قبل عشر سنوات، ضرب زلزال عنيف مدينة الحسيمة، فتبادر إلى الأذهان، حينها، أن آثاره ستصيب الاستثمار في العقار والمضاربة فيه، بحيث سيكون ذلك ضمن أحاديث الماضي، لكن العكس هو ما وقع، حيث انطلق السباق المحموم ل«تعمير»المدينة، لكن كيفما اتفق، بشرط أن يب ذلك في صالح مجموعة من المنتخبين المحليين و«مافيا» العقار. «قبل زلزال الحسيمة لم يكن هذا الإقبال الكبير على العقار بالحسيمة، بالرغم من أنها على الدوام عرفت بكونها منطقة ساخنة عقاريا، إلا أنها لم تكن هكذا». بهذه العبارات يصف أحد المنتخبين الوضع العقاري بالمدينة، لكن منذ عشر سنوات بدأت المدينة تعرف تحولات عمرانية مهمة، بدأ البناء يتنامى بشكل كبير عكس المتوقع؛ «الناس كانوا يتوقّعون أن تنزل أسهم الحسيمة في سوق العقار، والعديد من المقاولين تنبأوا للمدينة بكساد في البنيان، وربطوا ذلك الأمر بالزلزال الذي ضربها في 2004، قبل أن يكتشفوا واقعا آخر، فانطلق الجميع في سباق نحو نيل مسكن، لا يهم أين ووفق أي شروط؟ المهم أن يتمكن الناس من بناء مسكن يأويهم».
«ميرادور» مدينة في الوادي «ميرادور» من الأحياء الفوضوية القديمة بالمدينة، عرف موجات من البناء الفوضوي، وغالبا ما كان يشهد ذروة البناء إبان الاستحقاقات الانتخابية، حتى أضحى اليوم أكبر حي عشوائي بالحسيمة، «يجب التأكيد بأن توسع هذا الحي كان بسبب دعم بعض المنتخبين الذين يلهثون وراء الأصوات الانتخابية، وأيضا تغاضي السلطات المحلية عمّا يجري بهذا الحي»، يقول فاعل جمعوي ينتمي إلى الحي نفسه، قبل أن يضيف: «الأمر لا يتوقف عند مخالفة مقتضيات التعمير على مستوى البناء، بل الخطير في الأمر هو السماح لمواطنين بالبناء في الوادي، حيث أصبحت عشرات العائلات مهددة بخطر انجراف التربة والفيضانات». مصدر مطلع، وهو خبير تقني في مجال البناء، يؤكد أن الخطر الكامن في البناء العشوائي خاصة بحي «ميرادور» لا يكمن بكون الحي يخالف الضوابط القانونية، بل الخطر يكمن في كون سماسرة البناء العشوائي على وشك ارتكاب مجزرة في حق المواطنين، بعد تمكينهم من البناء في مناطق هشة، كما هو الشأن ل «وادي ميرادور» الذي يصب في شاطئ «صبادية»، «نحن نعرف التحولات المناخية التي بتنا نعيش نتائجها باستمرار، وهذه التحولات لا يمكن التنبؤ بالمفاجآت التي يمكن أن تخبئها في القادم من الأيام، يمكن أن يتسبب تساقط الأمطار التي تتهاطل على المدينة في كارثة إنسانية تضاهي كارثة الزلزال»، يقول نفس المصدر. الساكنة هنا تدرك حجم الأخطار التي تحدق بها نتيجة هذه الوضعية، لكن تصريحات العديد منهم تؤكد على أنهم يضطرون في الغالب إلى التعايش مع هذا الوضع. «نحن لم نختر العيش في هذا الحي، لا أحد يرمي بنفسه إلى التهلكة، لكن أنتم تعرفون ثمن العقار في أحياء المدينة، الناس هنا بالكاد يوفّرون قوت يومهم، فبالأحرى يقتنون عقارا بمليون أو مليوني سنتيم للمتر»، يقول الحاج امحمد، وهو بحار سابق اختار بناء مسكنه بهذا الحي، بعدما سدت في وجهه جميع محاولات الحصول على قطعة أرضية في مكان آخر بالمدينة
«حلال عليهم حرام علينا» خلال السنوات الثلاث الماضية حاولت السلطات المحلية «إعادة الهيبة للدولة»، وفرض تطبيق القانون، فقامت بهدم مجموعة من البنايات المخالفة لضوابط التعمير، ولكن هذه العمليات وصفت بالانتقائية»، وبعضها بقي راسخا في أذهان الناس، كعملية هدم 3 منازل كائنة على مشارف «تجزئة باديس» ب «روضة أزغار» التي هدمت بدعوى أنها في وضعية غير هشة، ولا تحمل الرخص القانونية. «هذه المنازل هدمت لأنها في ملكية مواطنين بسطاء، في الوقت الذي تم التغاضي عن منازل أخرى يعرفها الخاص والعام»، يقول تقرير لفرع الهيئة الوطنية لحماية المال العام بالحسيمة. الهيئة ومن خلال التقرير الذي رصدت فيه مؤخرا مجموعة من الخروقات التي يعرفها مجال التعمير أكدت أنه في مقابل تطبيق القانون على بعض العائلات المعوزة، «هناك مناطق بالمدار الحضري شهدت بناء عدة مساكن عبر فترات، دون أن تتحرك الجهات المعنية لردع المخالفين، كالترخيص لبناء أحد المساكن فوق قنوات صرف مياه الأمطار بشارع وهران، تحمل رخصة أحادية عدد 337 سنة 2007. البناية عبارة عن كارثة بيئية، وقد كانت موضوع عدة تقارير بقيت حبرا على ورق».
غابة عقارية مصدر من المكتب المسير لبلدية الحسيمة رفض الكشف عن هويته، أكد بأن الحسيمة تحولت فعلا إلى غابة «عقارية»، وأصبح من الصعب جدا ضبط مخالفات التعمير وإنجاز محاضر بشأن ذلك. عندما تنتقل المصالح المعنية لإنجاز مخالفة ما، تواجه من قبل المخالف بنماذج وأمثلة قد لا تكون بعيدة عن منزله، يتساءل: لماذا لم تحرر لها مخالفات التعمير؟ «ببساطة وبكل وضوح، الحسيمة أصبحت نموذجا لمخالفة قانون التعمير، وإذا أرادت المصالح المعنية إعمال القانون فإن نصف منازل الحسيمة أو أكثر من ذلك سيكون مصيرها الهدم». المخالفات التي يتحدّث عنها نفس المصدر قدم عنها نجيم عبدوني، رئيس فرع الهيئة الوطنية لحماية المال العام، نماذج واقعية في التقرير الذي أعده عن التعمير منها: «تشييد بناية من 3 طوابق بتجزئة المسناوي، في الوقت الذي لا يسمح فيه القانون إلا ببناء طابقين، وإضافة أشياء غير موجودة بالتصاميم الهندسية؛ ما يسمى ب (السدة) فوق بنايات توجد بنفس التجزئة». وهذا -وفق المصدر ذاته- «تحايل على القانون والإفلات من أداء واجبات الرسوم»، إضافة إلى تشييد 3 بنايات بتجزئة حديثة ذات الترخيص عدد 12/417 و12/418 بتاريخ 18/06/2012 من ثلاثة طوابق، في حين أن دفتر التحملات الخاص بالتجزئة يفرض تشييد منازل من طابقين، حتى بدت هذه التجزئة بسبب هذه المخالفات «معزولة» عن محيطها العمراني، «وكأنها غير خاضعة لدفتر التحملات الذي يلزم مقتني البقع الأرضية بالبناء وفق الشروط المنصوص عليها بدفتر التحملات». ورغم أن البنايات الثلاث بالذات قد أثارت الكثير من الجدل مؤخرا بمدينة الحسيمة، واضطرت السلطات العمومية إلى التدخل لتحرير مخالفات التعمير، واستصدار قرارات بالهدم وإرجاع الحالة إلى ما كانت عليه، إلا أن تلك البنايات لازالت قائمة بالشروط التي فرضها أصحابها، وليس بالشروط التي يفرضها دفتر التحملات. تجزئة «المرسى» لم تكن هي الأخرى في معزل عن التجاوزات العمرانية، فمجموعة من البنايات تجاوزت العدد المسموح به من الطوابق، لكن فضيحة «الاختلالات العمرانية» على رأي المتتبعين لهذا الملف، تكمن في تشييد بناية «فندقية» بدون الحصول على موافقة الجهات المعنية، وبالرغم من أن وزارة النقل والتجهيز المسؤولة عن الملك البحري وضعت شكاية بالخصوص لدى المحكمة المختصة، إلا أن الفندق المذكور مازال يتابع نشاطه اليومي في استقبال الزبائن، وحصل على رخصة صلاحية السكنى بالرغم من النزاع المذكور.
إعادة الهيكلة تلك الكارثة! مع التوجه العام للدولة بالقضاء على المباني العشوائية والشروع في إنجاز تصاميم إعادة الهيكلة للأحياء التي سميت بالأحياء «الناقصة التجهيز»، انطلق المسلسل بمجموعة من أحياء الحسيمة، خاصة بأحياء (أفازار، مرموشة، كالابونيطا)، غير أن عملية إعادة الهيكلة كشفت عن وجود اختلالات كبيرة، بل وعمقت من الإشكالية العقارية. «تصاميم التهيئة لم تخضع لما ينص عليه القانون، خاصة المواد من 32 إلى 34 من قانون التعمير»، يقول مصدر مطلع ببلدية الحسيمة، قبل أن يضيف: «العمليات التي تجري الآن تتم بدون مساطر، خاصة ما يتعلق بأملاك المواطنين، التي تتعرض لانتهاك واضح دون اللجوء إلى مسطرة التراضي أو نزع الملكية»، يؤكد نفس المصدر، قبل أن يضيف أيضا: «الخطير في الأمر أن عمليات تفويت بعض الطرقات في بعض العقارات التابعة لأشخاص معينين تمت بطريقة غير مفهومة، وتم تعويض هؤلاء في ظرف قياسي، في حين أن هناك من يلاحق بلدية الحسيمة للحصول على تعويضه منذ سنوات، ولم ينله إلى اليوم».
شواهد التخلي عن المتابعة هي نفسها الشواهد التي تسببت في إدانة العديد من المنتخبين بجماعة وجدة، حينما أصدروا مجموعة منها لفائدة مواطنين متورطين في مخالفات التعمير دون سند قانوني، بينما بمدينة الحسيمة تحولت هذه الشواهد إلى «امتياز»، يمكن الحصول عليه حتى خارج الضوابط القانونية التي تنظم عملية إصدار شواهد التخلي عن المتابعة. ووفق شهادات بعض المستفيدين من هذه الشواهد المنظمة بموجب المادة 67 من قانون التعمير، فإن غالبيتهم حصلوا على تلك الشواهد خارج الآجال المحدد في المادة المشار إليها. عند ضبط المخالفة من طرف رئيس المجلس يقوم بإخبار المخالف -ما لم تكن مخالفته خطيرة- بضرورة تسوية وضعيته على أن تتم هذه التسوية في أجل لا يقل عن 15 يوما من تاريخ إبلاغه، وألا تتجاوز 30 يوما. وبعد التسوية يحصل على شهادة التخلي عن المتابعة، لكن تلك الشواهد كشفت حصول بعض المخالفين عنها خارج الآجال المحددة. «بل هناك حالات حصلت على هذه الشواهد بعد مرور سنوات من رصد الاختلالات»، يقول نفس المصدر، قبل أن يضيف: «الخطير في الأمر أن هناك مجموعة من الحالات التي ضبطت في مناطق غير مفتوحة البناء، لكنها حصلت بعد ذلك على شواهد التخلي عن المتابعة».
«حاميها حراميها»! يتداول الرأي العام اليوم بمدينة الحسيمة فضائح عقارية ل 4 منتخبين: الأولى، تتعلق ببناء شيده أحدهم بمنطقة «بوجيبار» لا يطابق قانون التعمير، حيث تجاوز الحد المسموح به، وشرع في إضافة طابق دون التوفر على الترخيص في منطقة تعاني أصلا من انجراف التربة، وغير بعيد عنه توجد تجزئة منتخب آخر في الشطر الثاني من تصميم التهيئة للحي، جرى تغييره في آخر لحظة، أي في مراحل المصادقة من قبل السلطات، ليتم تغيير مسار الطريق التي ستخترق قطعة أرضية يمتلكها، وهو ما يعني تجزيء قطعة المنتخب دون عناء، كما هو الشأن لأحد زملائه الذي تم تغيير مسار الطريق لتقسيم عقاره إلى قسمين؛ حتى يشرع في تفصيلها إلى بقع دون أن ينطبق عليه قانون التجزئات العقارية، وهي الطريق التي بدل أن تأخذ شكلا مستقيما، «أخذت شكلا حلزونيا غير مفهوم»، وفق أحد أفراد الساكنة؛ أما الفضيحة التي لازالت تؤرق الوالي، جلول صمصم، الذي عين حديثا على رأس ولاية جهة الحسيمةتازة تاونات، فهي فضيحة أحد المنتخبين الذي قام بتشييد عمارة من 3 طوابق، في الوقت الذي يفرض دفتر التحملات تشييد منازل من طابقين، وبالرغم من قرار الهدم الذي أصدره الوالي إلا أن الوضع لم يتغير. هذه الفضائح أكد مصدر من ولاية الجهة أنها سبب في بعث وزارة الداخلية بلجنة مركزية للتحقيق والتقصي في الوضع العقاري الذي شوه من النسيج العمراني ل»جوهرة البحر الأبيض المتوسط».
البلدية.. الرواية الأخرى مصدر من المكتب المسير لمجلس الحسيمة رفض الكشف عن هويته، أكد بأن الوضع الذي وصلت إليه الحسيمة اليوم هو وضع ناجم عن تسيب لسنوات مضت، وبروز المشكل بهذه الحدة التي يوجد عليه الآن نظرا لأن النسيج العمراني لم يعد يحتمل المزيد من الخروقات والتشوهات. في السياق ذاته، أكدت نزيهة البشريوي المسؤولة بقسم التعمير ببلدية الحسيمة أنه منذ سنة ونصف على الأقل لم تمنح البلدية شواهد التخلي عن المتابعة، مقرة بأن القسم عاش حالة من الفوضى في الفترة السابقة، وأقرت البشريوي بوجود خلال كبير في النسيج العمراني للمدينة، مشيرة إلى أن المصلحة سجلت المئات من مخالفات التعمير بمختلف أنواعها؛ سواء عدم احترام عدد الطوابق المرخص بها أو البناء في مناطق محرمة البناء، أو حتى البناء بدون ترخيص، وأقرت البشريوي بوجود منتخبين ضبطوا في مخالفات للتعمير. وأكدت المتحدثة نفسها، في تصريح ل»أخبار اليوم» أن هناك المئات من المنازل التي شيدت بطرق غير قانونية تجري الآن عملية التفكير في إيجاد حل لها وإن كان بصيغة مؤقتة، وأن الحل المطروح في الوقت الراهن هو منحها شواهد إدارية مؤقتة وليس رخص صلاحية السكنى، ليتمكن أصحابها فقط من ربطها بالكهرباء والماء الصالح للشرب، غير أن هذا الوضع، وفق المسؤولة ذاتها، يجب أن يتوقف وأن يتم الحزم في تطبيق القانون، وعبرت عن دعمها لتنفيذ القرارات الصادرة بالهدم من أجل وقف النزيف، مشيرة في نفس الوقت إلى أن السلطة والمجلس مسؤولان على نفاذ القانون وبالتالي يجب الحرص على تطبيقه. عبد المجيد امياي / اخبار اليوم