يتسم النظام المخزني بالقدرة على جمع المتناقضات السارية في المشهد السياسي الذي يؤثثه، وتذويبها في اليد الأحادية لهرم النظام الممسك لوحده بسلطة إصدار القرارات السياسية، دون الاعتماد على التشارك و الإسهام المنوط بباقي الاطياف السياسية المؤثثة للمشهد.. وهذا يتنافى في عمقه مع الشرط الديمقراطي الذي يستوجب إعطاء الدور المحوري في صنع القرار للشعب، لذلك فإن الحديث عن إحتمال تحصيل انفراج ديمقراطي هو سفسطة بينة، وتغليط ظاهر للمعطيات القائمة. يعتبر المشهد السياسي الآني، امتداد فعلي للنظام الاوليغارشي، الذي أسسه ليوطي لنمط دولة المخزن، والذي أفرزه الدستور الممنوح (1962) الذي لا يختلف في شيء عن باقي الوثائق الدستورية المتعاقبة، المفرغة من الشكل والمضمون الديمقراطيين المستلزمين لإحترام الارادة الشعبية، و مشاركتها في الحكم. إن الترويج الحالي، عبر مجموع النقاش الدائر عن دمقرطة المشهد السياسي، لا يخلو من العبث الذي يخلق فجوة كبرى، تتسم بالتوازي بين إرادة الشعب، التواق لإقرار شكل المواطنة واحترام وجوده السياسي عبر خلق قنوات يساهم فيها في صنع القرار، و بين إرادة هرم المخزن الذي يغير الشكل المؤثث من حين لآخر كي لا يتغير عمق النظام، تفاديا لتنازله عن بعض السلطات.. وهنا يتم تسجيل تناقضات جمة أكبرها تركيز المؤسسة السياسية المتحكمة في القرار السياسي، على تجييش باقي الكائنات السياسية التي تصنعها بنفسها وتقيدها وفق منهجية “الجهوزية” فتسلبها الحق في المشاركة الفعلية لبناء الصرح الديمقراطي، لتغييب أي احتمال لتغيير خريطة المشهد السياسي، أو إقحام شركاء جددا يحظون بسلطة المشاركة الفعلية في العملية السياسية. إن التمسك الأحادي للمؤسسة الملكية بزمام القرار السياسي، خلف على الدوام سيادة العبث من خلال إحلال التناقضات بين النصوص الدستورية المعلقة، وبين الواقع السياسي السائد، وأفرز استعباد كل الأطياف السياسية بشكل تبعي وجعلها تطبق الأوامر الفوقية لا غير.. الحكومة مثلا، لا تناقش المؤثرات اللحظية لإيجاد حلول للمأزق السياسي، بقدر ما تسعى جاهدة لإظهار وفائها الدائم للقصر، و تعبر عن جاهزيتها لتكون بيدقا سياسيا يجلد الشعب، للحفاظ على تمظهرات الشكل الشمولي للنظام السياسي القائم، من خلال تعطيلها للميكانزمات المعمول بها في الأنظمة الديمقراطية.. لقد اعتمدت حكومة بنكيران في نسختها الاولى، على السرد الماضوي لمسارها في المعارضة، قبل أن تصطدم ب”التماسيح و الخفافيش والعفاريت” لتجعل القاموس الحيواني سيد المشهد السياسي، و هو ما ينم عن إخفاق جلي و فشل ذريع، في تبرير علة المأزق الآني بتبريرات منطقية، باعتبار أن أي محاولة جرد للعلل، سيحمل مسؤولية الاخفاقات والوضع المتردي لأعلى الهرم السياسي، و هو الأمر الذي يستحيل أن يقوم به مَن جيء به لحفظ الركن الدولتي من زوابع التغيير التي عصفت بمجموعة من الدول.. عملت النسخة الاولى من الحكومة على ضمان فترة نقاهة سياسية للمؤسسة الملكية، لتحظى بوقت مستقطع يخول لها إعادة هندسة الأفق المستقبلي، لضمان سيرورة نظام المخزن دون تعديل أسسه الإرتكازية، أو إستقدام شركاء جددا يزاحمونه في إصدار القرارات السياسية.. وبموازاة ذلك، تم إضعاف فزاعة المتأسلمين “البواجدة” من خلال تقوية “غول” الأصالة و المعاصرة، الذي إستحدثه المخزن بنفس طريقة مخاض التجمع الوطني للاحرار و الاتحاد الدستوري، مع خلق كائنات جديدة تتزعم التيار السلفي، لتزاحم العدالة والتنمية في شرعيته الدينية.. كل ذلك، تم ويتم، لدك ما تبقى من آمال الشعب الذي تاق لمعانقة الديمقراطية، ولم يجد في الواقع غير القمع المسلط، وتفشي الريع و الفساد، وتدهور الوضع المعيشي، وارتفاع نسبة الاعتقال السياسي المرفوق بسلب حرية الرأي و التعبير، لتظهر حكومة “غزوة الصناديق” ل25 نونبر مشلولة بيدقا سياسيا ضعيفا، مكونا مِن مَن كان يعتبرهم “البيجيدي” بالأمس القؤيب رموز الفساد وطالب برؤوسهم.. ضمنت النسخة الحكومية الأولى للحاكم الفعلي، إمكانية تمريغ شوكة المتأسلمين في تراب الفشل، فهم تحالفوا مع حزب الاستقلال الذي شارك في الحكومات المتعاقبة، التي أوصلت المغرب إلى متاهة السكتة، ليفقد “البواجدة” صفة المصداقية. إن الفردانية التي اتسم بها النظام السياسي، ما كانت أبدا لتسمح أبدا بتعدي أي طيف سياسي لخط الرضوخ المطلق للقرارات العليا، و هذا ما يجعل من الحكومة مجرد عملية تجميل سياسية، تضفي رونقا زائفا على نظام ادعى الديمقراطية، ولم يكن أبدا ديمقراطيا. فلا الحكومة ولا البرلمان يمكنهما تسطير أجندة سياسية، لم تُرسم معالمها في دهاليز القصر من طرف حكومة الظل، و تبقى الاطياف السياسية المؤثثة للمشهد السياسي، الذي يضفي صفة المياومين على السياسيين، إذ يطبقون الاوامر مقابل جزء من الغنيمة السياسية، من ريع وفساد و تفويتات، على حساب الهم الشعبي، مما أفرز أوليغارشية سياسية، و انفصاما في التجاوب بين الشعب و المطبخ السياسي، وتغييبا الوعي كليا للحقوق والواجبات، جعل الشعب فأرا مختبريا للسياسات المتعاقبة، التي تحصن أواصر إستمرارية الوضع القائم، على حساب التطلعات الجماعية إلى غد ديمقراطي. إن العبث الذي يسود المشهد السياسي، هو جس لنبض الوعي الجماعي، وجعل النظام السياسي يشعر بالطمأنينة إلى امتداد سيرورته. كيف يمكن، مثلا، شرح توجيه انتقادات لاذعة للسياسة التعليمية في خطاب 20غشت إبان افتتاح الدورة التشريعية مع العلم أن القصر هو الذي يرسم سياسات الدولة؟ وكيف يمكن فهم انتقاد الملك لوزارة ما، وفي يده صرف الوزراء؟ وكيف يمكن تبرير الدعوة لوقف الصراعات السياسية الضيقة، من طرف مَن أوجد هذه الكائنات المتصارعة؟ إن شكلانية النسق السياسي تنم عن تغييب أي إرادة حقيقية للسير نحو الدمقرطة المرجوة. والحجر على الحق في نفاذ المعلومات المرتبطة بقرارات الشأن العام، يكرس قطيعة ممنهجة بين الشعب ومؤسسات الدولة، وحتى النقاشات “الحامية الوطيس” بين الفرقاء السياسيين، لا تعدو أن تكون مجرد مسرحية، تبعث رسالة للسواد الأعظم من الناس، مفادها: إن المؤسسة الملكية هي وحدها من تستطيع في حفظ التوازنات والتوافقات، وأنها الضامن الوحيد للاستقرار وعلى سبيل الختم، فإن الشغل الشاغل للنظام السياسي حاليا، هو حفظ امتيازاته السياسية، وفق خرائط مرسومة بدقة، تؤبد تواجد أفقه الإستراتيجي مستقبلا، وتكريس الأمر الواقع، واعتبار الشعب حلقة مصلحية دونية، تضمن مصالح المخزن الاستراتيجية .