1 –توهم تمثل الواقع في تخيلات الأد ب الخادعة: إن الإبداع الأدبي رزمة من التعابير الكلامية يصبها الكاتب في قالب كتابي فني جميل،مما يعني أنه مجموعة أصوات صامتة ممزوجة بخيالات محلقة وتصورات توهمية فهي في منزلة بين المنزلتين.فلاهي بتقرير خبري ينضح بتفاصيل حدث تاريخي آني ولا هي بتحليل علمي يتضمنه بحث اكاديمي .أي أنها استراحة وجدانية للمحارب المعرفي،بينما الواقع،فهو مجموعة خبرات معاشة يتمخض أصحابها وسط ضجيج التجارب المحسوسة وعلى أرضية متحركة متغيرة لا تكتفي بالمداد والورق والظواهر الصوتية للسرد فقط.و إذا قلنا بأن الأدب الواقعي يعكس الواقع، هذا الواقع المتشكل على الصعيد اللغوي.فإن الخطاب بصفة عامة ينطق بمفاهيم عبر منظومة من العلامات تشير إلى معاني محددة من خلال العلاقات التفاعلية فيما بينها كوحدات صوتية لسنية عوضا عن كونها كيانات ملموسة في العالم.و إذا كان التعبير الأدبي حاملا لشحنات المعنى وممارسة كتابية هادفة فإنها تعكس النظام القولي الذي تتضمنه بعض الخطابات و ليس بالضرورة الذي تتضمنه طبيعة العالم نفسه.إن اللغة عبر أي خطاب تحقق وهم الشفافية والوضوح إلى الحد الذي تخدع فيه الناس بأنها بصدد تشكيل خبراتهم وصياغة لحظات حياتهم في عالم ليس بالواقع وإنما مجرد وهم الواقع.أو بالأحرى قل إن الأدب بنصوصه المحاذية للحس الواقعي إنما يقوم بفعل المحاكاة أو التمثل عبر الإقتراب أكثر بموضوع الوصف المعاش في شكل استنساخ تقريبا مطابق.نعلم جيدا أن كلمة- أسد- لا تعض و لا تزأر في واقع اللغة المنطوقة أو المقروءة لأنها مجرد ظاهرة صوتية داخل مملكة اللغة.لكننا مع الصورة المتحركة للأسد نحصل على الأقل على صوت الزئير لكنه مع ذلك ليست لديه القدرة على افتراسنا لأنه في موقع سلبي بحيث أن عدسة التصوير هي التي تتحكم في نوعية وجوده الوهمي. يقال بأن الكاميرا لا تكذب و لا تخدع البصر لأنها تنقل الواقع خاما. هذا في مامضى وبالمقاربة الكلاسيكية قيلت هذه الفكرة،لكن في وقتنا الراهن أي في عصر الكاميرا الثلاثية الأبعاد وتقنيات التصوير الرقمي الحديث كالفوطوشوب، أصبح كل شيء ممكنا وسهل التناول بفضل التأثيرات الصوتية والمرئية المتاحة والخارقة:{مثال:الرئيس أوباما يقذف باب القاعة العامة بركلة عنيفة وعامية جدا بعد انتهائه من خطاب متلفز} ومغزى الفيديو فيما يريد إيصاله كرسالة هو أن الإنسان يبقى إنسانا في العمق مهما بلغ مستواه الإجتماعي المغلف ببروتوكولات التربية المزيفة. لأن النزعة الهمجية العنيفة ليست متأصلة فيه و إنما تنتابه لحظات انفعال حيواني في بعض اللحظات وما وهم المطلقية في شكليات التعامل الحضاري أحيانا ومن وجهة مزيفة، سوى قشور نفاقية,وهنا تكمن بلاغة الصورة في أنها نجحت في العزف على وتر السخرية الانتقامية في فضح الإدعاء النفاقي في إطار الصراع الطبقي مثلا. إن الصورة التشكيلية ليست هي الصورة الفوتوغرافية. و إن الكلمة ليست هي الشيء ذاته.و الخريطة الكرطونية ليست هي المنطقة الأرضية بترابها.تغيب الكاميرا أحيانا عن حدث فجائي مهم،فيضطر طاقم البرنامج الوثائقي إلى إعادة تمثيل مشاهد الحدث بشكل واقعي درامي من منطلق أن العين أدق أنباءا من الأذن.هناك أحداث تلتقطها العدسة صدفة و بالكاد تصدقها عيوننا لأنها من المستحيلات ليس من جهة خطورة عواقب الحدث على بطله فقط و إنما من جهة آلة التصوير و مغامرة المصور والطريقة المعجزة التي تم بواسطتها التصوير.ومع كل هذه التخمة في الواقعية، فإن الصورة الخارقة الملتقطة كانها معجزة تظل حبيسة تلك الرؤية الذاتية للشخص المصور الذي يريد-عن وعي أو عن لا وعي- تبليغ تصور معين لإقناع الآخر برأي محدد. إن فقرة واحدة تلخص نصا بأكمله.ومقال يقوم مقام كتاب بأكمله. ونكتة في سطر واحد تفجر كمية من الضحك تتساوى مع ما سنضحكه طوال ثلاث ساعات من الفرجة على كوميديا معينة. وساعتان من سيرة ذاتية لشخصية معينة على فيلم مصور سيجنبنا معاناة قضاء حياتنا بأكملها نتتبع خلالها تفاصيل حياة هذا الشخص كل ثانية ودقيقة. إننا في الوهم الذي نتخيل فيه ملخص حياة هذا الشخص نخلق قناعة اضطرارية بأننا إزاء الواقع ذاته داخل العمل الفني لأجل إرضاء حاجة نفسية جمالية وتلبية لرغبة وجدانية روحية نطل من خلالها على قواسم مشتركة وتقاطعات بين حياته وحياتنا لأجل القيام بعملية المقارنة والغربلة ثم تفعيل الدروس المستفادة في عمق حياتنا.إن الأدب مثلما أنه يزين الواقع الدميم، مثلما أنه يختزل مسافات الزمن والجغرافيا في رمشة عين كأنه بساط الريح السندبادي وذلك كي لا نسقط في خطأ تضييع الوقت سدى.توجد هناك دائما حدود فاصلة بين الموضوع الذي يتم تمثله والتمثل الذي يتقمص صورة الموضوع.وهنا تقفز إلى ذهننا فكرة بأن عدسة التصوير كاللغة، في الواقع لا تكذب فقط و إنما تخدعنا بوعد إسمه ضمان معنى الشيء حينما يمثل شيئا لينوب عن تمثيل عدة أبعاد لعدة أشياء.هذا المعنى الذي يراهن عليه الكثير لتوضيح الغموض، يقوم مقام الشجرة التي تخفي الغابة،فنسقط في فخ الخداع حينما نتجاوز الشجرة التي خدعتنا فتتراءى لنا هكتارات من الأشجار الأخرى و أحراش الأدغال المخبوءة، وهي في انتظارنا تتحدانا لنتجاوزها قصد الوصول إلى بيت القصيد وكوخ المعنى، بعد اقتحام متاهة التعقيدات المتداخلة لأغصان الذات المدركة والراغبة في التعبير بعد استيعاب حجم الموضوع.حينما ننطق بكلمة أو نستعمل لفظا معينا إنما نريد به ما نريد الإشارة إليه لا أقل ولا أكثر حسب رأي ليويس كارول في حكايتها العجائبيةhumpty dumpty} و لا نعني بها الشيء ذاته أو ذات الشيء. لأنه قد يكون هناك من هو على استعداد دائم لتأويل ما نريد قوله ليشير إلى شيء آخر لم يكن في حسبان التوقع قط.هناك من مفكري ما بعد الحداثة من يرفض سكون السياق ورضوخه لمعنى واحد جامد ودلالة مطلقة لشيء معين أو لفظ محدد ،أو خضوع النص الواحد لكابوس قراءة وحيدة مثل خطورة الحزب الوحيد في الحقل السياسي، بحيث أن معاني العلامات اللسنية في شكل مفردات لا تتبلور إلا في صيغة الجمع أي انطلاقا من تفاعلها مع أضدادها.لهذا لا يوجد أي معنى خارج سياق النص،أي ان اللفظ ينتزع شرعية المعنى داخل العلاقات المتفاعلة في البنية النصية،ولا يمكن للمعنى أن يتجاوز جدران اللغة و يندمج في الواقع الخام الذي يصعب الولوج إليه كما هو خام من خلال نص أدبي متخيل.كما أن مذاق الواقع مر لا يحتمل و صعب المراس بحيث يرفض من أي دال متمطط أن يسيطر على جزء من المعنى الذي يدور في فلكه،دونما اللعب بحرية في سلسلة المعاني المتاحة في إطار تعدديتها المتنوعة.إن عدم مصداقية وجود المعنى المطلق لا يعني نكران أي واقع خارجي بحيث أن حدثا اجتماعيا مدرجا في الإعلام الإخباري يبقى مجرد قصة و توليفة كلامية مصاغة حسب الطلب. يبقى الأدب كإبداع تعقيد عالي المستوى للكلام اليومي البسيط و توغل مقصود في متاهة المعاني المتراكمة بعضها فوق بعض حيث التصنع هو الفعل الطلائعي الذي يقود قافلة الصور البلاغية والمحسنات البديعية والتزويق اللفظي لإحداث وهم المعنى على حساب تقزيم الدور الفعلي للواقع في تشكيل لحمته من خلال إنتاج الأفعال عوض الإكتفاء بإنتاج الأقوال في قالب ساحر.و بما أن التمثلات لا تستطيع ان تكون نسخا مطابقة لما تمثله في الواقع،كذلك لا تستطيع المسلسلات و الأفلام أن تكون نسخا مطابقة لأحداث الناس في الواقع وبنفس الوتيرة والدرجة.إيقاع القدر التلقائي وعنصر المفاجأة العفوية هما المتحكمان في مجمل مسار الواقع بينما الشريط المصور،فإننا نجد المبالغة في التصنع أمر مقصود بما يتخلله من عناصر كالفبركة والتقطيع والتعديل والحذف والتركيب مع إعادة صياغة خطة المخرج في السيناريوهات الممكن توظيفها في الابداع الفني.إن أحداث الواقع تنبثق عن القدر الذي يسميه البعض صدفةاعتباطية. إذن فالتمثل لا يكون محايدا وشفافا بقدرما انه يشكل الواقع الرمزي في الوقت الذي من الممكن ان تساهم فيه شفافية هذا الواقع في إضفاء نوع من الضبابية والغموض على الواقع.وهذا الحياد المصطنع في شريط مصور أو رواية مكتوبة قد يخبئ ألغاما إيديولوجية هي في الحقيقة رسائل مشفرة حبلى بروح المعنى الذي نهل من وعاء ثقافي معين ويستهدف طبقة متلقية معينة لهدف محدد قابع في نوايا المخرج أو الكاتب. إن دراسة العلامات الإشارية أو علم السيميائيات إنما يساعدنا على شحذ العقل النقدي و عدم وضع الثقة الكاملة في المادة كونها تمارس علينا خداعا بصريا بعلاماتها ورموزها وتحاول إقناعنا بأنها الحقيقة،مع عدم أخذ وحي التمثلات الرمزية لهذا الواقع المادي بعين الإيمان كأنها انعكاسات للواقع والحقيقة لأنها حاملة لجراثيم الأغاليط التي تغسل الدماغ لتحرف مساره الفطري.لهذا فإننا كمشاهدين لمواضيع مصورة تحاكي الواقع وتقلده و كقراء لنص أدبي نمتلك عقلا فاحصا لا بد و أن نقف وقفة الحق على أننا أمام عمل متخيل ولا داعي للإنفعال الساذج والتماهي الصبياني مع مجرد أوهام,لأن الشريط/ النص لا يمثل الواقع في ذاته بالمفهوم البنيوي، و إنما هو إطار علائقي تتصادم فيه الصور/المفردات بأضدادها في شكل منطقي معظم الأوقات/عبثي أحيانا يفضي إلى سياق اجتماعي /ثقافي سواء أكان ذلك اعتباطا عفويا أو عن سبق إصرارو تخطيط . إن تداخل النصوص القبلية فيما بينها أو ما يسمى بالتناص يتم في إطار ناموس التلاقح الذهني والحضاري بفضل تقنيات من قبيل نقل وتحويل المقامات التعبيرية،وتقنية استبدال علامات بأخرى محافظة بذلك على نفس المواقع داخل البنية. إن كاتبا يمتلك سمعة مدوية في عالم الشهرة من خلال إنتاج أدبي متميز سيعتبر تحفة إنسانية لدى المثقفين ولن يتسنى للأميين قراءته،بينما ستعتبره حفنة من الأميين مجرد هذر وثرثرة فارغة.وهنا سيتحرك طاقم الإشاعات بآلياته التنميقية ومرجعيته التضليلية لتلطيف الأجواء داخل أدمغة وقلوب الأميين عبر دعاية مقصودة تريد تغيير مسار المعنى السلبي للموقف السلبي نحو ماهو أكثر إيجابية لنصرة الكاتب. إن إمكانية تبادل مواقع الألفاظ عموديا و أفقيا يولد لنا احتمالات سيمانتيكية لا تنتهي من التوليفات اللفظية اللامحدودة. لهذا قد تجد فكرة واحدة تدور حول فلكها ملايين المؤلفات والكتب. نفس الأفكار تدور في سياقات مختلفة.و اليبب يعود لاختلاف الخيارات والمعايير المحددة لبناء نص في شكل معين يصوغ المعنى المفضل للنص. إن المعنى هو البطل المطلوب في كل المهمات الصعبة.قد نطل عن كثب على شخابيط رضيع فنجد ما يشبه النص في الظاهر لكننا سرعان ما نفقد المعنى لأنه خارج التغطية الإدراكية مادامت الكتابة فيه قد خرجت عن المألوف. يقوم عشاق المغامرة بما يجعل حياتهم خارج إطار الملل لإضفاء المعنى على استمرارية وجودهم. قد تأتي لحظة اضطرارية على العابد فيصلي لأجل الناس سمعة ورياءا لمصلحة سرية في نفسه أخفاها. الشيء الذي يدفع بعنصر الخشوع المستنزل للطمأنينة والسكينة المفضيتان إلى الإخلاص للمعبود الواحد جل وعلا.حينذاك سيكون حضور الشكل العباداتي في هكذا صلاة مقامة أكثر تقلصا نظرا لغياب عنصر المعنى الهادف من وراء هذه الصلاة الناقصة المادية اللامقبولة.قد نتزوج و نبدو في الصور مبتسمين مبتهجين،لكننا في الباطن يبقى ذلك الزواج شكليا تافها أجوفا مدفوعا إلى التبلور لغرض مصلحي مادي،أو رضوخا لبروتوكول اجتماعي أو لأجل تحالف انتخابي أو طبقي.المهم ان عنصر المعنى يغادر مكانه بين الزوجين داخل مؤسسة الزواج إذا لم يكن هناك تواصل روحي بينهما. 2 - هل يعكس الأدب معنى الواقع؟أم أنه يختزله في مجرد وحدات لفظية جوفاء؟ إن التجاعيد الدلالية لا تصيب سوى الكتابة الأدبية كونها ليست بحثا معرفيا أو أكاديميا صارما. و إن عدم التوازن هذا على أرضية الطابع الانطباعي للأدب وجدرانه ناهيك عن سقفه المتآكل بسبب رطوبة الوهم التخييلي المبالغ فيه إنما هي في حاجة إلى سقالات لغوية سليمة تزود هذه الكتابة الابداعية بمقويات نحوية وتركيبية حتى لا تزيد أخطاءها طين السقف الأدبي بلة ويسقط على رأس المعجب بواقعيته، وحتى تستوي أرضية التجاعيد المواقفية كي يكون للمعنى تكريما متميزا يحترم الذوق السليم ويرسل قذائفه التأثيرية بكل أدب وروحانية. وخارج إطار الابداع تتامل وحدة لغوية/لفظا شاردا مهمشا مشرئبا للهروب نحو اللامعنى منزويا في ركن العبث أشعث أغبر كأنه خشب مسندة تتشكل في وجهه بقع ماكياج تحاول وضع قناع الإلتزام بالقضية إلا أن كواليسه تخبرنا عن تفاهته. ويبقى الأمر بصفة عامة كذبة بيضاء تحرك عاصفة الصمت في إطار كاريكاتوري و داخل فنجان مكسر مسبقا. لا تتسلط أضواء النقد على مضمونه لأن حقل الشكليات هو من يستحق الحصد في نظر عشاق الشكليات المادية،فيقبع المضمون طيفا روحيا مهمشا على غصن الإنتظار ريثما تتم تصفية تجاعيده اللفظية بواسطة سقالة الإصطلاح المناسب لتجنب تشويه بهاء المعنى. قد ينفذ مخزون المداد وتستهلك كل الأوراق والأقراص المدمجة لكن الفكر والمعنى لن ينفذ أبدا نظرا لطابع المرونة الذي تتميزان به.إن المعنى هو الروح والروح من أمر الخالق سبحانه الذي لا تنفذ كلماته حتى لو كانت البحار مدادا وزيدت عليها بحار أخرى أكثر امتدادا,ومقابل الكلام الالاهي الممتد إلى ما لا نهاية،لا يوجد نص بشري في العالم يمكنه قول كل شيء،لأن الكلمة الأخيرة التي ستحسم اللغة تهدد بإعلان نفير نهاية العالم.و يوشك أن يغلق الباب على الكلام ليعم الصوت مملكة الصوت.هناك مراهنة دائمة على أن للحديث بقية مادامت شجونه لا تنتهي وبما ان اللغة بحر لا ساحل له.و بأن مصداقية التجربة الحية مستمرة المفعول مادامت الشفاه تتحرك للمصادقة عليها بالتنويه والتشجيع.و بأن الكارثة مهما عظمت خسائرها الملموسة يتقلص وقعها كلما كثرت التعازي وعبارات التعاطف والأسف الخالص. يبدو النص السلس تلقائيا في سيولته اللغوية وطبيعيا في تماسك وحداته التعبيرية والفكرية ومنتهى الروعة في الانسجام بين ألفاظه ومعانيه.لكن سلطة الكاتب تظل تعاني من قبضة سلطتها على القلم الذي يحاول الهرب لتكسير الإيقاع العام للتشويش على النص المعجزة، بحيث أن الكاتب يعض بنواجذه على خيوط المهرة حتى لا يهرب منه الوعي والتركيز في تبليغ المعنى المراد تبليغه في شكل رسالة مضمونها يتناول قضية إنسانية في حاجة إلى الإدلاء بدلوه فيها. بعيدا عن مزايدات الخيال، لا توجد أحداث داخل نص سردي/حكائي، و إنما هي مجرد ذكاء في التلاعب بالكلمات والألفاظ لتتصادم مع بعضها البعض في علاقات بنيوية أفقية/عمودية خاضعة لمستوى معين من الترميز والتخطيط القبلي لإتقان عملية المحاكاة والعمل على تماسك عناصرها من البداية حتى النهاية. إن الدافع الأساسي لدى الإنسان لصناعة المعنى هو قدرته على تحويل تجربة حياتية إلى بنية لغوية-سردية تحكي قصصا. وكلما كانت عبارات هذه الحكايات من الرحم الثقافي الذي ترعرعت فيه،كلما كانت أكثر طبيعية في تصوير التجربة المعاشة. وما تماسك الموضوع في أفكاره ودلالاته سوى كونه يعود إلى ما وراء ملكوت اللغة الأولية الصامتة لعالم الخيال حيث الذات راقدة بشكل سلبي لأنها تتمتع بتحرك أكثر كلما أخذت تسبح في الإتجاه الموالي لنهر رموز اللغة المنطوقة, في كتابه(مضمون الشكل -1987 }،يرى وايت هايدن بأن الشكل السردي ليس مجرد شكل استطرادي ثرثار ومحايد،و إنما يستتبع معه خيارات وجودية معرفية مرفوقة ب إيديولوجية متميزة بل وحتى تضمينات سياسية. و بأن الحياة الحقيقية لا يمكن أن يتم تمثيلها بصدق اعتمادا على التماسك الشكلي على ما اصطلح عليه قصة مثيرة مصاغة صياغة أدبية جيدة. قام فلاديمير بروب في كتابه"مورفولوجيا الحكاية الشعبية" بتأويل مئات الحكايات العجائبية FAIRY TALES باسم ثلاثين وظائف استنبطها كقواسم مشتركة من سياق الدلالات النابعة عن أدوار الشخصيات في كل مرحلة من مراحل الزمن السردي. إذن هناك قواعد شكلية دائمة و قالب سردي محدد،كل كاتب يملك ناصية اللغة للتعبير الكتابي لا بد و ان تكون له رؤية إبداعية مختلفة عن الآخرين،ومع ذلك فإنه مجبر على إفراغ محتواها في هذا القالب المحدد سلفا،فتتغير الرؤية لفظا لكن المعنى وقيم القصة حتما ستصمد أما رياح التغيير.التكرار يحدث في الظاهر والثبات هو مصير العمق الجوهري.فالحكاية دائما تبدأ باعتداء على ضحية أو فقدان شيء مهم وتنتهي بمعاقبة المعتدي أو استرجاع الشيء المفقود.هذه المنهجية تخول لنا معرفة كيف يعمل النص؟ ليعني شيئا ما عوض ماذا يعني نص معين ما؟ وبخصوص الفاعلين الإنسانيين المتحركين في فلك الحكاية حسب رولان بارث، يجب أن نتعامل معهم كجواهر نفسية روحية, لأن المساهمين في صناعة أحداث الحكاية عند المحللين لا يؤخذون في عين الاعتبار من زاوية أسمائهم ووجودهم وهويتهم كشخصيات للقصة على غرار السؤال: من يكونون وما علاقتهم بالشخصيات الأخرى ونوعية علاقات القرابات العائلية والاجتماعية التي تربطهم ببعضهم البعض؟إنما على غرار السؤال التالي:كيف يتصرفون وماذا يفعلون؟ما يهمنا في العمق هو أفعالهم وسلوكاتهم و دورهم في تسيير دفة أحداث الحكاية. يرى ليفي شتروس في تراث الأساطير الإنسانية نقرات تنويعية على طبل عدد محدد من المواضيع والقيم البشرية الأساسية المنبنية على أساس تنافري بين الثقافة والطبيعة. إذ أن كل أسطورة قابلة لتقليصها إلى بنيتها الأصلية، بمعنى أن مجلدات متعددة من الحكايات الأسطورية قد نعمل على تقزيم حجمها من منطلق العدد المحدود للقيم العامة المعروفة والوظائف الأساسية التي تتناولها أسطورة ما والتي تضفي معنى ما على العالم السادر في ماديته وطابعه الالي الوحشي الذي تحكمه قوانين السوق المالي البشري و علاقته الصراعية مع اعتباطية الطبيعة والكيفية التي تمكن بواسطتها بنو آدم من ترسيخ وجودهم كمخلوقات متميزة عن باقي الكائنات الكونية.و إذا تأملنا أهمية مضمون الأسطورة سنلفي بأن المعنى لن تجده مجانا في منتوج أدبي/سردي فردي لكنك قد تجده في النماذج الأسطورية العفوية لثقافات قديمة تمثل المرحلة الطفولية للبشرية،اما و انها قد شبت عن طوق النضج فإنها في حاجة ملحة لهذه الجرعة الروحانية التي أصبحت عملة نادرة في عصرنا. تخيل معي أن النازيين والشيوعيين كانوا يحرقون المؤلفات الأدبية لأنهم يعلمون خطورتها وسحر تأثيرها من منطلق المعاني الروحية التي تنفثها القيم الوجدانية التي تبلغها. من أراد أن يلج من بوابة المعنى داخل الأسطورة حسب شتروس فعليه بالتماسك في تعامله مع مضمونها محترما بذلك السياق الثقافي البنيوي الذي ترعرعت فيه. وهذا المعنى المنبثق عن تلك الأسطورة قد يندثر ليتحول إلى اللامعنى والهذر إذا أنت خرجت عن نطاق البنية اللغوية/الثقافية لذات الأسطورة.في بعض الأحيان تتراءى للناقد المواضيع تتكرر لكن هذا التكرار يتخذ درجات معينة لتبليغ الرالة حسب المقام والسياق المطلوب. إذا أردنا أن نوصل فكرة منطوقة لإنسان شبه- أصم،علينا أن نضاعف مستوى صوتنا حد الضجيج ونعمل على تكرار التعبير بشتى الطرق كي تصل الرسالة في حلة المعنى الواضح,نفس الشيء سيحدث مع التعبير الأدبي.الفكرة هي هي في عدة روايات وقصائد، والقيم المرجو تبليغها تبقى هي هي. لكن الضجيج اللفظي تختلف نبرته والقوالب الشكلية أيضا تتغير وذلك حسب الذوق الخاص الذي يتميز به كل كاتب. أما روح المعنى الفكري فيظل مصرا على الثبات.إن كل مادي متغير قابل للإندثار وكل ثابت روحي يستمر في الصمود والبقاء. إن الفكر الكوني نفسه هو هو جزء من بنية العقل الإنساني العميقة حيث يرقد اللاشعور بألغازه و أسراره ،يعمل في صمت على تزويد الشعور بذلك الحس الإبداعي – التوليدي حتى لا يتوقف الوجود البشري عن تنفس المعنى برئة الأدب والفن. إن طريقة استعمال اللغة تعكس طبيعة عقولنا. إن استعمال ثنائية الأضداد كمثالbinary duals قد يزود الذهن البشري وهو بصدد ممارسة القدرة التصنيفية ببلاغة كتابة نص أدبي أو فهم الآليات التي يعمل تحتها النص. بحيث أن هذا الإستعمال قد يزوده بالطاقة الإستبدالية و كاننا نتحرك على رقعة الشطرنج نحرك البيدق لتحل مكانه بيادق أخرى ستؤثر على بنية اللعبة ككل. كمثال سننطق إيجابا :{........إن الله يدفعنا بروحانية ملأه النوراني نحو عالم السماء لنتقمص دور الملائكة فنصير ينبوع السلوك الخير لبناء و إصلاح المجتمع إلى أجل غير مسمى......}سنحاول ممارسة الاستبدال مستعملين ثنائية الأضداد فنقول بالبديل السلبي: {.......إن إبليس يستقطبنا بمادية زبانيته الظلاميين نحو حضيض العالم السفلي لنتلوث بنفايات الشياطين فننفث نار الشر إلى الأبد كي نحرق ونهدم ما تبقى في المجتمع من أطلال.....} إن الاستبدال alternation عبر النقر التنويعي على وتر التضاد الثنائي والتقابل يقلب مفاهيمنا رأسا على عقب حينما يرتفع مستوى المعنى أو ينخفض داخل بنية تعبيرية معينة. فيباغت تصورنا القبلي الذي ألفناه تصور جديد لم يكن في الحسبان قبلا. و إن تأويل المسكوت عنه والمحذوف من النص قد يأخذنا إلى بعد آخر من المعنى بعيد كل البعد عما ألفناه. فالواقع قد يصبح مجرد وهم وحلم ليصبح حضوره في مؤخرة الغياب، والغيب قد يكون هو المتمتع الوحيد بعناصر المصداقية الواقعية ونحن في غفلة عن ذلك، فيصبح غيابه دليلا دامغا على حضوره. ما زلنا على موجة الاستبدال باستعمال ثنائيات الأضداد التي استنبطها شتروس من الأساطير في بناها الدلالية.قد يصبح للصمت ضجيجا وللصوت سكوتا وهلم دواليك بحيث قد تكون الأفعال الصامته أعلى صوتا يدغدغ المسامع بمصداقية فعاليتها الإيجابية وبالمقابل ستجد أن الأسماء/ الأقوال تخرس ثرثرتها بعدما ملأت الجو العام بالضجيج العقيم فتصمت لقناعتها بسلبية موقفها في آخر المطاف. هكذا تتفاعل عناصر التوليفات اللفظية المتصارعة في ثنائيات تضادية تريد فرض ذاتها عبر الاستبدال حسب مقتضيات السياق المتطلب للمعنى. إن من يدعي الحياد البريء لدى العمل الأدبي فيزكي مصداقية إبداع ما كلعبة لسنية عند البعض أو كمغامرة لغوية عند الآخرين فيضفي عليها طابع الشرعية الواقعية القحة حد التماهي قلبا وقالبا مع أحداثها، إنما يحاول قدر المستطاع ابتلاع الانفجار لوحده كي يتبعثر باطنه باسم التضحية و يحاول من جهة أخرى رسم خطة قرائية لإخفاء الألغام الإيديولوجية القابعة في سحر الكلمات حيث الصدام بين اللفظ والمعنى قد وصل أوجه . و هو بهذه المحاولة إنما يحاول بكل وقاحة التهكم على العقلاء واستفزاز الأدمغة الذهبية التي تعرف الحدود بين الكذب والصدق. وتبقى محاولة اتهام شخص الأدب كخيال مصاغ في قالب لغوي بأنه واقعي أو أنه يعكس أحداث الواقع ،مجرد زوبعة سحر في فنجان اللغو. ولقد صاغ برتولد بريخت وقفة داخل المسرحيات لتذكر المتفرجين أنه لا داعي للإنفعال والاستغراق المتماهي مع ألمسار الدرامي للأحداث وهذه الوقفة تنصح المتفرجين بالاستيقاظ من الغفلة والانتباه إلى أنهم أمام صناعة مقصودة تحاول اللعب على أوتار مشاعرهم في عالم طوباوي خيالي. وحتى لا ندخل في حيثيات البرهنة والاستدلال بعينات نصية،أود أن أختم بأنه كلما توغلت اللغة في متاهة الإنزياح لتحطيم المبنى اللغوي لأسلوب مألوف معتاد في الحياة اليومية،كلما علت أمواج المد العالي للتخييل الخارق في إضفاء مسحة تأثير ساحر. وكلما ارتفع مستوى التصنع التوهيمي للقارئ، كلما ازداد بريق الجمالية في وجه الإبداع الأدبي وارتفعت درجة مصداقيته بعدما انفضحت حيل الكاتب في إسباغ لمسة الواقع على نصه, وبعدما تفككت عروة العلاقة الزفافية بين الكلمة والمعنى كعلاقة ليست بالضرورة طبيعية وبالتالي قد ان الأوان لتنطلق إجراءات الطلاق كي يعرف كل واحد دوره البنيوي المنوط به