ليس سهلا أن تصادف في حياتك رجال دولة، ومسؤولين كبارا، وسياسيين، وقادة، تتوازن في أفعالِهم، وتدبيراتِهم، عقولُهم مع قلوبِهم. فتَنْضَح من أفعالهم، وخطاباتهم، وتصريحاتهم، عواطفُهم الجياشة، إذا استدعت المواقف، أو الأحداث، أو التعالقات ذلك. تماما كما تغلب عقولهم، ويغلب حزمهم، إذا استدعت المواقف، والقرارات ذلك. لم نكن نعلم من الساسة والقادة والمسؤولين عبر تاريخٍ مُمْتَدِّ احتككنا بهم؛ هذه الأريحية في التدبير، والعاطفية في المعاملات العادية التي لا تستدعي أحكاما ومواقف وقرارات لا تُحابي أحدا. ولم نكن نعلم من ذلك سوى ما قرأنا عنه في تراثنا الإسلامي الماتع؛ حيث كان المسؤولون الكبار يتألمون لآلام الناس، ويفرحون لفرحهم، ويبكون لبكائهم، تماما كما كانوا يغضبون لانتهاكات تنال إنسانيتهم، أومعتقداتهم، أوأعراضهم؛ فينفعلون، وتنتفخ منهم الأوداج، ويغضبون حتى يردوا للضعيف حقه من القوي، ويثبتوا الحق، ويقيموا القسط. لقد ظننا، لزمانٍ، أن هذه الطينة من المسؤولين والقادة التي تربت في أحضان القرآن، والسنة النبوية الطاهرة، والمأثورات من فعل وقول القائد الأول محمد رسول الله (ص)، قد انتهت مع زمانها، وأن مصيرنا أن نعيش تحت رحمة قلوب قاسية، شديدة، ووجوه عبوسة، مكفهرة، تتناوب علينا في المسؤوليات، والقيادات، إلى ما لا نهاية،... حتى حلَّ بين ظُهْرَانَيْنَا رجال دولة وسلطة، يحملون الكثير من ملامح البراءة المُؤْنِسَة في وجوههم، ويتعاملون بالكثير من الحِنِّيَّة والرحمة مع الناس، والعفو عن المسيئين في حقهم، حتى استأنس بهم الفقير، والعديم، والمواطن العادي. فما عاد الوزير هو ذلك "السوبرمان" الذي تشرئب إليه الأعناق، وتَوْجَل منه القلوب، وتذوب، خوفا منه، الأنفس. فرغم أن السلطة تحول القط إلى أسد، والرجل الحنون إلى جسور، وتنزع من صاحبها الرأفة والرحمة، شيئا فشيئا، إلا من رحم الله؛ إلا أن هؤلاء الإسلاميين؛ مغاربةً، وعرباً، وأعاجمَ، استطاعوا أن يحافظوا على براءة "النشأة الأولى"، رغم صعودهم أدراج المسؤوليات، واعتلائهم سلم المناصب العليا، مما يُفْقِد سواهم حاسة الإحساس، ويحولهم إلى "ربوتات" كزَّة جامدة. وليس ثمة سِرٌّ يحتاج منا إلى كبير جهد لنكتشفه. فالمسألة عائدة إلى النشأة التي تربى عليها هؤلاء، والقدوة التي تأسَّوْا بها، حينما اختاروا أن يكونوا على درب هذا الدين جنودا، لخدمة الناس، رغبة فيما عند الله. واستمر بهم الحال حتى اعتلوا أعلى المناصب وهم على العهد ثابتون؛ لم يبدلوا نهجهم، وهم يتربعون على أَسِرَّة السلطة، والمناصب، ولم ينسلخوا عن دينهم، ويتبعوا أهواءهم، وهم يتقدمون في حصد المقاعد، والمواقع، وتحقيق الانتصارات . كيف، وأعينهم شاخصة إلى ما عند الله، "وما عند الله خير وأبقى"؟!. كلام قد يستغرب منه الكثير ممن قست قلوبهم، وتَيَبَّسَتِ الدموع في مُقَلِهم، ولا يفهمون من هذه المعارك التي تثار بين الناس لأجل المناصب والكراسي، إلا منتهى الأمنيات، وغاية الغايات، التي دونها المُهَجُ، والأخلاق، والأعراض، والأولاد،... حينما صعد بنكيران المنصبة إبان الحملة الانتخابية الاخيرة، وأجهش بالبكاء، ضَجَّ العالم يتساءل حول هذا البكاء الغريب، العجيب، أنْ يَصدُرَ مثله من مسؤول كبير، وقائد سياسي لا يشق له الغبار. فلم يفهم الكثير من يتامى بني علمان، ممن لا يتذكرون آخر مرة انهمرت فيها عيونهم، سِرَّ هذا البكاء. وأخذوا يدبجون الروايات، ويفتشون في قلب الرجل ليعرفوا نيته، وهم الذين يقيمون الدنيا ولا يقعدونها حينما يتجرأ مخلوق، ويتهم نواياهم، أو يُؤَوِّل أقوالهم وأفعالهم... ف"استنتج" غالبيتهم أن سبب هذا البكاء هو الخوف على المقعد أن يقتعده سواه ويضيع منه!. ومن حقهم أن يفهموا هكذا فهم، فالقوم يتامى في ميزان العواطف، وقد عرفت منهم الكثير منذ كنا في الجامعة، ثمانينيات القرن الماضي، يجمعنا النضال المشترك. فما رأينا منهم إلا الوجوه اليابسة، والسحنات الصامتة، والملامح الخالية من كل التعابير. فقد جمعتنا لحظات جياشة.. لحظات تأبين قتلى الطلبة ضحايا القمع البوليسي، بكى فيها الطلبة، ولم يبكوا، وظلت وجوههم صامتة، وجاحدة، حتى طالباتهم/ الإناث، ياللحسرة!!، لم تتغير ملامحهن، في مثل هذه المواقف الجليلة التي ترتعش لها الأبدان، وتفيض، من وقعها، العيون. فليس غريبا أن تنبري هذه الكائنات تُؤَوِّل بكاء بنكيران، وقبله بكاء العديد من الوزراء، في مناسبات كثيرة، وهم لم يألَفُوا أن يتربَّوْا في أحضان كتابٍ يُتْلى وتهتز من وقعه الجبال الرَّواسي، والقلوب الصُّمُّ القواسي، ثمَّ تلين إلى ذكر الله. وليس ذكرنا للسيد بنكيران –هاهنا- دفاعا عنه، ولا تأويلا لبكائه بما يَرُدُّ عنه تأويل الخصوم، ولكننا إنما أوردناه مثالا من بين آلاف الأمثلة، لعلمنا أن البكاء عند هذا الرجل أصيل وقديم، عرفناه فيه منذ ثمانينيات القرن الماضي حينما كانت تجمعنا لقاءات وطنية أيام الدعوة. فلم يكن يحضر لقاء الا وبكى فيه وأبكى. ولقد كتبنا عن ذلك في مقال سابق(1). لذلك لم نستغرب أبدا بكاءَه في المهرجانات التي أطرها خلال الحملة الانتخابية، بل الذي استغربنا له، حقيقة، هو استمراره على صبغته الأولى رغم خمس سنوات قضاها في السلطة؛ وأيُّ سلطة؟!!. إنها معاني كبيرة لا يفهمها، للأسف، الكثير ممن يظلمون الإسلاميين، ويسخرون من قلوبهم الكبيرة، ويتهمون عواطفهم الجياشة، وتجاوزاتهم المتعددة عمَّن يَلِغون في أعراضهم، وأشخاصهم. كما يستكثرون عليهم انشغالهم بخدمة الفقراء، والمعوزين، والأيامى، والأرامل، والمحتاجين،... ضمن أعمالهم الخيرية التي تضطلع بها جمعياتهم الخيرية على امتداد العام، ويؤولون كل ذلك بما لا يفهمون سواه، مما تقترفه أيديهم، وتُكِنُّهُ صدورهم، من جشع يجعلهم يوزعون ابتساماتهم الصفراء على الفقراء، واليتامى، والأرامل، والمعوزين، و...وساكني المغرب العميق، تحت فلاشات "سيلفيات" هواتهم النقالة، يشاركونها؛ رياءً، وتسميعا، كلما حان موسم "الأصوات"، وحلَّ مهرجان بيع الوَهْمِ والضحك على الذقون. وفي المقابل، يُضمِرون باطنا خراباً، يَبَاباً، من كل إحساس جميل، وعفو كريم، وحب بريء، إلا من حب الكرسي، والوَلَهِ بالمنصب ..! دمتم على وطن...!!