تعقيبي أو تفاعلي الذي خصصته لمداخلة السيد المندوب الوزاري المكلف بحقوق الإنسان في اللقاء الدراسي الفكري الذي نظمه المجلس الوطني لحقوق الإنسان مساء يوم 12 يوليوز 2019 بمدينة الرباط حول موضوع : " العدالة المجالية وتحديات تدبير أشكال التعبير العمومي ". إن التقرير الذي أصدره السيد المندوب الوزاري المكلف بحقوق الإنسان حول احتجاجات وأحداث الحسيمة، يمكنني أن أقف عنده على مستوى المضمون أكثر من تداولي في المنهج، وهو تقرير تركيبي يبلغ عدد صفحاته 65، وتتوزع فقراته حول ستة أقسام، وقد تضمن القسم الخامس خلاصات حول السياق والتظاهر والذاكرة والمجال، في حين عالج القسم السادس جملة من الاستنتاجات والتوصيات، وفي هذا الإطار يمكنني كفاعل مدني أن أسجل بعض الملاحظات الأولى على الشكل التالي : • إن تقرير السيد المندوب الوزاري المكلف بحقوق الإنسان بعد صدوره فتح مجالات واسعة ومهمة للنقاش على الصعيد الوطني وليس أدل عن ذلك من لقاء يوم 12 يوليوز 2019 الذي نظمه المجلس الوطني لحقوق الإنسان بالرباط ، إذ كان فرصة لاستجماع مختلف النخب الثقافية والمكونات الحقوقية والقانونية من أجل إطلاق حوار عمومي ونقاش فعال حول العدالة المجالية وتحديات تدبير أشكال التعبير العمومي . • ونظر لكون أحداث واحتجاجات الحسيمة هيمن على أعماقها البعد التاريخي، وقد تمثل ذلك في الاستحضار الدائم لرمزية الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي، وذلك بناء على استدعاءات خاصة ومفاهيم معينة تمسك بها المحتجون من الشباب، في مقابل ميل التقرير بدوره إلى تبني علم التاريخ، لذلك استحضر النداء الذي وجهه الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي بطريقة ضمنية إلى الشباب في الريف المغربي عشية توقيعه لمذكراته بتاريخ 08 مارس 2018 " أحاديث في ما جرى "، نداء توخى استيعاب جميع دروس وقيم ماضينا وحاضرنا في أفق التعامل معها إيجابا في الحاضر، واستثمارها بما يما يخدم مصلحة الوطن والأمة مستقبلا، والأستاذ اليوسفي لا نقدمه كحقوقي وسياسيي ووزير أول سابق، بل كرمز وأحد الأعمدة المؤسسة لجيش التحرير في شمال المغرب خلال فترة الحماية، إلى جانب كل من سعيد بونعيلات والغالي العراقي وعباس المساعدي وعبد الله الصنهاجي .. وهي المكانة ذاتها التي جسدتها أيضا رسالة السيدة عائشة الخطابي نجلة المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي، التي أبت إلا أن تؤكد أن الحراك كان يضم بين صفوفه شبابا من ذوي النيات الحسنة، ولكن إلى جانبهم تواجد آخرون سعوا إلى استغلال احتجاج اجتماعي لخدمة أغراض سياسية، داعية إلى مزيد من التريث والحكمة والكف عن العناد، لكون الشباب كسبوا ملف نضالاتهم، وأن الوطن فوق كل اعتبار. • مسألة طبيعية أن ينعكس في بعض الأحيان الكل المغربي على بعض أجزائه، فالنسق السياسي المغربي العام يجب أن نميز فيه أيضا بين تمظهرات كل من النسق الحديث/ التقليدي، في مقابل النسق التاريخي/ الديني، وإن كان الأهم كون التقرير اعتمد في صياغة وبناء محتوياته ليس على المعطيات والإحصاءات الإدارية المتوصل بها من المؤسسات الرسمية فقط، وإنما بشكل أساسي وجوهري حتى على عدد من الدراسات والأبحاث الفكرية والنظرية، التي تستلهم من مجالات علم حقوق الإنسان والقانون والسوسيولوجيا والتاريخ والثقافة الإنسانية العامة، وهي الخاصية التي جعلت تقرير المندوب الوزاري المكلف بحقوق الإنسان تدعو إلى التعامل معه بمزيد من الدقة والتأمل العميقين، مما من شأنه أن يفضي إلى استصدار تقييم موضوعي وسديد لأهم المقتضيات التي وردت في تقريره . • إن التعامل الإيجابي لتقرير المندوب الوزاري المكلف بحقوق الإنسان مع مطالب المحتجين من شباب إقليمالحسيمة، في أبعادها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، يعتبر اعترافا صريحا بمشروعية مطالبهم ونضالاتهم التي يمكن إدراجها ضمن الحركات الاجتماعية الجديدة التي ترفض في البدء التعامل مع كل أشكال التنظيم، مع إمعانها في الارتياب والحذر والتردد، ثم لا تلبث أمام الأمر الواقع أن تعود للعمل بشكل جماعي في أحضان التنظيمات المدنية والسياسية، على غرار ما حدث في مجموعة من الدول الأوروبية في الستينيات وبداية الألفية الثالثة، من قبيل حركة الشباب في فرنسا سنة 1968 ، وتجربة الشباب الألماني الذين تحولوا إلى حزب البيئيين الخضر . • تضمن التقرير أيضا تأكيدا قويا على أهمية المجتمع المدني، واحتفاء ملحوظا باقتراحاته وأهمية عملياته القائمة على الرصد والتشخيص للأعراض المزمنة، لذلك لم يتردد التقرير في احتضان جميع المبادرات المدنية على اختلاف مشاربها واهتماماتها، وأخذ توصياتها الرصينة على محمل الجد واستدماجها عن قناعة عميقة في بنية التقرير، بل والدعوة إلى التعاون والعمل المشترك بخصوص توصياتها المنبثقة عن احتجاجات الحسيمة وأحداثها، وذلك من قبيل المبادرة المدنية من أجل الريف، ومجموعة الديمقراطية والحداثة، والائتلاف المغربي لحقوق الإنسان، والفيدرالية الوطنية للجمعيات الأمازيغية بالمغرب، وهي الأشكال المدنية التي كانت تروم وضع حد للاحتقان الذي عرفه إقليمالحسيمة، والدعوة نحو تنقية الأجواء والتعامل مع ملف احتجاجات الشباب بالحسيمة بنوع من المرونة التي من شأنها أن تؤدي إلى خلق انفراج شامل في الأوضاع ضمن المستقبل القريب بالمنطقة . • كما يتحتم الإلماع أنه لأول مرة في تاريخ المغرب المعاصر يتضمن تقرير صادر عن مؤسسة حقوقية ذات صلة مباشرة بقطاع حكومي، الإشارة بشكل صريح إلى سلمية أحداث واحتجاجات الحسيمة وكذلك سلمية قوات الأمن، لمدة تزيد عن سبعة أشهر بدون تنظيم من جهات معينة سياسية وغير سياسية، على الرغم من الانفلاتات التي كانت تحصل بين الفينة والأخرى من طرف بعض رجال الشرطة وكذلك من قبل بعض المحتجين، وهذا الاعتراف الفريد من نوعه في تاريخ الدولة المغربية قاد أيضا إلى الحديث بشكل متوازن عن الضحايا من الجانبين من رجال الأمن ومن المواطنين على حد سواء، وكذلك عن رباطة جأش رجال الأمن وطول صبرهم وقوة تحملهم، وذلك بفضل الإصلاح والتحول الكبير الذي يعرفه القطاع الأمني مؤخرا بالمغرب، وأيضا بفعل الأثر المحمود الذي خلفته توصية هيأة الإنصاف والمصالحة بشأن الحكامة الأمنية وبالضبط في التوصية التي تنص على " حفظ النظام وكذا معايير وحدود استعمال القوة "، وفي المقابل نجد أيضا ميل التقرير إلى الاعتراف بقوة تمسك الشباب المحتج بمغربيتهم ووطنيتهم ورفضهم بالقطع لتهمة الانفصال، وفي منأى كامل عن أية تهمة تضفي عليهم صفات قدحية مشينة، الأمر الذي يلقي على ملفهم المطلبي مزيدا من أضواء الترحيب والاعتراف والإقرار بمشروعيته القوية، لولا أن حدة الأحداث كانت تزيغ في بعض المحطات وعلى يد بعض المحتجين عن مسارها السلمي المحدد لها، وتؤدي إلى الوقوع في المحظور من أعمال العنف . • توقف تقرير المندوب الوزاري أيضا عند وثيقة مطالب المحتجين من الشباب بإقليمالحسيمة وقيم عن جدارة فعليتها الحقوقية، وطرح سؤال الحاجة إلى تقييم أهمية وصياغة النموذج التنموي الذي يلائم الحسيمة، وفي نفس الوقت رجع إلى أحداث الماضي القريب المتعلقة بانتفاضة 1958 / 1959 ، واعترف أيضا بجرأة نادرة بخطأ الدولة آنذاك بشأن حجم القوة وقسوة العنف الذي واجهت به المحتجين، وبالتالي فإنه لا مجال للمقارنة بين ذلك الماضي الذي بات يفصلنا عنه مايزيد عن ستين سنة، وبين احتجاجات وأحداث الحسيمة الراهنة التي دبرتها قوات الأمن المدنية بحكامة ملحوظة رغم أنها تندرج ضمن مقياس الأحداث الكبرى التي بلغت في توترها المحلي بعدا جهويا عالي الإيقاع امتد في الزمان والمكان، خاصة لدى مقارنتها بأحداث المحيط الإقليمي التي ابتدأت هي الأخرى سلمية لتنتهي في الأخير بعواقبها المدمرة المعروفة، وفي المقابل توقف بدقة عند ما يسمى "بظهير العسكرة" وتحدث بموضوعية عن السياق الذي ورد فيه وكيف تم تجاوزه وإلغاؤه بعد فترة زمنية قصيرة، مشيرا بكل صراحة إلى أنه منطق للتدبير الترابي الذي خلفه الاستعمار، وأنه مع إقرار دستور 1962 فإنه قد تم إلغاء العمل بجميع الظهائر التي سبقت صدوره، مصرحا أن إقليمالحسيمة لم يكن الوحيد الذي تم تصنيفه كمنطقة عسكرية خلال السنوات الأولى التي أعقبت استقلال المغرب، حيث تم تصنيف مدينة مكناسوإقليمها كمنطقة عسكرية حتى قبل صدور الظهير المتعلق بإقليمالحسيمة، إضافة إلى مناطق وأقاليم مغربية أخرى . • ومن جانب آخر نسجل أيضا رصد التقرير لمدى أهمية البحث العلمي حول احتجاجات وأحداث الحسيمة، والقراءات والدراسات المختلفة التي أنجزت في الموضوع، خاصة منها تلك الأبحاث الصادرة عن باحثين من أبناء المنطقة، أو من المشتغلين في المؤسسات الجامعية القريبة منها، من المتخصصين أو المهتمين بالدراسات القانونية والاجتماعية، شريطة أن تعتمد أدوات ومناهج البحث العلمي السليمة، ولا يهم طبيعة الآراء الفكرية والسياسية لأصحابها، حتى ولو كانت غير محايدة ومنحازة " للحراك "، وهذا مهم جدا نظرا للنتائج القيمة والآفاق الرحبة التي ستنجم عن هذه العملية، كما أنه من الأهمية بمكان أيضا تفاعل الطبقة السياسية المغربية في البرلمان من خلال مجلسيه، بواسطة أسئلة الفرق البرلمانية والمجموعات، حيث تصرفت بهاجس وطني مشترك، عكست أريحية تضامنية مع ما يجري في الحسيمة، وانشغالها الكبير بالموضوع، وغاب عن الأسئلة المطروحة في البرلمان منطق الأغلبية والمعارضة، وأصبح الكل جسدا متراصا في البحث حول أفضل خدمة يمكن تقديمها للحسيمة ولمشروعها التنموي .
أما الملاحظات الثانية التي يمكنني تسجيلها باعتباري أحد الفاعلين المدنيين والحقوقيين بالمنطقة، فإنها تروم تسليط الضوء على مناقشة بعض من الجوانب التالية :
• إذ يتعلق الأمر بالاستنتاج أو الخلاصة العاشرة ذات الصلة بالخصوص بالأحكام الصادرة والعفو، إذ لا يتوقف التقرير عند العفو الملكي السامي، معتبرا ذلك من اختصاص أعلى سلطة في البلاد وهذا صحيح، ولعل حجته في ذلك هو استفادة نسبة كبيرة من المعتقلين من العفو بعد فترة وجيزة من صدور الأحكام ضدهم، مما يعكس حسب التقرير خاصية من خاصيات إرادة الدولة في مجال حقوق الإنسان وهذا مهم أيضا، ولكن لماذا لم يلجأ تقرير المندوب الوزاري على الأقل إلى استصدار توصية في الموضوع، على أساس أن العفو كما يسجل التقرير يحظى بطابع قيمي، وهو حق راجع بالطبع لمركز القرار، على غرار المعمول به في مختلف الأنظمة الدستورية عبر العالم، وكما هو معروف لدينا بناء على التقرير دائما ومن باب التوضيح، فإنه ليس العفو بدرجة استئناف، أو نقض للأحكام والقرارات القضائية الصادرة، وتثميننا لآلية العفو الدستورية والقانونية تأتي باعتبارها أحد المداخل الهامة والأساسية لطي هذا الملف، ووضع حد لمخلفاته وآثاره، وإن اقتضى الأمر التدرج في الملف، لأنه يعكس في آخر المطاف الحكمة الملكية الرشيدة، وعطف ورأفة جلالة الملك بمواطنيه . • وفي إطار المحور الأول من الاستنتاجات والتوصيات، نسجل ورود أحداث الحسيمة وخطاب الهوية في النقطة الرابعة، ونحن نعلم أن خطاب الهوية قد بدأ يتم تجاوزه، وذلك في سياقات بروز مفاهيم جديدة، ليس على المستوى الوطني فقط بل على الصعيد الدولي أيضا، وخاصة في فرنسا، لكون الخطاب الهوياتي يحيل بالأساس على الدين واللغة والعرق، خلافا لبعض المفاهيم الجديدة المتداولة من قبيل الشخصية التي تحيل على مكونات وروابط التاريخ والثقافة والأرض والقيم الإيجابية الجامعة، من قبيل العيش المشترك والإخاء والتضامن والمساواة والتنمية الديمقراطية الشاملة، وارتباطا بهذه القيمة الأخيرة التي تؤكد أن احتجاجات الحسيمة وأحداثها كانت في أساسها اجتماعية واقتصادية، وبالتالي فإن وجود نزوعات هوياتية ليست بالقاعدة العامة، بل إنها تشكل ذلك الاستثناء الذي ينسحب فقط على أفراد معدودين، وعلى بعض الجهات في الخارج التي يحتمل أنها تستغل هذا الملف لأهداف سياسية . وعود ة إلى البدء من أجل التأكيد على أهم الجوانب المشرقة في تقرير السيد المندوب الوزاري المكلف بحقوق الإنسان، من أجل التأكيد على التوصية الهامة السادسة ذات الصلة بالتأكيد على البحث في ادعاءات المساس بالحقوق الإنسانية والحريات المكفولة دستوريا، وعلى التوصية السابعة المتعلقة بالتفكير في إطار الشراكة والتعاون في وضع برنامج مستعجل بقصد تحليل ونشر وتقديم الأحكام والقرارات القضائية في مجال حماية حقوق الإنسان، وفي نفس الوقت أن نضع نصب أعيننا بقية التوصيات الهامة المتضمنة في التقرير، من قبيل نماذج : مواصلة المصالحة مع الذاكرة والمجال، تعزيز المكتسبات ومواصلة تحسين حالة حقوق الإنسان، تقوية وترصيد دور المجتمع المدني، توطين النموذج التنموي الحاضن لحقوق الإنسان حماية ونهوضا، مما من شأنه أن يساهم في إخراج المنطقة من العزلة والاستبعاد الاجتماعي .