الريف، هذا الشامخ الذي لم يركع يوما للسياسات التي تستهدف احتواءه وإخضاعه، هذه المنطقة التي أنجبت رجالا شرفوها في محافل شتى فحق لها أن تفتخر بهم وبها، وآخر النماذج كانت من مسيرة الرابع من نونبر الجاري، آلاف الريفيين رجالا ونساء صغارا وكبارا وشيوخا خرجوا لتلبية النداء، نصرة لقضية الشهيد محسن فكري الذي مات طحنا في شاحنة لنقل الأزبال، وتنديدا بالسياسات الإقصائية التي تستهدف قتل المنطقة على جميع الأصعدة. وعوض الخوض في نقاش مسؤول يحلل الواقع والأسباب والحلول الممكنة، طفت على السطح طفيليات لا شخصية لها ولا رأي لتقذف الريفيين بأبشع الصفات، منهم من وصفهم بالأوباش وتجار المخدرات واللاوطنيين والانفصاليين... فهل سأل هؤلاء أنفسهم أولا، هل اندمج الريف حتى ينفصل؟ إنه نقاش قديم جديد يطرح باستمرار عند اندلاع أي حراك شعبي بالمنطقة، الريف لم يندمج يوما في المغرب كباقي المناطق فتاريخه النضالي المليء بالانتفاضات لا يشفع له، فالمنطقة لها خصوصية معينة لغوية وثقافية وتاريخية لا تتشابه مع أي منطقة أخرى في المغرب والدولة تتحمل كامل المسؤولية في تعميق الفجوة وجعل سكان الريف غرباء في بلدهم بل وفي مدنهم وقراهم في غياب تام لأي مشروع تنموي حقيقي يستهدف النهوض بالمنطقة اقتصاديا واجتماعيا على وجه الخصوص، فحتى مشروع "الحسيمة منارة المتوسط" الذي سيلتهم ميزانية بالملايير لن يكون له أي تأثير مباشر على الساكنة بل سيصنع مدينة سياحية للترفيه عن الأغنياء وسيزيد من بؤس المواطن البسيط الذي يعاني ويلات تحويل المنطقة إلى سجن كبير بابه مفتوح دوما لمن أراد المغادرة تطبيقا لتعليمات فوقية تحكمها الهواجس الأمنية. هناك من يتمنى لو اندثرت أفكار الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي وجمهوريته معه إلى الأبد، فلو كنا في دولة تؤمن حقا بتعدد روافدها وتفتخر بتاريخها لما لجأ الباحثون إلى أرشيف وكتابات المحتل للقراءة عن حرب الريف والجمهورية الريفية ومعركة أنوال التي تشكل ملحمة في مقاومة الشعوب للاحتلال تم تغييبها عن التاريخ الرسمي نهائيا، لو كانت الدولة تقدر تضحيات أبناء الريف لكانت ذكرى معركة أنوال عطلة مدفوعة الأجر في كامل تراب المملكة ولسعت الدولة لاسترجاع رفات أمير الريف من مصر ليرقد بسلام في أجدير، حينها يمكن أن نتحدث عن مصالحة حقيقية تقطع بشكل نهائي مع تاريخ القمع والترهيب والتهميش. إن التقسيم الترابي الجديد للجهات زاد من تعميق هذا الواقع وأصر على تمزيق جهة الريف بين الشمال والشرق مخافة الهاجس الانفصالي المزعوم، فمتى سعيتم في سبيل إدماج الريف وبسط اليد للمصافحة والمصالحة الحقيقية بعد سنوات من القمع والإقصاء والتهميش بل والطحن في شاحنات الأزبال ! ومتى سيحس الريفيون حقا أنهم مغاربة لا ينظر إليهم بعين التخوف والتوجس والحيطة لسبب وحيد هو أن جيناتهم صنعت رجالا لا يخضعون ولا يركعون لبني البشر فتوقعوا منهم ما لا يرضيكم إن أنتم واصلتم تعنتكم وتكريس سياسة الآذان الصماء فقد بلغ الصبر مداه وما عاد هناك بقية.