نحن الآن أمام امتحان صعب وفاجعة إنسانية مؤلمة تنزل بالبشرية، ويبدو أن الكتابات المعرفية التي يغلب عليها المنحى الإيديولوجي من قبيل " نهاية التاريخ والإنسان الأخير " للفيلسوف الياباني الأصل فرانسيس فوكوياما، لسنا في حاجة إليها في مثل هذه الظروف المثقلة بالآلام التي تمر بها بلادنا والإنسانية جمعاء، فقد أرسى لبنات مؤلفه على تحليل مستقبلي يؤسس لنظام دولي جديد بعد أن مزج في أطروحته التوقعية هذه بين نظريات في العلوم السياسية ومرجعية متميزة تغرف من الأفكار الفلسفية القديمة والحديثة، بل الأجمل أن يتم الميل في الموضوع نحو كتابات واقعية تتسم بالعقلانية خاصة كتابات المفكر الفرنسي " جاك دريدا "، وتحديدا في مؤلفه القيم " ماذا حدث في حدث 11 سبتمبر " وإن كان ليس من ضير في شيئ أن تكون هناك دراسات وأبحاثا توقعية تتطلع نحو مستقبل جديد للبشرية بعد نهاية كابوس كورونا المرعب. بقدر ما نحن في أمس الاحتياج في الآن ذاته إلى التضامن والتآزر وتوحيد كلمة وجهود المغاربة، ونحن بصدد إعلان حرب مضادة ليس على المصدر المجهول للخطر فقط، ومحاولة الحد من تغلغله وامتداده، وإنما بالأساس على منابع التخريف والدجل ومعاقل الأفكار الظلامية التي تحاول الاستهانة والاستخفاف من حجم هذه الكارثة التي تحدق بالإنسانية، وتهدد الحق المقدس في الحياة، في محاولة يائسة منها لصرف الاهتمام عن خطورة الوضع، واختزال الأمر وتبسيطه في مجرد سلسلة من التخاريف المجافية للعقل والواقع الدولي في تشابكه وتعقيداته الراهنة . في هذا الإطار لا بد من التنويه أن بعض الكتابات القديمة، مثل : " النظام السياسي ودوره في تغيير المجتمعات " للعالم الاجتماعي الأمريكي هنتنغتون الذي نشره منذ ما يزيد عن أربعين سنة، وكان بذلك آخر علماء السوسيولوجيا الذين حاولوا فهم الرابط بين التغيرات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية بطريقة شاملة قائمة على المقارنة، علما أنه لا يزال يحظى براهنيته الملفتة، خاصة في بعض مضامينه التي لا يسعنا إلا أن نشاطره الرأي فيها، كتلك التي تجنح نحو التأكيد أن الطبقات الفقيرة بين الشعب قلما يسعفها الحظ في إحداث التغيير الاجتماعي المنشود، وأن الطبقة الوسطى المتعلمة والمثقفة هي المؤهلة لقيادة التحول وصناعة الانتقال نحو المستقبل الديمقراطي. وهو المدخل نحو الطرح الفكري الذي ذكرني بدور الإعلام الوطني الذي لعبه ماضيا وحاضرا في التعبئة الإيجابية والتحسيس والتوعية، ولذلك كان من الأهمية بمكان أن تعمد وزارة الثقافة والشباب والرياضة- الناطق الرسمي باسم الحكومة إلى تعميم بلاغ صحفي يدعو جميع ناشري الصحف والجرائد الورقية إلى التوقف وتعليق صدورها إلى أن تسمح الظروف بذلك، مع السعي نحو اعتماد صيغ بديلة تساهم بجانب الشركاء الوطنيين والمؤسساتيين الآخرين الذين يتقاسمون معهم واجب الإخبار وتنوير الرأي العام الوطني بكل ما استجد في مجال الطوارئ الصحية التي التجأت إليها بلادنا حماية للأنفس والأرواح، كما لا تخفى من جهة أخرى الأهداف الوقائية والاحترازية الكامنة وراء هذا الإجراء الأخير . لذلك فمنذ تأسيس النقابة الوطنية للصحافة المغربية في 25 يناير 1965 ، فقد عملت على تحقيق جملة من الأهداف التي ناضلت من أجل ترسيخها، إذ لا يتعلق الأمر بمجرد توفير الأجواء المناسبة للحياة الديمقراطية في البلاد وفرض الشروط التي تستلزمها حرية الرأي والتعبير فحسب، بل أيضا وبالأساس متابعة القضايا الاجتماعية في القضايا المصيرية الكبرى التي تهم الحيات اليومية للمواطنات والمواطنين، تعبئة وتحسيسا وتكوينا وحتى توعية بما يخدم المصلحة العامة للبلد، نموذجنا في هذا الإطار الذي يمكن الاستدلال به، قضية الزيوت الغذائية المسمومة وزلزال أكادير في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات من القرن الماضي، وكيف أن الصحافة الوطنية والحزبية آنذاك نجحت في نقل مشاعر التعاطف والتضامن بين جميع شرائح المجتمع المغربي، في أوقات كارثية عصيبة تدثرت فيها البلاد بوشاح من الحزن القاتم، وتجند فيها قائد البلاد وكافة مسؤوليها في أجهزة السلطات العمومية من أجل الحد من تداعيات الكارثتين والأخذ بيد المواطنين المنكوبين . لقد علمنا التاريخ الاجتماعي للمغرب المعاصر بعد الاستقلال بالخصوص الكثير من العبر والدروس القمينة بأخذ الحكمة منها والاستفادة من نتائج مجرياتها، وهكذا نجد الإعلام الوطني خلال عقد الستينيات في جو مشحون بالتوتر والقلق والتباينات السياسية يبادر إلى تأسيس فكرة الوحدة بين المكونات والعائلات السياسية المغربية على الصعيد الوطني، وجاءت التشكيلة الأولى للنقابة الوطنية للصحافة المغرية في مكتبها التاريخي المؤسس سنة 1965 على الصيغة التالية : ( الكاتب العام الممثل لجريدة "العلم" عبد الكريم غلاب، نائبه الأول الممثل لجريدة "التحرير" عبد الرحمان اليوسفي، النائب الثاني الممثل لجريدة "لا ناسيون أفريكان" إدريس الفلاح، النائب الثالث الممثل لجريدة " لافان كارد" محمد التيباري، النائب الرابع الممثل لجريدة "الاستقلال" امحمد بوستة، أمين المال الممثل لجريدة "ماروك أنفورماسيون" أحمد بنكيران وبنيامين واكرات، نائب أمين المال الممثل لجريدة "العمال" محمدهاشم أمين، أما بقية الهيكلة التي تضمنها المكتب فقد تكونت من الشخصيات وجرائدهم الحزبية التالية : جريدة "أخبار الدنيا" صاحبها مستقل مصطفى العلوي، جريدة "الفلاح" ممثلها محمد لحلو،، جريدة "المكافح" التي يمثلها علي يعتة، جريدة "منار المغرب" في شخص ممثلها عبد السلام بن عبد الجليل، كان هذا ما أورده في الجزء الخامس "خديم الملك" من مذكرات أيام زمان لمؤلفها الأستاذ محمد الصديق معنينو، ص ص : 163/164 . وبما أن الصحافة الوطنية ونقابتها الأولى بالمغرب قد أخذت على عاتقها وآلت على نفسها منذ الوهلة الأولى من تأسيسها المساهمة في بناء وحدة الوطن سياسيا وثقافيا، إضافة إلى أدوارها الطلائعية الأخرى المتمثلة في الإخبار والتوعية والحسيس ومتابعة القضايا المجتمعية الكبرى الطارئة على صعيد الكون والوطن من قبيل الوثبة الكبرى واليقظة المكتملة والتتبع الدقيق الذي أبان عنه الإعلام المغربي أثناء الانتشار المريع الذي يعرفه فيروس وباء كورونا كوفيد 19 دوليا وعلى الصعيد المغاربي، وخاصة في الجانب المرتبط بالتنوير الإيجابي للمواطنات والمواطنين والتنبيه لمخاطره، وإذا كانت سنة 1993 هي المعلمة التي تمكن من خلالها البرلمان المغربي من إلغاء ظهير 1935 المتعلق ب" كلما من شأنه " الذي يعتبر انتصارا لحرية التعبير وفي نفس الوقت يؤسس لصفحة جديدة في حرية الممارسة الصحافية بالمغرب، فإنه بموازاة ذلك كان مناسبة لانعقاد المناظرة الوطنية الأولى للإعلام التي أرخت لحدوث منعطف وتحول هام في تاريخ الصحافة المغربية، فبالإضافة إلى التوصيات المتألقة المتمخضة عن أيام المناظرة في نهاية أشغالها، فقد تم الإجماع على جعل 15 نونبر عيدا وطنيا للصحافة المغربية . وباعتبار أن الإعلام المغربي جزء أساسي من مكونات المجتمع المدني المعروف بحيويته وديناميته المتمثلة في قدرته على المواكبة ونقل الأحداث الكبرى التي تعتمل في أعماق سويداء المجتمع، فإن المنابر الإعلامية الجديدة التي تمثلها المواقع الإلكترونية تستلم مشعل الأمانة من الأب المؤسس والشرعي – النقابة الوطنية للصحافة - لتمضي في الطريق القويم الذي اختطت معالم منهجه الصحافة الورقية والتاريخية الأصيلة، خاصة بما عرف عن هذه الأخيرة من قيم المصداقية والنزاهة والاستعداد الدائم للتضحية فداء للوطن، دون أن يعزب أويغيب عن بال هذا الخط الإعلامي الواعد وهو يمتشق سيف سلطته المعرفية، أن المطلوب في مثل هذه الظروف الحرجة والحساسة التي تمر بها أمتنا المغربية، هو الارتكان أكثر فأكثر إلى روح الموضوعية والتحري في تلقي الخبر والتأكد من مدى صدقية مصادره، بعيدا عن المهاترات الفارغة والمزايدات السياسوية المقيتة، وما قد يترتب عن ذلك من الحياد عن أسس الحق، والهرولة نحو المصالح الضيقة أو الكتابات التي تنفث السم الناقع في مفاصل المجتمع.