لا شك أن الوحدة والتضامن من العوامل الأساسية في نجاح أي عمل جماعي مشترك يسعى إلى تحقيق غاية معينة كما أنه لاشك أن الفرقة والتشتت هما أساس انهياره وفشله؛ ولعل أي نظرة إلى التاريخ البشري تعزز وتثبت و تؤكد هذا المعنى فما كان ليحدث أي انقلاب أو ثورة أو تغيير على مدى التاريخ الانساني سواءعلى المستوى السياسي أو الإجتماعي أو الإقتصادي أو الثقافي دون حضور الوحدة كقيمة ثابتة وشرط أساسي يضمن كسب أي معركة قائمة وتحقيق أي تغيير منشود وفي هذا السياق فإن الشعب الريفي الأبي يعيش في الاونة الأخيرة على إيقاع هبات جماهيرية واسعة بعد حادث طحن المرحوم محسن فكري داخل شاحنة الأزبال كنقطة أفاضت الكأس بعد تراكم الممارسات المخزنية وسياسات الإقصاء والتهميش والتهجير والقمع والاعتقالات والإستئصال الممنهجة ضد أبناء الريف منذ الاستقلال الصوري؛ ولعل أبرز ما ميز هذا الحراك الجماهيري الواسع الالتفاف الغير المسبوق حوله وكذا التضامن والتآزر بين شبابه وأبنائه على اختلاف الأعمار والمواقع الاجتماعية والطبقية.فماهي العناصر الأساسية للوحدة ومقوماتها الأصيلة؟وما موقعها كقيمة تضمن المسير الصحيح للحراك في مراحله المتقدمة على العموم والمتأخرة على الخصوص؟وماهي سبل الحفاظ عليها؟ إن أي عارف بطبيعة المجتمع الريفي يدرك مدى تدينه وتمسكه بالمبادئ السامية للدين الإسلامي الحنيف وكذا تشبثه واعتزازه بتاريخه المسطر بالبطولات والأمجاد وبالجهاد والمقاومة الرافضة لكل أشكال الظلم والقهر والاستبداد؛ وعليه فإننا سنسوق هنا ثلاث عوامل رئيسية في تعزيز وتثبيت الوحدة والتضامن بين أبناء الريف. أولا: العقيدة الإسلامية الحية والتي لا شك أن عموم الريفيين يدينون ويؤمنون بها ويعتبرونها جزءا لا يتجزأ من كيانهم الجماعي العام؛ونظرا لما لهذه العقيدة الحركية من تأثير على النفوس وتوجيهها ولما تحمل من التشريعات عنها من قيم روحية قد تكون جديرة باستنهاض الهمم التواقة إلى الحرية والكرامة والعدالة الإجتماعية فإنها هي اللبنة الأساس في بناء أي وحدة متينة تمكن الشعب الريفي من بلوغ أهدافه وغاياته؛ وبما أن الخلفيات الأساسية لانطلاق هذا الحراك الراقي تكمن في الدفاع عن الحق في الحياة والكرامة الإنسانية ورفض الظلم بكل أشكاله وتجلياته وكل هذه الخصائص والمبادئ التي هي من صميم وجوهر الأهداف التي يرمي الإسلام إلى تحقيقها وإيجادها في الحياة الإنسانية الواقعية؛فإنه لا يمكن إغفال الجانب العقدي في أي حديث عن الوحدة بين أبناء هذا الحراك فتشبث الريفيين بعقيدتهم هو أساس تشبثهم بحقوقهم الأساسية المشروعة وهذه العقيدة هي التي توفر المخزون الروحي الهائل لضمان الوحدة والاصطفاف بين أهل الريف ومجابهة كل العقبات المحتملة ؛قال تعالى ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) هكذا جمع الله بكلمة التوحيد بين القلوب بعد العداوة والخصومة والنزاع؛ومن هذا المنطلق يجب أن يتم العمل لتثبيت ركن الوحدة وتعزيزه. ثانيا:الإنتماء للهوية والتاريخ؛فكل الريفيين يفتخرون بهويتهم الأمازيغية الجامعة وبتاريخهم المجيد الطويل من أجداد أجدادهم الأمازيغ الذين حاربوا وقاوموا الإمبراطورية الرومانية العاتية بقوة وبسالة قل نظيرها من المقاومات على امتداد التاريخ البشري وصولا إلى أجدادهم الذين سطروا أروع البطولات والملاحم التي أبهرت العالم وأعطت دروسا في الكفاح والمقاومة والدفاع عن الأرض والوجود بقيادة الأمير المجاهد البطل محمد بن عبد الكريم الخطابي؛هذا الذي استطاع أن يوحد القبائل الريفية بعد مسلسل التناحر والتنافر ليوجه قوتها وتركيزها نحو العدو الاستعماري الغاشم؛لذلك فالإنتماء لهذا التاريخ جدير بأن تنهل منه الدروس العظيمة في الوحدة والتضامن والاصطفاف والإنطلاق نحو رأس الأمر وعين الهدف. ثالثا: المصير الجمعي المشترك لأهل الريف؛ فالأوضاع القائمة في الريف من تردي الأحوال الإقتصادية والسياسية والإجتماعية والثقافية والحقوقية تمس كل الريفيين دون استثناء؛كما أن خسارة أي رهان في الظفر بالحقوق الأساسية لهذا الشعب هي نكسة له على العموم فلا مكان للوحدة إذا ما اتجهت البوصلة نحو تحقيق أهداف فئوية او شخصية او تنظيمية ؛وعليه فإن توفير الجو المستمر لها يقتضي استبعاد أي خطاب ينحو في هذا المنحى والتأكيد على أن هذا الحراك هو أمل لكل الريفيين. إن مظاهر وتجليات الوحدة ربما كانت موجودة بقوة في المراحل المتقدمة لهذا الحراك نظرا لتوفر كل الشروط المساعدة على حصولها سواء الداخلية منها أو الخارجية فعلى المستوى الداخلي أو الذاتي فالجو المشحون الذي كان سائدا -قبل مقتل محسن فكري -إزاء التضييق المستمر من قبل المخزن على أهل الريف والعمل على الإجهاز على كل ما تبقى من المكتسبات الحقوقية والحصار الإقتصادي الممنهج وسياسات الإعتقال والتصفيات عبر كل الأشكال المقيتة ؛كل هذا ساعد بشكل كبير في توحيد الصفوف وظهور هذا الإلتفاف الغير المسبوق من كل أطياف المجتمع وتبلوره في شكل حركة احتجاجية قوية قد تكون مؤهلة لإحداث أي تغيير جذري ولو على المستوى البعيد؛أما على المستوى الخارجي أو الموضوعي وهو الجانب المهم فالتكتيك المخزني المراوغ باجتناب المواجهة المباشرة وعدم إنزال أي قوات لقمع المحتجين أو إجراء أي اعتقالات في صفوف المناضلين والإكتفاء بالمواجهة الغير المباشرة عبر التهديدات والدعايات والحملات الإعلامية المكشوفة ؛ربما كان سببا -ولو بشكل نسبي-في تدفق المحتجين وظهور الكم البشري الهائل؛وقد يبدو هذا الكلام -ظاهريا- نوعا من التثبيط أو إضفاء طابع الجبنية على الجماهير الريفية؛لكن هو في جوهره تنبيه على التركيز على أهمية هذا الجانب المفصلي داخل إطار المعركة القائمة؛ فالمراحل المتأخرة (المتوقعة) من الحراك سيكون فيها الرهان الأكبر على هذا الكم ومدى حضور الوحدة بين عناصره ومكوناته. ونظرة بسيطة إلى الماضي القريب في نضالات الريف ومالاتها تؤكد هذا المعنى؛حيث لا مستقبل لأي حراك دون التزود بقيمة الوحدة الحقيقية الموصلة إلى المرامي والغايات المرجوة؛وكذا مدى التقييم الموضوعي للاستعداد الذاتي في مواجهة كل السيناريوهات المحتملة والتصدي لأي محاولة لتقويض هذا الحراك عبر كل الوسائل المتاحة ؛ولعل أبرز ما يراهن عليه المخزن هو تشتيت الصفوف وخلخلتها وتمزيقها والعمل على مبدأ النخر من الداخل وهذا ديدنه في كل الفترات السابقة. إن الحفاظ على هذا الحراك الراقي المتميز يستوجب من القيادات العمل الدؤوب المتواصل من أجل توفير مزيد من جو الوحدة والتضامن والاصطفاف ودفع كل المحاولات الخسيسة التي ترمي إلى نسف هذه الهبة وذلك عبر الإستحضار الدائم على مستوى الخطاب والممارسة لكل مقومات الوحدة وعبر التأكيد على عقيدتنا الإسلامية وهويتنا الأمازيغية وتاريخنا الريفي ومصيرنا المشترك؛ واستبعاد كل الخطابات المستهلكة المعسكرة وراء الأفكار البالية والتي لم يكن لمضمونها يوما أي موطئ قدم داخل البنية الإجتماعية للريف.