فى يوم 21 من شهر يوليو من العام الحالي 2020 مرّت الذكرى التاسعة والتسعون لمعركة أنوال الماجدة التي أبلى فيها المجاهدون الريفيّلون البلاءَ الحسن وحققوا انتصاراً كبيراً على الجيش الاسبانيّ النظاميّ المتخرّج من أكبر المعاهد الحربية فى اسبانيا الذي مُني فى هذه المعركة بهزيمة منكرة لم يذق مثيلاً لها قطّ على امتداد تاريخه العسكري الطويل ، وبهذه المناسبة التاريخية نستحضر ذكريات ومعايشات عشتها فى القاهرة الى جانب الزعيم مَحمد بن عبد الكريم الخطابي شقيق بطل حرب التحرير فى شمال المغرب مُحمد بن عبد الكريم الخطابي . الحديث عن هذا الرّجل المتواضع حديث مُفعم بفيضٍ غامر من الذكريات التي تعود بنا إلى عهدٍ مشرق من ماضينا الحافل بالبطولات، والتضحيات،عهدٍ مضى لحال سبيله،وذهب الزّمن القديمُ به وبأهله حميدَا ، إنّه حديث مَشحون بالإعتراف بالجميل لهذا الرّجل المناضل الذي يُنعت بمهندس حرب الرّيف التحرّرية ،والذي غالباً ما يقلّ التطرّق إليه فى غمرة الحديث عن وقائع ،ومجريّات الحرب الباسلة التي عرفها المغرب فى منطقة الريف فى العشرينيّات من القرن الفارط وذلك أمام الشّهرة الواسعة لشقيقه الأكبر.هذه الذكريات الحميمية تترى من منطلق معايشتي الشخصية مع شقيقه الأصغر السّي مَحمّد الذي كان له هو الآخر الدّور الطلائعي فى مساعدة ومساندة أخيه فى مسعاه نظراً لدراسته لعلوم هندسة الطرق فى المعاهد الاسبانية العليا بمدريد فى تاريخِ سابقِ لانطلاق شرارة الثورة المُسلّحة ضدّ المُستعِمر الاسباني .
عودة الى الينابيع مشاعرصّافية تنتابني وأنا أعود بذاكرتي الى أيّام الدراسة فى الستينيّات من القرن الفارط بمصر المحروسة ، فضلاً عن العواطف الجيّاشة التي خصّني بها ممنوناً، والاستقبال الأبويّ الحارّ الذي قابلني وعاملني به هذا الرّجل الذي لن أنساه خلال حقبة وجودي فى القاهرة ، حيث كنت قد ألتقيتُ به لأوّل مرّة غداة وصولي الى عاصمة المُعزّ لدين الله لألتحق بكلية الآداب بجامعة عين شمس،كان الأستاذ توفيق عليّ ( المدرّس المصري الذي سبق أن عمل أستاذاً بمعهد أبي يعقوب البادسي بمدينة الحسيمة أوائل الستينيات من القرن المنصرم) أخبرني إبّانئذٍ عندما علم بوجودي بمدينة الألف مئذنة أنه اتّصل بأحد أصدقائه وهو الأستاذ بجامعة عين شمس الدكتور ابراهيم أبو ريدة الذي كانت تربطه بالزعيم مَحمد بن عبد الكريم الخطابي صداقة متينة، فاتفق معه على موعدٍ فى يومٍ غُرٍّ من أيام الجُمَع للقيام بزيارته والتشرّف بحظوة التعرّف عليه فى بيته بحيّ العجوزة ، وكان منزل شقيقه الأكبر يوجد فى حيّ حدائق القبّة،وذهبنا ثلاثتنا الى منزل الزّعيم ، استقبلنا أحد أبنائه ،وأخذنا أماكننا فى الصّالون الرئيسي للضّيوف ،وبعد هنيهة ظهر لنا الزّعيم السّي مَحمّد آتياً نحونا من بعيد ، كان يمشي على صَبَبٍ بتؤدةٍ واعتدالٍ واعتداد ،كان برتدي جلباباً مغربياً أصيلاً، وفوق كتفيْه جبّة سوداء ، وتعلو رأسَه عمامة مُتقنة الصّنعة، مُحكمة الأطراف ناصعة البياض، وكانت تغطّي عينيْه نظارة سوداء داكنة .
ابنُ مَنْ أنت ..؟ عندما اقترب منّا وقفنا ثلاثتنا ، فسلّم على صديقه الدكتور أبو ريدة الذي قدّم له الاستاذ توفيق فسلّم عليه ورحّب به ، ثم التفت نحوي فدنوتُ منه وقبّلته فى رأسه ثم فى كتفه الأيمن ، خاطبني بالشلحة الرّيفية ( الأمازيغية ) وقال لي ما معناه : " ابنُ مَنْ أنتَ يا إبني العزيز ..؟ " لم أذكر له اسمَ والدي لأنه لم يكن يعرفه، ولم يلتقِ به قطّ، ولكنني ذكرتُ له على التوّ اسمَ جدّي ،رفيقه ورفيق أخيه فى النضال، فقلت له بالرّيفية كذلك :" مِيسْ نمّوحْ نسِّي أحمد الخطابي ..."، فقاطعني وقال بصوتٍ جهوري : الله أكبر ..رافعاً ذراعيْه إلى أعلىَ وعانقني برهةً .. كنت على درايةٍ تامّة، وعلى علمٍ ويقين بسبب انفعاله وسروره، وبدواعي ذلك الاستقبال الحارّ الذي خصّني به أمام الأستاذيْن المصرييْن، فجدّي من والدي رحمه الله كان من بين أوائل أعيان ورجالات منطقة الرّيف فى "أجدير" الذي بادر الى تأيّيده، ومساندته، بل وأعلن تضامنه المطلق معه ومع أخيه الأكبر أمام الملأ فيما كان يسعيان إليه لمواجهة الاستعمار الاسباني عند بداية إعلان انطلاق المقاومة في مؤتمر مدينة "إمزورن" المنعقد فى 20 سبتمبر1920 حسب صاحب كتاب "أسد الريف " محمد محمد عمر بلقاضي ، وصاحب كتاب "حرب الرّيف التحريرية ومراحل النضال" أحمد عبد السلام البوعياشي ، وسواهما من المؤرّخين الثقات، كان مُوح نسّي أحمد مشهوراً ومشهوداً له بشجاعته التي كان قد نوّه بها كذلك نجل الزعيم الخطابي المرحوم الأستاذ ادريس ضمن سلسلة مقالات كان قد نشرها فى جريدة " العَلَم " المغربية فى السبعينيّات من القرن الفارط عن حرب الريف حيث يصفه فيها "بالمناضل الشهيد والمجاهد الصّنديد".
انطلاق المقاومة يأتي اسمُ المجاهد الشهيد مُوح (محمد) بن السيّ أحمد الثاني فى الترتيب ضمن قائمة زعماء قبيلة أيث ورياغل حيث تمكّن الزعيم مُحمد ابن عبد الكريم الخطابي عام 1920 عقد اجتماع لانطلاق المقاومة الرّيفية ،وتضمّ هذه القائمة بالإضافة إلى الفقيه السيد محمد بن علي بولحيا التوزاني، والسيد محمد الحاج مسعود الأجديري ومحمد بن السيّ أحمد الخطابي الأجديري العديد من المجاهدين الصناديد الآخرين الذين ساندوا انطلاق شرارة مواجهة المستعمر الدخيل ،وفسّر الزعيم الخطابي للحاضرين دواعي هذا الاجتماع وخلص إلى ضرورة توحيد الجهود وتنظيم الصفوف وتجاوز الأحقاد والضغائن لصدّ هجومات الإسبان الزاحفين. وبعد أن أدلى المجتمعون بآرائهم، وبعد قراءة الفاتحة أدّوا القسم على المُصحف الكريم . ويجمع معظم المؤرّخين العارفين بتاريخ الريف أن هذا الشهيد شكّل مكسباً كبيراً ،ودعماً قويّاً إلى جانب مجاهدين آخرين كبار لما كان يتوق اليه الزعيم مُحمد عبد الكريم الخطابي وشقيقه السّي مَحمد من مساعٍ نبيلة فى هذا القبيل بعد عودة الأوّل من مدينة مليلية المحتلّة، ورجوع الثاني من مدريد للمّ شمل القبائل، وتوحيدها وإقناعها بأن تقف وقفة رجلٍ واحدٍ لصدّ وردّ هجمات الاستعمار الاسباني وذلك ما تحقّق لهما بالفعل ، إذ أنّ السّي مَحمّد رحمه الله عندما سلّمتُ عليه كان يعرف جيّداً أنّ المرحوم (موح نسّي أحمد) أبلىَ البلاء الحَسن فى حرب الريف، كما أنه كان يعلم علمَ اليقين كما أخبرني هو نفسُه بذلك فيما بعد أنه من المجاهدين الأوائل الذين استشهدوا فى معركة أنوال (يوم الأربعاء 21 يوليو 1921) إلى جانب صفوة من المجاهدين الآخرين الأبرار.
الخامسة من كلّ يوم خميس خلال لقاءاتي المتعدّدة والمتوالية مع الزّعيم السّي مَحمّد كان حديثه الشيّق والمُشوِّق لا ينقطع عن هذا الشهيد ، وعن سواه من الشهداء الآخرين الذين أسلموا أرواحهم الطاهرة فى ساحة الوغى ببسالة وإقدام عزّ نظيرهما، فقد كان قد أصدر خلال لقائنا الأوّل فى منزله أمراً ودّيّاً - حسب تعبيره - لتواضعه ،وبساطته،وعفويته ،حيث كان قد قال لي إبّانئذٍ أمام الأستاذيْن المصرييْن اللذيْن : ( عليك بزيارتي فى الخامسة من مساءَ كلّ يوم خميس فى منزلي هذا طوال تواجدك بالقاهرة ..) ،ولقد إمتثلتُ، ونفّذتُ هذه الأمنية بالحرف الواحد، وكنتُ حريصاً على زيارته فى نفس اليوم والساعة كما أمر. ولقد سرّني كثيراً إختياره ليوم الخميس بالذات، فقد شاءت الأقدار والصّدف أن يكون هذا اليوم هو من أحبّ الأيّام إلى والدي رحمه الذي كان يقول: أعزُّ الأيّامِ عندي يومُ الخميس / فاختارُوا له دوماً نِعْمَ الأنيس).
ملاحم بطولية كان السّي مَحمّد قد أعطى تعليماته لأقربائه ، وللعاملين فى بيته بأن يُفتح لي باب المنزل حتى ولو كان على فراش المرض، وفعلاً فى بعض المناسبات كان يفتح لي الباب نجلُه العزيز صلاح رحمه الله، كان السّي مَحمد شخصاً لطيفاً ،كريماً،ذكيّاً ألمعيّاً، يقظاً، حاضر البديهة، بسيطاً، متواضعاً، كان الكثير من الناس والأساتذة والباحثين والإعلاميين والصّحافيين من مختلف أنحاء العالم يأتون لزيارته بعد رحيل شقيقه الأكبر فى6 فبراير 1963 ودفن بمقبرة الشهداء بالقاهرة ، كان حريصاً على إستقبالي بالفعل حتى ولو كان على فراش المرض ، وكنت عندما أدخل عليه فى حجرة نومه يمنعني من الجلوس قبالته على الكراسي التي كانت موجودة بالحجرة، ويومئ لي بأن أجلس بجانبه وبمحاذاته على حافة سريره ، وعندما يحضر الشّاي الأخضر المغربي المُنعنع اللذيذ يبدأ فى الحديث عن المعارك التي دارت رحاها فى مختلف مناطق الريف ،فالإضافة ألى أمّ المعارك " أنوال" حدّثني عن الملاحم والمعارك الأخرى التي خاضها المجاهدون ضدّ الاسبان الفرنسيين على حدّ سواء ببسالة منقطعة النظير .
فراسة المُؤمن كان الزعيم السّي مَحمّد كثيراً ما يحدّثني خلال جلساتنا المسائية الجميلة بمنزله بحيّ العجوزة عن العديد من المجاهدين وعن الشّهداء الأبرار ومن بينهم (موح نسّي أحمد) ،الذي كان معجباً بشجاعته إعجاباً كبيراً...وكان عندما يتحدّث معي (دائماً بالرّيفية) يهزّ رأسَه، ويغمض عينيْه،بين الفيْنة والأخرى، ويزمّ شفتيْه، ويضع يدَه اليُمنى على جبهته ،ربما إستحضاراً أو إستذكاراً لحادثةً مّا ، أو لإسترجاع ذكرى عزيزةٍ على قلبه من الذكريات الغالية عن أيام النضال، والكفاح ، وحكىَ لي ذات مرّة كيف أن الشهيد مُوح نسّي أحمد استشهد على وضوء، وأن آخر كلمة نطق بها قبيل استشهاده هي كلمة : ( الله )، وقال لي إنّ معظم المجاهدين كانوا يستحضرون معهم بعض المواد الغذائية البسيطة يقتاتون بها مثل الفلفل الأخضر ، والتّين المُجفّف، وحبّات من البصل .وشقفاً من خبز الشعير الغامق ،وسأل ذات مرّة أحدُ المجاهدين مُوح نسّي أحمد - بحضور السّي مَحمّد نفسه - فقال له : هل استقدمت معك البصل اليوم ..؟ فقال له : لا ، هذه المرّة لم أستقدم البصل، وأضاف فى مزاح ممزوج بجدّية مُحيِّرة : هل تريدني أن ألقىَ ملائكة الرّحمن برائحة ٍغيرِ مُستحبّةٍ فى فمي..؟! وفى نفس ذلك اليوم استشهد وأسلم الرّوح لباريها فى معكة "أنوال" بالذات .
الحنين الى الوطن فى احدى جلساتنا وهو على فراش المرض إعترف لي أنّه عكس ما وقع لأخيه الأكبر، يرجو ويتمنّى من الله تعالى أن يلقى ربَّه فى بلده المغرب، كما إعترف لي فى العديد من المناسبات كذلك أنّه كان يحنّ كثيراً إلى مسقط رأسه ب "أجدير" . وهذا ماحدث بالفعل، ففي إحدى زياراته لبلده المغرب توفّي السّي مَحمد بن عبد الكريم الخطّابي إلى رحمة الله ، وحقّق الله أمنيته فى لقاء ربّه فى بلده فى 17 رمضان موافق يوم 19 ديسمبر 1967.بالرباط.ولم يتمكن من زيارة مسقط رأسه فى الرّيف ( أيّ أجدير) إلاّ بعد أن إنتقل إلى الباري جلّت قدرته ليوارىَ الترابَ فى ثراه وعلى أديمه بمقبرة "المُجاهدين" إلى جانب أجداده، وأناسه، وأهله، وذويه، وبين بني طينته، وأبناء جلدته الذين طالما إشتاقَ إليهم إشتياقاً عظيماً. والحديث ذو شجون، وهو فى خلايا الذاكرة وبين أعطاف الوجدان مكنون..هذا غيضٌ من فيض من ذكريات لقاءاتي مع هذا الرّجل الشّهم ، رحمه الله . محمّد محمّد الخطّابي : عضو الأكاديمية الإسبانية الأمريكية للآداب والعلوم - بوغوطا- كولومبيا. -تحريراً فى حيّ المزمّة أجدير الحَصين – الحسيمة.