعاد البحث في مقترح الحكم الذاتي من جديد. في أسباب فشل مقترح الإستفتاء – رغم أن مقترح الإستفتاء كان مقبولا من الطرفين، إلا أن الإختلاف الجوهري في تأويل مقتضياته بما يفضي حسب المغرب إلى إستفتاء تأكيدي لمغربية الصحراء، أو في قراءته لدى البوليزاريو بما يعكس إرادته في الإنفصال والإستقلال، بالاضافة إلى تخوف الطرفين من نتائجه غير المضمونة، وهو ما انعكس سلبا على اللقاءات المتتالية لأعيان القبائل الصحراوية ،من أجل تحديد الهوية الضرورية لإنجاز عملية الإستفتاء التي كان من أسباب فشلها كذلك حشو اللوائح بمنتحلي الصفة والغرباء عن المنطقة من طرف الجانبين تحسبا من النتائج غير المضمونة، بما في ذلك إعتراض المغرب على إعتماد الإحصاء الإسباني لسنة 1974 بوحده بحكم طبيعة المجتمع الصحراوي الذي يعيش على الترحال، معتبرا في الآن نفسه أن حق التصويت يجب أن يشمل كل المنتسبين للمناطق الصحراوية بما فيهم الغير القاطنين بها. كل هذا جعل من الحل السلمي القائم على الإستفتاء مضيعة للوقت، وهو ما انتبهت له الأممالمتحدة، حيث شرعت في الضغط على الطرفين لتقديم مقترح مقبول للحل السلمي متفاوض عليه ومنسجم مع متطلبات القانون الدولي العام والمقتضيات القانونية لحل النزاعات المؤطرة ضمن اللجنة الرابعة، وهو ما أسفر سنة 1996 عن عقد لقاءات سرية مباشرة بين المغرب وجبهة البوايزاريو في أوطيل شيراتون بالرباط لمناقشة مقترح الحكم الذاتي بالأقاليم الصحراوية، قبل أن تتوقف مع وفاة الملك الراحل الحسن الثاني ليتم الإبقاء على سريان مفعول المقترح المطروح في الدوائر المغلقة، ومن تم الإعلان عنه رسميا في خطاب الملك لشهر نونبر 2005، والذي طالب الأحزاب السياسية من خلاله بالإدلاء بمقترحاتها قبل أن يتم الإعلان عن المبادرة بشكل مفصل في خطاب العرش لسنة 2006 وتقديمها للأمين العام للأمم المتحدة في 11 أبريل 2007. وهو المقترح الذي سيراوح مكانه لأكثر من عشرين سنة إذا أخذنا بعين الإعتبار مرحلة بدء المفاوضات المباشرة السرية بين الطرفين حول ذات المقترح. * في مسألة تعثر مقترح الحكم الذاتي – إن تعثر مفترح الحكم الذاتي كحل لملف قضيتنا الوطنية لا يختلف في أسبابه كثيرا عن تعثر مقترح الإستفتاء، أولا لكون المقترح حسب الإطار الأممي والقانوني الذي يؤطره يعد مجرد مرحلة إنتقالية في اتجاه الإستفتاء، هذا في الوقت الذي يعتبره المغرب حلا دائما بالشكل الذي يخلط فيه بين الحكم الذاتي المؤطر حسب القوانين والدساتير الداخلية للدول ذات الأنظمة السياسية المركبة، وبالتالي يجعل من مسألة الإستفتاء إجراء للتصويت عليه وليس إجراء لتقرير المصير، وبين الحكم الذاتي الدولي الذي يخضع للقانون الدولي العام الذي تؤطره المواد 73 و 74 من الفصل الحادي عشر و المادة 76 من الفصل الثاني عشر لميثاق الأممالمتحدة الذي ينطبق على ملف القضية الوطنية الموضوع ضمن اللجنة الأممية الرابعة المكلفة بتصفية الإستعمار. ونظرا للمنطلقات المختلفة في فهم مقترح الحكم الذاتي وكذا تخوف البوليزاريو من نتائج الإستفتاء الذي اقترحت الأممالمتحدة إنجازه بعد مرحلة إنتقالية تمتد لخمس سنوات منذ بدء تطبيق مقترح الحكم الذاتي. إن تعثر مبادرات الحل السلمي لقضيتنا الوطنية لما يزيد عن ثلاثين سنة دون ان نرى الضوء في نهاية النفق الذي وضعنا فيه أنفسنا بعد ان قبلنا بالإستقلال الناقص سنة 1956، وبعدها بتواطؤ الحكومة المغربية على جيش تحرير الجنوب بعد قراره باستكمال تحرير أقاليمنا الجنوبية، ومن تم الإجهاز عليه في ماسمي بمعركة أكوفيون سنة 1958، وبعدها تنكر الدولة المغربية لمبادرات الشباب المغربي الصحراوي في استكمال تحرير أقاليمنا الصحراوبة قبل أن يلتجئوا إلى دول الجوار في بداية السبعينات، ولاحقا بانسحاب المغرب من منظمة الوحدة الإفريقية وقبول الدولة المغربية بنقل الملف إلى أروقة الأممالمتحدة، وكذا تردد المغرب في أجرأة هذا المقترح رغم مرور أربعة عشر سنة على طرحه رسميا، بحكم الصعوبات المرتبطة بطبيعة نظامه السياسي المركزي وعدم قدرة هذا الأخير ومن خلاله اللوبيات الإقتصادية والسياسية المركزية على تقاسم الثروة والسلطة، هذا بالإضافة إلى ما قد ينتج عن هكذا حل من مطالب مماثلة لجهات تاريخية طالبت دوما بحقها في تسيير شؤونها بنفسها. كما ان عملية التمطيط التي يشهدها مقترح الحكم الذاتي أفقدته الجدوى لدى العديد من مواطنينا الصحراويين الذين رحبوا به في البداية، خاصة مع غياب أي مؤشرات قانونية ودستورية لتطبيقه، بل إن دستور 2011 تطرق إلى إعتماد المغرب لجهوية إدارية متقدمة و لم يخص أي جهة من الجهات بنظام الحكم الذاتي، بل أكثر من ذلك منع في ديباجته لقانون الاحزاب تاسيس أحزاب سياسية على أساس جهوي، وهو ما يخالف الإرادة المعبر عنها في رغبة المغرب تمتيع الأقاليم الصحراوية بنظام حكم ذاتي لا يمكنه أن يستقيم دون احزاب محلية. بعد هذه الإحاطة بتطور ملف قضيتنا الوطنية التي كانت دوما مجالا محفوظا تستفرد به الدولة العميقة، يمكننا أن نتساءل عن محصلة هذا التدبير الأحادي لقضية تشكل في جوهرها قضية شأن عام يهم كل المغاربة ويعتبر تدبيرها حقا مشروعا لمؤسساته الدستورية المنتخبة، وكذا المعيقات التي تعترض مقترحات الحل السلمي سواء ما تعلق منها بالاستفتاء أو الحكم الذاتي رغم مرور عقود طويلة منذ بداية النزاع، مما جعل منه أطول نزاع ترابي مطروح على رفوف الأممالمتحدة دون أن يعرف طريقه للحل النهائي. هل استطاعت الدولة فعلا أن تحقق إختراقات وازنة وفعالة لصالح حل دائم يضمن سيادة المغرب على أراضيه وانتزاعه من اللجنة الرابعة للامم المتحدة ؟. وهل ما شهدناه من تطورات أخيرة علاقة بخلاصات الإجتماع الأخير للأمم المتحدة ل21 أبريل 2021 وعلاقة أيضا بالموقف الأمريكي الذي اعترف بسيادة المغرب على أقاليمه الصحراوية وعودة المغرب إلى عمقه الإفريقي، يمكن اعتبارها رافعة أساسية لترسيخ سيادة المغرب على أراضيه؟. وهل فعلا تشكل مبادرة الحكم الذاتي التي يستكين لها الخطاب الرسمي وبعض المثقفين المغاربة إنتصارا وحلا سحريا للقضية الوطنية ؟ أم أن هذه المبادرة تعد في حد ذاتها حلا مستعصيا على الدولة المغربية سواء بالعلاقة مع طبيعة النظام السياسي المتشبت بالحكم المركزي، أو بالعلاقة مع المفهوم الأممي للحكم الذاتي الذي يعد مرحلة إنتقالية في اتجاه الإستفتاء الذي سيحدد المصير النهائي للأقاليم الصحراوية ؟ ، وهو ما يعيد القضية إلى نقطة البداية من جديد. انها مجموعة من علامات الإستفهام التي تسائل خطابنا الرسمي وشبه الرسمي حول مدى نجاعة تدبير الدولة للقضية الوطنية التي جعلت منها شأنا محفوظا لا يحق لأحد أو لجهة الإدلاء ب0راء منتقدة له، ولنا في اعتراض قيادة الإتحاد الاشراكي المشكلة حينها من كل من الأستاذ عبد الرحيم بوعبيد والأستاذ محمد اليازغي والأستاذ لحبابي سنة 1981 على موافقة الملك الراحل على الإستفتاء عبرة لمن لا يعتبر. إن الجواب عن هذه التساؤلات هو ما سيكون موضوع مقال لاحق يدقق أكثر في استقراء أثر هذه التحولات الأخيرة على ملف قضيتنا الوطنية.