عندما أنهيت دراستي الجامعية، توجهت وبعض زملاء وزميلات الدراسة لاستلام شهادات التخرج من كلية الحقوق في وطن تتناقض فيه الحقوق بين الظاهر والباطن وتتجزء فيه عدالة القانون فيُطبق على الضعفاء ويستثني الأقوياء، وقد آثرنا في طريق عودتنا، أن نمارس هواية المشي كما كنا متعودين أيام الدراسة، ونحن نعلم بأنه آخر تجوال سيجمعنا مع نفس الأشخاص وفي نفس الأمكنة. كان بداخل كل منا حلمٌ تعتريه مخاوف المجهول من الزمان الآتي، وسرعان ما يقفز الحلم إلى اللسان فيخرج في شكل كلمات ساخرة تستحضر لا منطقية الواقع وضبابية المستقبل، لم يقطع تسلسل الأحلام في كلماتنا سوى بائع بذور عباد الشمس المُمسك بعربته التقليدية، مُجسدًا شخصية المواطن المغربي الصابر والقنوع بما قُسم له من رزق، - كأنه يوحي لنا أن الصبر والقناعة هما الحل الوحيد الذي سينقذكم من المستقبل المرعب الذي ينتظركم- وعلى وجهه ابتسامة تعكس حلمه البسيط ببيع ما تبقى من حبات على عربته، ولم نلبث بدافع من تأثيرية المشهد الممزوج بتناقضية الظاهر والباطن من أفكارنا أن استجبنا له، حينئذ تقدم أحد زملائنا وطوى شهادة تخرجه على شكل قرطاس ليملأها بحبات البذور. كان من الطبيعي أن تعترينا الدهشة من تصرف زميلنا، لكنه - وكأنما أحس بما يعتمل بداخلنا من تعليقات وتساؤلات - عاجلنا بقوله: ربما كانت هذه هي الفائدة الوحيدة المأمولة منها، فلن يحتويها يومًا ملف عملٍ حكومي، وإن احتواها فبوظيفة ليست بمستوى دراستي وليست تخصصي الذي أستطيع أن أتقن فيه، أو بدريهمات قليلة لا تُقيم صُلب الجائع ولا تُشبع الحد الأدنى من طموحات الوالدين، ولن تقبل بها فتاةٌ كمهر لها سوى بدعمٍ من حسابات بنكية بعيدة المنال، ولن ترقد في بروازٍ أنيق إلا إذا وُجد الحائط المنوط بها تزيينه، هذه الشهادة لا قيمة لها في مجتمعنا إلا بقدر ما للورقة التي طُبعت عليها من قيمة!، بل لقد تم تشويه الورقة بإمضاءات وأختام فقدت مصداقيتها فلم يعد لها قيمة. هل الحياة ما بعد الدراسة مرعبة وضبابية لهذه الدرجة؟ سؤال تسلل إلى أذهننا في تلك اللحظة، ولأول مرة استشعرنا الخوف من المستقبل وبدا لنا غامضا وضبابيا، وأدركنا أن لقب الطلبة الذي حملناه لمدة تتراوح بين أربع وخمس سنوات سيمحى و سنحمل لقب خريجين أو عاطلين لنلقى في معترك حياة جديد غير الذي كنا به، ولنعيش عالما واقعيا مختلفا تماما عن الحياة الجامعية، فقد كانت الجامعة بالنسبة لنا عالما مثيرا نتلمس معالمه رويدا رويدا، وكنا في أوج حماسنا وانطلاقنا واكتسبنا مهارات وخبرات انخرطنا في تنظيمات طلابية، وتشبعنا بأفكار ومبادئ أقسمنا أن لا نتخلى عنها وستكون كسراج ينير دروبنا المستقبلية, ونحتمي بها من تقلبات الفكر والجهل والفساد، وكانت لدينا حياة مخططة تسير وفق نظام معين نعرف ما لنا وما علينا، أهدافنا موضوعة في إطار منظم يحيطه سياج هو دراستنا وحياتنا الجامعية ويزين ذلك السياج أصدقاؤنا ومرحنا معهم، ووقتنا الخالي نوعا ما، وصفاء ذهننا وخططنا المرحلية وطموحاتنا المستقبلية التي طالما كنا متفائلين بتحقيقها. يبقى السؤال المطروح من قبل كل متخرجٍ جامعي: ماذا بعد الجامعة؟ فبعد الجامعة سيعرف المتخرج الجامعي معترك الحياة الحقيقي، وسيواجه صعوبات كبيرة في مسيرة بحثه عن منصب العمل الذي يسعى لأن يكون في مجال تخصصه و بمستوى تعليمه، ويكسبه شعورا بأنه حقق مجهود سنوات دراسية وحقق توقعات عائلته التي انتظرت لسنوات نتائج استثمارها التعليمي له، وما تخللته هذه السنوات من رعاية مادية ومتابعة معنوية، ولكن كما يبدو أن ذلك التعب وسهر الليالي لم يشفعا له بأن لا يجد أبواب العمل موصدة أمامه، رغم الشواهد العلمية المتحصل عليها والتي لم تعد كتأشيرة لدخول عالم الشغل. فالتزايد المستمر للأعداد الكبيرة من المتخرجيين الجامعيين ومتطلبات السوق الحديثة التي تفضل الأيادي العاملة الخبيرة المتمرسة، متردّدة بذلك في توظيف المتخرجيين الجامعيين الذين لا يملكون سوى معارف نظرية، وانتشار المحاباة والمحسوبية في التوظيف أو ظاهرة توريث الوظائف, يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "من استعمل رجلا لمودة أو لقرابة، لا يستعمله إلا لذلك، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين (رواه ابن أبي الدنيا -مسند لابن كثير)، وتقليص مناصب الشغل نتيجة انصياع الدولة للقوى الدولية الفاعلة بذرائع الشراكة الاقتصادية ومناطق التبادل الحر وتأهيل المؤسسات... كل هذه العوامل ساهمت في تفاقم أزمة البطالة لدى خريجي الجامعة. إن تعطيل هذه الطاقة الجسدية والفكرية الفتية بسبب الفراغ يؤدي إلى أن ترتد عليه تلك الطاقة لتهدمه نفسيا مسببة له مشاكل كثيرة، وتتحول البطالة إلى مشاكل أساسية معقدة، ربما أطاحت ببعض الحكومات والأنظمة، فحالات التظاهر والعنف والانتقام توجه ضد الحكام وأصحاب رؤوس المال فهم المسؤولون عن مشكلة البطالة، وتفيد الإحصائيات العلمية أن للبطالة آثارها على الصحة النفسية كما ان لها آثار على الصحة الجسدية، ويترتب عليها مجموعة من الآثار الإجتماعية حيث يشعر العاطلون بالإحباط الشديد المزمن واليأس، وأن نسبة كبيرة من العاطلين عن العمل يفتقدون تقدير الذات ويشعرون بالفشل وأنهم أقل من غيرهم، و يفقدون بالتدريج شعور الانتماء للدولة، ويكونون عرضة لأي استدراج قد يصنع منهم عنصرا من عناصر الهدم، مع ان التعليم يعِدّ الفرد للبناء لا الهدم. تزداد مشكلة فقدان الشعور بالانتماء وعدم الرضا خطورة عندما يجد الشاب نفسه أمام فئة من الأفراد يحصلون على وظائف هو أحق بها، فيزداد سخطه ويضعف انتماؤه للمجتمع وللدولة عامة, وينتشر عنده الشعور بالحقد والبغضاء نحو الطبقات التي تحيى في بحبوحة من العيش، إلى التفكير جديا بالانتقام من المجتمع والنظام الحاكم، الذي يرفض منحهم فرصة العيش الكريم، وتحسين أوضاعهم الاجتماعية، وتحقيق ذواتهم وتجسيد طموحاتهم من خلال تحصنهم بالعمل، وتقول الدكتورة "عزة كريم" أستاذة علم الاجتماع بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية: "أن البطالة تولد عند الفرد شعورا بالنقص بالإضافة إلى أنه يورث الأمراض الاجتماعية الخطيرة كالرذيلة والسرقة والنصب والاحتيال، وتضيف أن الفرد العاطل يشعر بالفراغ وعدم تقدير المجتمع فتنشأ لديه العدوانية والإحباط، والبطالة تحرم المجتمع من الاستفادة من طاقة أبنائه".(1) نلاحظ أحيانا بعض الفئات العاطلة والتي يكون قد نفذ صبرها ولم تعد تؤمن بالوعود والآمال المعطاة لها وهي ترفع شعار التململ والتمرّد، ومع ذلك لا يمكن لومها و علينا أن نلتمس لهم العذر، فمقابل مرارة ظروفهم هناك شواهد لفئات منغمسة في ترف المادة، ومن الطبيعي أن ينطلق لسان حالهم متسائلا أين العدالة الاجتماعية والإنصاف؟ كما أن سياسة العنف المفرط في مقابل حركة العاطلين لا تخلق إلا المزيد من العنف والإضطراب وتفاقم الأزمة، فعلى الدولة احترام هذه الحقوق واتساع الصدر للآراء المختلفة, لأن المواطن في نهاية المطاف لا يطالب إلا بحق العيش الكريم والحفاظ على كرامته وإنسانيته في وطنه، وهي من جوهر حقوق المواطن والتي يجب على الدولة أن تكفلها وتحرص عليها، لا أن تتكالب عليها فتكون هي والقدر مجتمعان على المواطن المستضعف. وعندما تطول مدة البطالة، تتفاقم عند العاطلين حالة الاكتئاب مما يؤدي إلى الانعزالية والانسحاب نحو الذات، وتؤدي حالة الانعزال إلى قيام الفرد العاطل بالبحث عن وسائل بديلة تعينه من الخروج من معايشة واقعه المؤلم وكثيرا ما تتمثل هذه الوسائل في تعاطي المخدرات أو الانتحار. وهناك من يرتمي في أحضان الأحزاب السياسية طمعا في منصب أو مكافآت مادية، فيلتجأ أغلب خريجي الجامعة إلى الانضمام إلى هذه الأحزاب ويصيرون أسرى لقادتها، ويرضون من حيث المبدأ بإخضاع مخزونهم الثقافي والفكري لإمرة الغرض السياسي، ويتحولون إلى ثلة من الحزبيين الأتباع، يدافعون عن سياسات أحزابهم وبرامجها, هذه الصورة يفقد فيها المثقف خريجي الجامعة تقديس الحق، ويتخلى فيها ولو بالتدريج عن إيمانه بالأفكار والمبادئ التي تبناها خلال دراسته الجامعية لصالح السياسي، فيلغى عنده دور المثقف الحر لصالح المناضل السياسي، لتثمر النتائج عن إجهاض الثقافة النقدية، وإضاعة فرصة ثمينة لنمو الفعل المعرفي باستقلالية نسبية عن الأفكار السياسية المتصارعة، مما يقود إلى تراجع أكثر وأكثر من مكانة المعرفة، لتصبح وسيلة انتقائية يسعى المثقف إلى اكتساب ما يفيد منها لدعم مواقف حزبه وتبريرها، بدلا من أن تكون غاية بحد ذاتها. فهذا الواقع المحبط والميؤوس منه يجعل الكثير من خريجي الجامعة إلى التفكير جديا بالهجرة إلى مجتمعات أخرى، سواء كانت تلك الهجرة قانونية أم سرية، ومن الواضح أن هجرة العقول تعد من أخطر القضايا التي تواجه عملية البناء الحضاري في بلداننا، فالعقل المبدع المبتكر هو المحرك والحافز لكل تقدم حضاري، وإذا أصيبت البلدان بداء هجرة العقول، فإن هذا يشكل نزيفا مميتا لكل إمكاناتها في الإبداع والتقدم. فإذا كان خريج الجامعة يعاني من تأثيرات البطالة على جميع النواحي فإن الطالب الجامعي الذي لم يتخرج بعد ليس بمنأى عن هذا التأثير زيادة على المشاكل اليومية التي تواجهه في حياته الجامعية، فكثيرا ما تتردد على أفواه طلبتنا هذه الجملة "ماذا بعد الجامعة"؟ والتي تحمل دلالات كثيرة فهي تعبر عن مستقبل غامض ومجهول، فالطالب يقضي معظم عمره على مقاعد الدراسة لاكتساب التكوين من أجل أن يستفيد منه من خلال شغل منصب عمل، إلا أنه يفاجئ بمصيره فهو ليس إلا نسخة من آلاف الشباب مثله بلا عمل، مما يجعل القيمة الذاتية في نظر الشخص ذاته قيمة ضئيلة واهنة ومهتزة لا تبعث في النفس ثقة. فهاجس البطالة إذن لا يقتصر على الخرجيين فقط، بل يؤثر أكثر على طموحات الشباب الجامعي، حيث يؤثر هاجس البطالة تأثيرا سلبيا على تطلعات وآفاق ورغبات الطالب الجامعي إذ تقف عائقا أمام رغبته في مواصلة الدراسة وكذا أهدافه الدراسية، ويرجع ذلك لوعي الطلبة الجامعيين بمشكلة البطالة واطلاعهم على إحصائيات البطالة في صفوف خريجي الجامعات، إضافة لاحتكاكهم بالطلبة خريجي الجامعة العاطلين عن العمل، وكذا إطلاعهم على إجراءات الحكومة المغربية فيما يخص التوظيف نظرا لتجميد الوظيفة وخصوصا على أبناء الشعب..وهو ما أزم الوضع أكثر وقضى على آمال الكثيرين في الحصول على منصب عمل خاصة الطلبة المقبلين على التخرج، وهو ما سيؤثر بالتالي على آفاق وطموحات الطلبة الجامعيين الدراسية والمهنية مستقبلا. إن تحقيق التنمية المستدامة يمر عبر معالجة المسائل الاجتماعية وبالأخص مشكلتي التشغيل والبطالة، فالتشغيل في المغرب لا يزال رهن الحسابات السياسية والتلاعب بالأرقام على حساب فئة كبيرة من الشباب، لذا على الدولة أن تراعي المشاكل التي يعاني منها الشباب خاصة الطلبة الجامعيين، وذلك من خلال مراعاة احتياجات الأعداد الهائلة من الطلبة الجامعيين المقبلين على التخرج وذلك بتوفير مناصب عمل لهذه الفئة حتى يتقلص حجم البطاليين في صفوف خريجي الجامعة، ولا ينتقل هاجس البطالة إلى الطالب الذي مازال يزاول دراسته، وبالتالي ينصب اهتمام هذا الأخير على الدراسة والتحصيل فحسب، ثقة منه بأنه عندما يتخرج سيجد فرصة للعمل يخدم من خلالها مجتمعه، وتجدر الإشارة إلى أن من أهم مقومات فهم الشباب كفئة فعالة ونشيطة في المجتمع إجراء دراسات تتسم بالشمول الهادف إلى وصف وتشخيص اتجاهات الشباب نحو مختلف القضايا ذات الصلة بالتنمية الاجتماعية، إذ تشكل نتائج هذه الدراسات ركيزة تعتمد عليها سياسات توجيه الشباب ورعايته واستثمار طاقاته الايجابية لخدمة المجتمع، هذا من جهة. ومن جهة أخرى على شبابنا الوعي بأن البطالة بعد الجامعة شرّ لابدّ منه، وعدم الاعتماد الكلي على الدولة في خلق مناصب عمل، بل عليه السعي لاكتساب رزقه الحلال بطرق مختلفة وخصوصا في عصرنا التكنولوجي فالإنترنت ستسهل عليه الكثير من المصاعب إن استخدمها كوسيلة للتعلم ولبحث عن فرص العمل لا من أجل الترفيه وقتل الوقت، فهناك العديد من المواقع التي تقدم دورات في تخصصات مختلفة، بعضها بمقابل مادي لكن هناك الكثير منها تقدم الخدمات مجانا، وعليه بتعلم اللغة الإنجليزية،لأنها تعتبر لغة العلم في العالم الآن، معظم الدراسات والمواقع والدوارات ستجدها على الإنترنت بالإنجليزية، الاشتراك في المجلات العلمية في مجالاته ، وتسويق نفسه عبر الشبكات التواصل الاجتماعي خاصة فتح الحساب على موقع ليكند إن، والبحث عن فرص للتدرب وبرامج تكوين في معاهد مختلفة وشركات، هناك العديد من البدائل على الشباب ان يلتجأ إليها بدل من تضيعة وقته وأجمل أيام عمره في انتظار وظيفة الدولة التي ربما ستأتي بعد فوات الآوان، وربما لن تأتي أبدا, والله المعين.