يطرح رفض خالد الناصري، وزير الاتصال وعضو الديوان السياسي لحزب التقدم والاشتراكية، إعطاء موقف واضح من تصريحات زميلته في الحزب «كجمولة» حول ما وقع في العيون، سؤالا مصيريا وحاسما حول توجهات هذا الحزب ومواقفه السياسية. فسعادة الوزير لم يضف أي جديد عندما كتب رسالة مفتوحة إلى رضا بنشمسي، مدير مجلة «تيل كيل»، يطلعه فيها على امتعاضه مما يكتبه كل أسبوع حول مؤسسات الوطن ومقدساته. ففي الوقت الذي كان فيه وزير الاتصال يوقع على شيكات الدعم الممنوح سنويا لبنشمسي، كنا نحن نوقع مقالات نحذر فيها من خطورة «اللوبي» الإعلامي الذي يخترق المغرب بواسطة بنشمسي وأمثاله. لذلك فعندما نرى كيف يهلل بنشمسي، في افتتاحيته، لانتصار إعلام البوليساريو على الإعلام الرسمي المغربي، فإن ذلك لا يفاجئنا، بل إن ما فاجأنا حقيقة هو توجيه وزير الاتصال رسالة مفتوحة إلى بنشمسي لأنه هاجم الإعلام الرسمي، في الوقت الذي اختار التزام الصمت أمام زميلته في الحزب «كجمولة» التي هاجمت الدولة المغربية ومؤسساتها واصطفت إلى جانب الرواية الكاذبة التي ارتكبها الإعلام الإسباني. أما نبيل بنعبد الله، الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية، فلم يكن أحسن حالا من رفيقه وزير الاتصال، إذ قرر، عوض أن يعطي موقفا واضحا مما قالته رفيقته في من أتى بها إلى حزبه من الحركة الشعبية، أن يكتب رسالة مفتوحة إلى اليسار الإسباني يشكو إليه فيها تحيز إعلام بلاده وآفة اللعب ب«ورقة المغرب» في الحسابات الانتخابية الإسبانية. هذا الهروب إلى الأمام من طرف مسؤولين كبيرين في حزب مشارك في الحكومة بحقيبتين، وهذا العجز الواضح عن اتخاذ موقف صارم من التصريحات الخطيرة التي أكدتها «كجمولة» بخصوص تحميل الدولة المغربية و«سكان الشمال» مسؤولية ما حدث في العيون، يطرحان سؤالا كبيرا حول ازدواجية المعايير والمواقف عند هذا الحزب والناطقين باسمه. إننا لا نفهم كيف يسمي وزير الاتصال والرفيق نبيل بنعبد الله ما قالته «كجمولة» رأيا شخصيا يخصها ولا يلزم الحزب بشيء، لأن الحزب ملزم فقط ببيانات ومواقف ديوانه السياسي. عندما كتبت الصحافة الإسبانية أن سكان العيون الشماليين، أو «المعمرين» كما يسمونهم، هم الذين أحرقوا ودمروا ممتلكات الصحراويين، بحماية من الأمن المغربي، هاج الوزير وأطلق على ما تنشره الصحافة الإسبانية من أكاذيب اسمَ الحربِ الإعلامية. أما عندما قالت زميلته في الحزب نفس الكلام وتبنته ودافعت عنه في الصحف ووسائل الإعلام الإسبانية نفسها، التي ظل يهاجمها زميلها وزير الاتصال، تحولت «الحرب الإعلامية» فجأة إلى مجرد رأي شخصي. كيف، إذن، يمكن اعتبار الحديث عن اضطهاد «سكان الشمال» ل«سكان الصحراء» رأيا شخصيا عندما تعلنه وتدافع عنه برلمانية تنتمي إلى حزب وزير الاتصال، ثم يصبح هذا الحديث «إعلان حرب» عندما تنشره وتتبناه الصحافة الإسبانية. إن حزب التقدم والاشتراكية مدعو إلى توضيح موقفه أمام الرأي العام المغربي، وذلك بالإعلان صراحة عن إدانته لما قالته نائبته في البرلمان. ولعل أقل ما يمكن أن يقوم به الحزب هو أن يتبرأ من هذه النائبة ويسحب منها تزكيته في البرلمان ويطردها من صفوفه. فالأعراف السياسية والحزبية العالمية تقتضي أن يلتزم مناضلو الأحزاب وبرلمانيوها بمواقف وقناعات الأحزاب التي ينتمون إليها ويتحدثون باسمها في البرلمان. وعندما يصدر عن برلماني موقف مناقض لمبادئ الحزب الأساسية، فإنه يضع نفسه أمام خيارين: إما أن يقدم استقالته من الحزب ويبحث له عن حزب آخر يتبنى مواقفه وقناعاته، أو أن يتعرض للطرد. أما أن يعلن برلماني عن مواقف تسير في الاتجاه المعاكس للمواقف التي يعبر عنها الديوان السياسي لحزبه، ثم يستمر في التمتع بتزكية هذا الحزب، فإن هذا يعني شيئين لا ثالث لهما: إما أن «كجمولة» تعتبر حزبها أضعف من أن يطالبها بتوضيح موقفها السياسي من قضية الصحراء، وإما أن الحزب في قرارة نفسه متفق معها. في الحقيقة، ليس الحزب بكامل أجهزته، وإنما أمينه العام نبيل بنعبد الله تحديدا. فالرجل بعد فشله السياسي المدوي في الحفاظ عن كرسيه الحكومي ومنصبه كسفير في روما، أصبح يطلق، في الآونة الأخيرة، تصريحات «ساخنة» طمعا في عودة مظفرة إلى الحكومة المنتظرة. ولذلك، فعندما يقول إن ما قالته «كجمولة» يعتبر رأيا شخصيا، فإنه، بعبارة أخرى، يريد أن يقول «منكم ليها». إننا لا ننتظر من نبيل بنعبد الله أو خالد الناصري، اللذين ينحدران من حزب يدعي نسبه إلى التراث الشيوعي البائد الذي لا يؤمن سوى بالرأي الواحد والحزب الواحد، أن يعطيانا دروسا حول الحق في التعبير عن الرأي الشخصي. فلكل مغربي الحق في التعبير عن آرائه بحرية، مهما كانت هذه الآراء مخالفة للسائد. لكن الإشكال الذي يطرح نفسه هو: هل هؤلاء الذين يعبرون عن رأيهم بخصوص قضية الصحراء يصنعون ذلك كمغاربة أم كشيء آخر؟ بعبارة أوضح، هل تستطيع الرفيقة «كجمولة» أن تأتي إلى البرلمان وتقول، بشكل واضح، إنها قالت ما قالته للصحافة الإسبانية بوصفها مواطنة مغربية تعتز بمغربيتها؟ إذا كانت للنائبة المحترمة الجرأة والوضوح اللازمين لقول ذلك في البرلمان، فنحن مستعدون لقبول جميع آرائها مهما بلغ تطرفها. إن ما صرحت به النائبة البرلمانية يلزم الحزب الذي تنتمي إليه بالتحرك، ولا يلزم الدولة بشيء. فنحن لسنا في تندوف حتى تختطف الدولة وتعتقل الأفراد بسبب تصريحاتهم ومواقفهم كما صنعت البوليساريو مع مصطفى سلمى. المعني، أولا وأخيرا، بتصريحات «كجمولة» هو الحزب الذي تحمل شعاره ولونه ومواقفه في البرلمان. إن الوضع المحتقن الذي وصلته قضية الصحراء اليوم، بعد المجزرة التي تعرض لها الأمن في العيون، يتطلب التحلي بالوضوح من جانب كل الأطراف. لذلك لم يعد مقبولا إشهار انتماء الشيخ الفلاني أو النائبة الفلانية إلى الصحراء لتبرير تصريحات ومواقف تداعب مواقف وتصريحات خصوم الوحدة الترابية للمغرب. لقد كان الجميع ينتظر من بعض شيوخ القبائل الصحراوية، الذين عقدوا اجتماعهم في العيون قبل أيام، أن يصدروا موقفا صارما يدين المذابح التي اقترفها سفاحون لطخوا رمال الصحراء الطاهرة بدماء أحد عشر رجلا من رجال الأمن. لكن المفاجأة كانت هي مطالبة بعض هؤلاء الشيوخ بعفو ملكي شامل عن المعتقلين في أحداث العيون. إن أنسب مطلب كان يجب أن يتبناه الشيوخ، ومعهم جميع الصحراويين، هو مطلب المحاكمة العادلة لكل من ثبت تورطه في جرائم القتل والذبح والتدمير بالعيون. هناك شيء اسمه القانون يجب أن يسري على جميع سكان المغرب من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب. وعندما يطالب شخص ما بتعطيل القانون إزاء جرائم فظيعة كالتي شاهدها العالم بأسره في العيون، فإن أسئلة محيرة تطفو على السطح وتجعلنا نعيد النظر في هذا «الوضع الاستثنائي» الممنوح للصحراء دون بقية مناطق المغرب. ففي جميع المدن المغربية هناك مشاكل للسكن والبطالة والفقر، فهل يجب أن يقوم كل من يطالب بسكن وشغل بحرق مؤسسات الدولة وممتلكات المواطنين وذبح أفراد الأمن لكي يجبر الدولة على الجلوس معه إلى طاولة المفاوضات وإيجاد حل لمشاكله؟ وما قام به باشا العيون، عم «أميناتو حيدار»، الذي يتقاضى أجرته من أموال دافعي الضرائب دون أن يقوم بعمل مقابل ذلك، عندما أشاد بمواقف «كجمولة» وشرع يعقد تجمعات في بيته وتحرير بيانات تحمل السلطة مسؤولية ما حدث في العيون، يعطينا صورة واضحة عن خطورة ازدواجية المواقف لدى بعض من يقدمون أنفسهم كمتحدثين باسم الصحراويين. فعندما يشرع «باشا» العيون في توزيع استمارات على المواطنين ويدعوهم إلى ملء فراغ خاناتها بنوع الاعتداء الذي تعرضوا له، هل هو اغتصاب أم قتل أم تعذيب، فإنه يضع نفسه في خندق المؤسسات الإعلامية الإسبانية التي تبحث، بالفتيلة والقنديل، عن رائحة الدماء في ثياب سكان العيون لتبرير أكاذيبها التي ورطتها أمام الرأي العام الإسباني. كيف يطالب سعادة «الباشا» الدولة بالكشف فورا عن حالات الوفاة مع أنه يرى، بأم عينيه، كيف أنه ليست هناك عائلة واحدة تطالب بأية جثة لأقربائها أو أبنائها؟ إذا كان الرد على تصريحات النائبة البرلمانية «كجمولة» شأنا داخليا يخص حزب التقدم والاشتراكية، فإن الرد على «باشا» العيون شأن يخص وزارة الداخلية. ففي حدود علمنا، فالسيد «بشر ولد حيدار» موظف يتقاضى راتبه الشهري من وزارة الداخلية، ولذلك فعندما يسمح لنفسه بعقد اجتماع في بيته وتحرير بيان يحمل فيه الدولة، في شخص وزارة الداخلية، المسؤولية الكاملة عن كل ما وقع في العيون، فإن أقل ما يجب أن تقوم به وزارة الداخلية هو توقيفه فورا عن العمل. السيد «بشر ولد حيدار» ليس برلمانيا يمثل إرادة السكان لكي يعبر عن رأيه، بل هو رجل سلطة يشتغل في سلك وزارة الداخلية ويسري عليه قانون الوظيفة العمومية الذي يمنع على رجال السلطة الإدلاء بآراء سياسية أو الانخراط في الأحزاب والجمعيات. فما بالك برجل سلطة كباشا العيون يعقد اجتماعات غير مرخص بها في بيته، ويصدر بلاغا ناريا ضد الدولة ومؤسساتها، ويطالب بإطلاق سراح القتلة والسفاحين الذين اعتقلوا، بين من تم اعتقالهم في أحداث العيون الدامية، وينادي بمحاكمة المواطنين المنحدرين من الشمال الذين خربوا ممتلكات العائلات الصحراوية. إن الجبن السياسي للأحزاب وتغاضي مؤسسات الدولة وأجهزتها القضائية عن الرد بوضوح على استفزازات «المؤلفة قلوبهم»، أولئك الذين يضعون قدما في الرباط وأخرى في تندوف، هو ما يشجع هؤلاء الانتهازيين على الاستمرار في ابتزاز المغرب. عندما يرى هؤلاء تخوف وتردد الأحزاب في إعادة النائبة «كجمولة» إلى حجمها الحقيقي، فإنهم يعتبرون هذا التخوف إشارة كافية للتمادي في الخروج من جحورهم ونزع قناعاتهم والكشف عن وجوههم الحقيقية. وإذا كان من مزية لتصريحات «كجمولة» فهي أنها ستساهم في إظهار المواقف الدفينة لبعضهم من قضية الصحراء على حقيقتها. في هذه، لا يسعنا سوى أن نشكرها.