1 -المصداقية الأصيلة المنبثقة عن الاستقامة والنزاهة أولا أم الحركية المادية الفعالة على صعيد الواقع ؟ إن الفكرة الصائبة لسنا دائما قادرين على تجسيدها في الواقع وبلورتها كسلوك مترجم عن لغة المعتقد. ولهذا فهي ليست في معظم الأحيان تلك العصا السحرية القادرة على تغيير حياة الناس، إذا لم تتهيأ لها الأرضية الملائمة لذلك. خاصة إذا تراكم إرث الفساد طبقات فوق طبقات تصعب معه المدة الزمنية القصيرة لحذفه والتشطيب عليه للأبد. إن ما هو معروف جيدا عن الصراحة المباشرة أنها لا تسبب سوى الجراح و لا تشكل عنصرا ضامنا لاستراحة الذات من التهديدات الرمزية من طرف الفساد المستهتر. لأن الحقيقة حتى و إن كانت محط اتفاق الجميع ومرحب بها من طرف الأغلبية، فإن من كان في قلبه مرض من حسد إيديولوجي أو جشع دنيوي،أو من كان في سلوكه شبهة أو تورط مع الملوثين ،لا بد له من القفز الصبياني يضرب قدميه مع الأرض من شدة الحنق والعناد . رافضا لتواجد الحقيقة بين ظهرانيه لأنها تعمل في إحقاق الحق بمظاهره المتعددة، و لأنها تثير حساسيتهم المرضية في التعلق المجنون بأسباب القوة والسلطة في غياب وعي ديني من منزلة الإنسان في هذا الكون وغايته من الوجود.إن الألم هو طريق للأمل و الحرمان من مجمل الحاجيات الضرورية هو الدرب الشاق للإختراع والابتكار .الألم مع الصبر الطويل للشفاء منه،غالبا ما يتجنبهما الناس على الرغم من أنه الصانع للتاريخ والباني للحضارة وهما الطريق إلى ولوج الجنة. لكن الناس عندما يرمقون قدوم الألم مع موكب الصبر الطويل مرفوقا بالوعود المستقبلية الوردية ، غالبا ما يختبئ السلبيون في أقنعتهم ليهربوا من تحمل مسؤولية تجربة المعاناة تلك مكتفين بالبقاء في اتصال مع كل ماهوسهل ولذيذ لتحل الراحة والمتعة محل المعاناة والانتظار في طابور الغد ويعرفون جيدا بأن كل هذه التسهيلات التي ينشدونها يعرفون بأن ثمنها ليس مجانا لأنهم ماضون بواسطتها نحو العقاب الدنيوي والأخروي على أساس تورطهم في التخاذل و التهرب من المسؤولية. إذا كان أكل العسل يجلب معه لسعات النحل كما يقال، فإن الولوج إلى جنة الاستراحة لا بد لها من المرور من مراحل حبلى بالتعب والارهاق بسبب العراقيل والمغامرات الخطيرة. وطريق النجاح الأخير لا بد له من أن يكون محاطا بأشواك المكاره والصعاب. بينما السقوط في ورطة المشاكل والعيش في الجحيم ، فطريقه سهل ولا يحتاج سوى لارتكاب بعض الجرائم الجنائية استجابة لأهواء الغرائزالممتعة المليئة بالشبقية والاستمتاع والعنف قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ( رب لذة قصيرة /زمنيا/ أورثت ندما طويلا / أي تأخرا في التقدم والالتحاق بموكب الخلاص والنجاة/).إن المتخاذلين الانهزاميين فقط هم الذين ينصب اختيارهم على العيش في الذل والهوان و الخنوع مقابل سلب إرادتهم وحريتهم والتقاعس في طلب حقهم المهضوم في الكرامة والانصاف. فتراهم يتقوقعون على أشيائهم المادية ويتوسلون المساعدة من أوثانهم البشرية كي ينوبوا عنهم في استرجاع الحقوق لأنهم لايتصورون مصداقية سعادتهم وفعالية هنائهم إلا في ذلك القعود الاختياري وانتظار المعجزات من بعض الأشخاص الذين يراهنون عليهم قائلين لهم:)إذهبوا أنتم وربكم فقاتلوا إنا هاهنا قاعدون: ننتظر هبوط نعمة المن والسلوى كي نلملها غنيمة سمينة بأقل خسائر ممكنة وصافية من كل عرق ودم وعنف). و إذا نحن دلفنا نحو دهاليز مؤسسة سياسية لنرى كيفية تفاعل الإيقاع البطيء الانتقائي للفكرة الصحيحة المسالمة لدى الأشخاص الذين يمتلكون المصداقية الأصيلة بسبب نوعية قناعاتهم العميقة الرامي إلى تحقيق مشروع حقاني بعيد المدى غير مرتبط بالشروط الزمانية والمكانية.مقارنة مع التفاعل ذو الإيقاع السريع للفكرة الباطلة داخل نفس الاطار الملتزم و التي تتطفل على هذه المصداقية باسم الحركية الديناميكية والفعالية الواقعية السريعة الإيقاع . والتي تحاول من خلالها الأخيرة، رغم بطلان دعواها، أن ترجح كفة استعمال عناصر القوة واستثمارها على حساب الأمانة والنزاهة . فترى بعض هؤلاء المنخرطين في إطار ملتزم ،والذين أصاب قناعتهم خلل تحريضي وفيروس إغوائي ،تراهم يكشرون عن أنياب الميكيافيلية الماكرة بسبب تلوث فطرتهم في تجارب فكرية سابقة كانت تزاول فيها الخداع والكذي على الناس من منطلق: ( إكذب إكذب حتى يصدقك الناس) والضحية الأولى والأخيرة لهذا الكذب المزيف للحقيقة هم هؤلاء الناس البسطاء الذين يصغون إلى كلام الكذاب الساحر وهم مغلوب على أمرهم بسبب فقرهم وحرمانهم وأميتهم . وهذا الكذب لا يتم إلا بالاستعانة بأزلام الاعلام المزور و أزلام الفساد بما فيهم من سماسرة ووشاة وضعفاء الشخصية وجبناء تاريخيين أي أنهم ورثوا جينات الخيانة والانتهازية والعمالة عن أجدادهم جيلا بعد جيل. ولا يتكرر سيناريو المؤامرة على تقوية شوكة السلطة إلا مع حذف عنصر الأمانة والنزاهة لتبقى سلطة السياسي دوما مدنسة فاسدة بتواطء مع جهات ضاغطة .و بلا شرعية تحاول نسف كل المجهودات الدورية في ساعات قليلة للأسف. فتبعثر وحدة المؤسسة بحجة أن الأمانة النزيهة بدون فعالية حركية لا مصداقية لها لأنها تجديف في الغيب. وهذا التزويج القسري بين العمل السياسي دوما مع الفساد يحاول ترسيخ مفهوم عدم وجود أي علاقة للسياسة كمدنس متشيطن بالدين كوعاء تقي طاهر . لأن العمل السياسي بكل بساطة يكون حسب رؤيتهم دائما مقترن بالشطط في استعمال القوة السلطوية بشكل مشبوه. وهم حينما يسمون السياسة باللعبة إنما يجرجروننا إلى المربع الصبياني كمرحلة يتعلق فيها الطفل بأشياء مادية بشكل أناني ، وحينما يربطون مصداقيتها بأشخاص معينين يرفعونهم إلى أعلى عليين ،إنما يجروننا إلى المربع المراهقاتي كمرحلة لا شخصية للانسان فيها، لهذا فالمراهق يقدس الأشخاص ويعشقهم حد الجنون من منطلق إعجاب ورغبة في الاتباع والاقتداء. وإذا حصرنا السياسة في هاتين المرحلتين: اعتبار كل السياسة مجرد لعبة، واعتبار السياسة كلها مركزة في شخص كاريزمي يعني أننا بصدد التفرج على رواية درامية متحركة يلعب فيها هذا الرمز السياسي الممدوح دور البطولة الخارقة في تحقيق مراد الغير الناضجين وأحلام المراهقين عبر عملية الاقتداء يحاول فيها هذا المراهق الطري العود أن يشكل شخصيته من خلال هذا البطل السياسي الوهمي . أما إذا جعلنا السياسة تحت رقابة الدين ووصاية الشريعة الربانية. فسنصاب بعدوى النضج وضبط الأمور بشكل منطقي مقبول.وحسب قناعاتي فإن كل من يدخل معترك السياسة فهو جاد ومسؤول ولم يعد هناك مساحة للعمل الصبياني ولا لارتباك المراهقين في الإختيار قصد تحقيق الأحلام الشخصية. لقد مضى زمن استغلال الكبار الراشدين للقاصرين الذين لم يشكلوا شخصيتهم بعد لأنهم في طور تشكيلها عبر التربية ةالتثقف الذاتي , لأجل فرض ذواتهم والقدرة على اقتراح رأيهم باستقلالية عن تأثير الآخرين. ولأجل إنضاج الشخصية وجب تجاوز المرحلتين اللاناضجتين: مرحلة الطفولة اللعوبة التي تخلط بين الهزل و الجد وتمحي كل الحدود الفاصلة بين الواقع والخيال, ومرحلة المراهقة المقلدة للآخرين التابعة لرأي الناس الذين تقلدهم في حركاتهم وسلوكاتهم للتظاهر ببلوغ النضج والجد .لكن الوعي مازال لم يكتمل بعد وكل المواقف المتقلبة ما زالت مرتبطة برعونة الصبا وطيشه وخلط الجد مع المزاح ، مما يتسبب في الاستهتار بالمسؤولية و كأنها شيء عادي جدا لكن تبعاتها قد تؤدي إلى ارتكاب جرائم و أحداث مأساوية . ومن هنا تأتي ضرورة الانتقال إلى مرحلة اكتساب الفكر وتبني المواقف المستقلة والتمسك بالقناعات المبدئية كعقيدة إيمانية لا يمكن التراجع عنها لأنها مسألة مصير حاسم للهوية والوجود : إما أن تكون يعني البقاء في الحياة أو ن لا تكون يعني الالتحاق بالموت . وإذا كنا سننضج فعلا يعني اننا يجب أن نلج إلى عالم نتخلص فيه من أنانية الأطفال وارتباك المراهقين. عالم نتملص فيه من التقوقع على الذات والأنا فننفتح فيه على الآخر ونلتزم فيه بهموم الناس وقضايا المجتمع التي تؤرق مستقبل الجميع. ولا يمكن تحقيق ذلك إلا بالانخراط في تحمل المسؤولية من منطلق جمعوي أو سياسي أو أسري أو تربوي . هذه المسؤولية التي تعد أمانة في أعناقنا والتي لا يمكن حمل أعبائها إلا من كان قادرا ناضجا وراشدا لا تتلاعب بها الذات الصبيانية الأنانية ولا تتحكم فيه أهواء المراهقة المرتبكة . بل تستقر بالعقل والوجدان والروح على خط مستقيم يلتزم المضي قدما وفق خطة محكمة غير مرتجلة بعيدة كل البعد عن الانغماس في أتون الحيل الصبيانية والتمرد المراهقاتي في رفض القيم الأخلاقية النبيلة وتبرير كل السلوكات القبيحة المنحرفة لأجل تحقيق غاية مادية وضيعة. لا يمكن الكذب في المجال السياسي و لا تغليط الرأي العام ،لأنها ليست بمزاح نمارسه مع صبيان ناقصي العقول. ولا يمكن التحايل على الملك العام بما في ذلك ميزانيات التجهيز والعقار لأنها قضية مصيرية تهدد أرزاق الناس وتوازن المجتمع المعيشي. كما أنها تكرس الفساد والظلم لإبعاد المنهج العادل في توزيع الحقوق بعد تقديم الواجبات طبعا. و لن تجد كابحا فعالا أبدا لهذه الحماقات التي تخون أمانة المسؤولية، مثل الوازع الديني المرتكز على عقيدة سليمة و إيمان عن علم وتربية صحيحة. لهذا فكلما وجدت سياسيا يتلاعب بمقود قيادته للمسؤولية حيثما كان و في أي منصب قيادي فإنه ما زال يتخبط في مراحل اللاوعي واللانضج . فهو إن دخل الحزب مثلا من منطلق قضاء مصالحه ومآربه الشخصية فقط. فهو مازال ذلك الطفل الأناني الذي مازال يتعلق بالأشياء المادية، ولم ينضج بعد لترجمة قناعاته المبدئية التي يؤمن بها كي يحقق المشروع السياسي الاصلاحي الذي يؤمن به. و إذا رأيت من ما زال يترنح في سكرة الارتباك والحيرة , أي أن رأيه لم يستقر بعد على اختبار محدد . حتى لو أنه داخل حزب ما ، فإن اقتناعه الفكري المبدئ مازال معرضا للاهتزاز بسبب رياح الميزان المسؤولياتي / السياسي حيث ترجح كفات القيادات المسؤولة /الأحزاب حسب ظروف الزمان والمكان والحال. فتراه لا شخصية مستقلة لديه، لأنه يتأثر سريعا بما يشيعه الناس من أوهام و أكاذيب باطلة عن انتمائه السياسي / حزبه مثلا . وهو لا يملك الرصيد الكافي من الوعي والقناعة المبدئية مرفوقا بمستجدات الساحة كي يقنع نفسه أولا و أحرى أن يدافع عن شرعية مشروع انتمائه الحزبي فيقنع الآخرين بذلك ويستقطبهم إلى تياره. إذن فإشكالية هذا السيد ( أنا) تتجلى في عدم تمكننا من ضبط شكل نوعية شخصيته الهلامية التي بلغت درجة الصفر. فنحن إذن إما أننا أمام طفل لا يتحدث إلا عن نفسه وشخصيته البطولية الخارقة و إما أمام مراهق مقلد للآخرين لم ينضج بعد لا تخاذ قراره الحاسم والثبات على فكرته التي يؤمن بها والاستقرار على خط ملتزم يعمل بواسطته لإقناع الناس بإيمان قوي بقضيته كي يحقق المشروع الاصلاحي النزيه الذي من أجله يحيا ويعيش و لأجله سيموت بل وقد يبلغ به درجة الإيثار والتضحية بالغالي والنفيس لأجل دعم المشروع الفكري كي ينجح. وبالنسبة لأولئك الذين هم من أصحاب المصالح الاقتصادية الذين يقولون لك بأننا معك من المتعاطفين فقط. فلا هو من المنخرطين ولا هو من المساهمين إنما هم من المذبذبين الذين يثيرون فيك إحساسا بالشفقة عليهم. لأنهم بانتظارهم للغنيمة بعدما يحارب الجادون بمعية إلاههم.. إنه موقف نفاقي متخاذل انتهازي اتكالي لا يتمتع بالجمالية أبدا لأنه غارق في قبحه ولا ينسجم أبدا مع أي نسق من القيم النبيلة الجميلة. و يبقى هؤلاء يدورون في حلقة مفرغة ويرجعون إلى نفس المربع لأنهم مكثوا طويلا في إطار عدم الاقتناع إما مخافة أو طمعا أو إخفاءا لطبيعة الانتماء تقية ومداهنة لسلطة و جهات لهم فيها مصلحة أو أن ذلك راجع لعدم نضج الوعي لديهم في اختيار موقف واضح دونما التردد أمام موازين القوى وانتهاز الفرصة في الوقت الغير مناسب للاتجاه نحو الذي يملك القوة والسلطة. ويبقى ذلك الصوت التعاطفي الذي سيرمى في صندوق الديموقراطية سوى نية غامضة لا يعلم خفاياها في القلوب التي في الصدور سوى الله سبحانه وتعالى حتى و إن باح بها لاتجاه سياسي معين. لذا فالرهان المطلق على الانتخاب لأجل إنجاح المشروع الاصلاحي المؤسس على فكرة نقية والمراد تكريس النزاهة والشفافية من ورائها إنما هو رهان خاسر منذ البدء. لذا فإن المطلوب من السياسي الملتزم القيام بواجبه في تحمل المسؤولية. والنتيجة الانتصارية يضمنها الله عز وجل بعد ذلك. ولا حاجة له بالجبناء ولا السماسرة المحتالون الذي يلبسون أقنعة الإختفاء المضحك. فيوزعون الوعود الوهمية بالتصويت ويتعاطفون مع الجميع جهارا. لكنهم يعترضون على الجميع في السر. وكل ما في الحكاية أن في لائحتهم يوجد برنامج استغلالي انتهزي يحتوي على أغراض مادية أو شخصية معينة يجب قضاءها قبل أن تفلت المدة الزمنية لبقرة السياسة الحلوب التي تدر عليهم بأرباح موسمية من طرف أحزاب فاسدة لا علاقة لها إطلاقا بالسياسة الحقيقية المتمثلة في تحمل المسؤولية في إطار من النزاهة والكفاءة. لأنها لا تلتزم بالمرجعية الأخلاقية الفضيلة ومراقبة النفس ومحاسبة الضمير. يتبع حكيم السكاكي