في صغري كنت أزور غالبا شاطئ اسواني مع أصدقاء جمعني بهم نمو براعمنا وتفتحها في سنين يراعة طفولتنا. كنت أقطع راجلا مسافة أربعة كيلومترات أو أزيد مع أصدقائي كلما سنحت لنا الفرصة، وكان الجو مشمسا.. وكنا إذا ما اجتزنا غابة الصفصاف ووطئت أقدامنا الرمال الرمادية الزرقاء للشاطئ الأزرق عند بوابته الرئيسية آنذاك، وبعد مداعبة الموج والرمال، ننحرف شمالا، لنتابع في جولتنا المنحنيات والمدارات التي يرسمها تحت أخمص أقدامنا ماء الموج.. فيتشكل تدريجيا الخدر الذي كنا نرومه من جولتنا. نمر على الموج ونترك له بعضا من طعم أجسادنا الصغيرة وأثارا أخرى، يمحيها زبد الموج الأبيض في وقت قصير. كان الصفصاف العالي باسق جدا وكان يشهد على كل حركاتنا اللعوبة. حينما نصل الى “الطّايث” حيث يلتقي نهر غيس بالبحر، وتتحول الرمال الى أحجار ملساء وفي ألوان وأشكال عدة، نرمي أحداقنا في ماء الموج الصافي ونقتفي أثر الأسماك المتلذذة بتزاوجها وبما جره إليها النهر من نعم برية تلذ في البحر وتشكل الديليكاتسه بالنسبة له. نراقب رقصاتها على مسافة قصيرة وهي تنط من الماء في سباق بهي وغائر في الجمال. نتابع وقفة صَبُورة لصياد جعل من الانتظار شغله. ننعطف قليلا ونتوجه ناحية البر حيث تتشكل حسب تيارات البحر بحيرات وتختفي، قرب بحيرة الغيس المستقرة التي تعتبر المنجع الذي تأمه أنواع كثيرة من الطيور المحلية المهاجرة من نوارس وإوز وبط ولقالق، وطيور أخرى لا نعرف أسماءها لغرابتها عن المكان. نستلذ النظر بها ونعود الى الشاطئ لنواصل طريقنا على أحجاره التي يصغر حجمها وتتحول بعد مسافة، الى كثبان رملية وهي تغير تدريجيا لونها من الرمادي الأزرق الى الأصفر الذهبي. نمر بمحاذاة نادي البحر الأبيض المتوسط (Club Med) في المزمة، ونتمعن في الجزيرة التي تظهر أقرب إلينا من أي نقطة أو مكان آخر، ثم نواصل المسير الى شاطئ اصفيحة ومن هناك نعود أدراجنا في جولة الإياب. مثل هذه الجولة وهذا المسار الذي كنا نسلكه ويسلكه الكثيرون، سيضحى مسلكه من المستحيلات في ظرف عشر سنوات من هنا فصاعدا أو أقل. في القادم من هذه السنوات سيسرح ماء البحر ليتوغل في السهل الى حدود الطريق الساحلي ويغمر بهذا بحيرة الغيس كلها ليأتي على كل الحياة والثقافات، لكل الكائنات التي تعيش هنا منذ القدم. إن تمديد مجال البحر وتركه يتوغل في السهل أمر ليس غريبا. فإذا كان المستعمر الإسباني سنوات الثلاثينات من القرن الماضي اقتنع بأن ملوحة البحر التي تتسرب إلى السهل عبر مجاري جوفية وتفتك بخصوبة السهل مسببة في تصحر تربته، أمر غير مقبول، ولهذا السبب تم غرس غابة الصفصاف لتشكل درعا واقيا للسهل من الملوحة وتحد من ظاهرة التصحر الطبيعية هذه، فإن الحاكم الجديد على المنطقة مقتنع أيضا بأن السهل الذي يشكل مصدر رزق للسكان المحليين ويشكل إغناء للطوبوغرافيا الريفية، يجب أن يندثر تدريجيا ويفسح مكانه في المستقبل لشركات الهولدينغ الملكي المختصة في البناء والمعمار وكذا لسماسرة العقار. سيكون تعريض السهل الخصب بتعمد للتصحر تشجيعا معنويا في نفس الوقت، لسوق الإقطاعي الكبير من “الداخل”. إن تمديد المجال البحري على حساب المجال الزراعي له علاقة أيضا بالمشاريع التي تنجز حاليا في سرية كبيرة وابتدأت باقتلاع غابة اصفيحة/السواني، حيث سيساهم هذا التوغل للبحر في تشكيل شبه جزيرة من اصفيحة وستسهل هذه المياه آنذاك، هذه المياه الأقرب الى الراكدة، في إنشاء مرافئ خاصة، تقام في الحدائق الخلفية للوافدين الجدد وتربط بينها وبين ميناء الحسيمة الترفيهي. إضافة إلى أنه – أي جعل البحر يتوغل في السهل، سيشكل مانعا أو جدارا طبيعيا يستحيل معه اقتراب السكان المحليين من الفضاءات التي ستقام عليها هذه المشاريع على حساب الغابة، وكذا رمزية التاريخ المقاوم والإرث التاريخي لمدينة المزمة. زيادة على هذا فوضع البحر كسد في وجه الساكنة المحلية من الجهة الشرقية، سيجعل من اصفيحة “محمية” مخزنية مع حراسة مشددة وسيسهل أمر تفويت أجزاء من شاطئ اصفيحة في الجانب الآخر إلى ملكية خاصة لأصحاب الفيلات والمناجع السياحية الأخرى من ملاهي وكازينوهات ومواخير. ستغير هذه المشاريع أيضا الوجه الأخلاقي والقيمي في خريطة المنطقة. وسيكون الطريق أو المسلك الطبيعي الذي كان يوصلني في صغري إلى ذروة المتعة عبر الالتحام بالطبيعة على طول هذا الشريط الزاخر بالجمال والصفصاف والتاريخ في خبر: كان. محمد السقفاتي