هل تعرف "إلياس العماري"؟ نعم. هل جاء معكم في الرحلة؟ لا. عفوا لماذا السؤال؟ فقط نحن في انتظار وصوله إلى المطار.....شكرا. بسرعة وخفة، تم وضع طابع الدخول على جواز سفرنا، بالرغم من أنهم شاهدوا الكاميرا وبعض المعدات الخفيفة الأخرى التي بحوزتنا، فإن شرطة "مطار قرطاج" لم تسألنا عن مهمة التصوير وبرنامجنا، كما هو معتاد في التعامل مع الصحافة الأجنبية. يظنون أننا سنقوم بتغطية انتخاباتهم الرئاسية الأولى بعد فرار "الزين". في الصباح الموالي تناولنا وجبة فطور بقرب من الفندق وسط تونس العاصمة، ثم اتجهنا إلى المحطة الطرقية "باب عليوة" ومنها نحو مدينة "مَدْنين" بالجنوب عبر الحافلة.... الجنوب الساحر، الساخن... السفر نحو الجنوب في تونس، لا يختلف كثيرا عن مثله بالمغرب، كلما نتوغل جنوبا إلا وتكثر ملامح الفقر والتهميش وقلة الفرص حتى الأرض يتبدل لونه...ماعدا أشجار الزيتون التي لم تفارقنا منذ خروج الحافلة من العاصمة...مررنا بمدينة القيروان وشعرت بألم باطني حاد، تذكرت صفحات من تاريخ هذه المدينة الامازيغية العظيمة، تاريخ انتقم منه التاريخ نفسه، بحكم حتمية السيرورة، وعجلة الزمن الغدار المدمر... تذكرت الفاطميين وعقابهم القاهر الذي أرسلوه من القاهرة،،،عقاب أزلي مازلنا نؤدي تكلفته الباهظة جدا إلى اليوم، وكل يوم تزداد قساوته ومرارته...هنا عرفت أنني أحمل معي عقدة "العصر الوسيط" كما يقول المؤرخ "جاك لوكوف".... وصلنا مدينة "مَدْنين"، وركبنا وسيلة نقل تسمى هنا "اللواج"، الذي عَبَر بنا إلى الجزيرة الامازيغية الجميلة الفاتنة، لؤلؤة خضراء وسط مياه زرقاء هادئة، تحيط بها من كل الجهات. ربما هذه الحدود المائية المتوسطية ساعدتها لكي تحتفظ باللغة الامازيغية وجعلتها تقاوم، تكافح من أجل البقاء، لسان محصن بالماء " وجعلنا منه كل شيئ حيا"....نزلنا والليل أرخى سدوله بقرية تدعى "سيدوكش" ومنها أتممنا السير برفقة بعض الأصدقاء إلى "أجيم" إحدى القرى الصغيرة بالجزيرة... خلال أربعة أيام، قمنا فيها بتصوير فقرات من المهرجان الثقافي الامازيغي بمدينة "قلالة" بجربة، (هرمنا من أجل سماع هكذا، مهرجان الامازيغية في تونس) عاصمة الفخار- إدقي- ومنها اشتق اسم قلالة، إقلالن...بعد الثورة وهروب بنعلي، استعادت الامازيغية هنا توهجها، كلغة وثقافة ورموز وسلوك... جربة؛ هي المنطقة الوحيدة التي يمكن اعتبارها النسخة الأصل لتونس، وجود المذهب الاباضي وصموده، استمرار اليهود في العيش والبقاء في وطنهم بمدينة "حومة السوق"، تحدث الناس بالامازيغية في الداخل والخارج...هي كلها ملامح تونس الأولى....افريقية قبل الزحف البدوي، الجارف، الكاسح... من جربة اتجهنا نحو الجنوب الشرقي، إلى ولاية "تيطاوين"، منطقة صحراوية بامتياز، جافة وغير مؤنسة، "تيطاوين" لم يتبق منها إلا الاسم، تضم بعض الأسر النازحة من الحزام الواحي الفقير، ولكنها تعربت بالكامل. اتجهنا إلى منطقة تسمى "الدويرات"، تعريب لكلمة -تادرات- وهي قرية توجد في قمة جبل، على شكل ما يعرف في الجنوب المغربي ب-ايكودار-. المنازل عبارة عن مغارات داخل الصخور، تم تنقيل السكان إلى منطقة غير بعيدة في السهل، وبقي الدوار عبارة عن مأوى سياحي تسيره جمعية من النخب والكوادر التي هاجرت إلى تونس العاصمة، أسسوا جمعية في قريتهم الأصلية، في السنوات الماضية، ووضعوا على رأس أهدافها الحفاظ على البيئة، البيئة فقط دون سواها.... الناس هنا مازالوا يتحدثون الامازيغية ولكن عددهم قليل جدا، شدة التهميش والإقصاء أرغمت العديد من الأسر إلى الهجرة...عدنا إلى مدينة "مدنين"...وفي الصباح انتقلنا إلى مدينة "مطماطة"، قبل الوصول إليها، مررنا على مجموعة من القرى، تبدو أنها أمازيغية في البنيان والملامح ولكنها عروبية اللسان، هي قرى تعربت في المراحل الأخيرة خاصة في القرن العشرين، أهم هذه القرى، "تُوجَان" قرية جبلية جميلة، تحدثنا إلى بعض سكانها، يعرفون أن أصلهم أمازيغ ولكن لا يتحدثون بها...للأسف. جولة قصيرة بمدينة "مطماطة"، أدت بنا إلى فندق "المرحلة"، بيوته عبارة عن مغارات تحت الأرض، كانت منازل فيما قبل، وتحولت إلى فندق سياحي، هادئ، ونظيف، يظهر أن جل زبنائه من السياح الأجانب، وحسب مسير الفندق، فإن الثورة ضربت كثيرا اقتصاد الجنوب الهش أصلا، الذي ينتعش فقط من السياحة، " أنتم المغاربة، الرابحون في ثورة تونس ومصر، كل السياح يأتون إليكم ، مستقبل السياحة في تونس غامض". بعض الشباب هنا خاصة الذين يرافقون السياح، ما أن يعرفون من طريقة كلامنا أننا مغاربة، يسألوننا عن شيئ واحد وهو، "الحشيش"، يسمونها "الزطلة"، يتمنون لو كانت تونس تزرع تلك النبتة السحرية... انتقلنا إلى مدينة "زراوة" وهي تعريب لكلمة "أزرو"، منطقة يسكنها الامازيغ في الجبل منذ قرون عديدة، قام "بوركيبة" بإلزامهم وإرغامهم على النزوح والاستقرار في السهل، وأسس مدينة سماها "زراوة"، واستقدم قبائل بدوية واستوطنها لتعريب سكان الجبال، فهي مدينة صغيرة، ميتة وفقيرة، لا تحمل في التمدن إلا الاسم، دخلنا إليها في منتصف النهار، وصادفنا جوا حارا وعواصف جافة، وعرفتُ أنها مدينة الشؤم. بالرغم من ذلك فالسكان مازالوا يتحدثون بالامازيغية، خاصة الكبار منهم، "زراوة" هي عبارة عن منفى دائم، أجبر نظام "بوركيبة" السكان للاستقرار فيها، وفرض على الذين رفضوا النزول وترك ممتلكاتهم الغرامات والمتابعات في المحاكم، هي سياسية "أبارطيدية" مقيتة بامتياز، نهجها بوركيبة ونظامه البئيس، كان يعتبر الامازيغية جهل وتخلف...بعد الثورة سارع بعض من الشباب المتعلم إلى تأسيس جمعيات أمازيغية ثقافية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، استجوب البرنامج البعض منهم، ويستحقون كل التقدير والتشجيع... "تامزرط"، قرية أمازيغية توجد على الطريق الذي يربط "مطماطة" بالواحات الجنوبيةالتونسية، هي طريق رئيسية سياحية مهمة، على عكس "زراوة" التي تقع في منطقة بعيدة وهامشية. عدد كبير من السياح يمرون يوميا على "تامزرط"، لذلك فهي تعرف دينامية جمعوية واجتماعية... بهذه القرية يوجد متحف يحمل اسم "المتحف الامازيغي" le musée Berbère يملكه السيد "مونجي بوراس"، رجل لطيف وشجاع، ولد بتونس العاصمة ودرس بها، في وقت ما عاد إلى دوار والده، وقام بتأسيس هذا المتحف الامازيغي الذي يعتبر مشروعا سياحيا مهما، استغرق وقتا طويلا في جمع وترتيب كل محتوياته النفيسة، من ملابس وحلي وأدوات منزلية. متحف يضم العديد من التقاليد التي اندثرت أو على وشك الانمحاء، من طقوس الزواج وغيرها... "مونجي بوراس" تزوج إحدى بنات القرية وأنجبا طفلين أحدهما يحمل اسما أمازيغيا، -المزداد بعد الثورة طبعا-، ولم يعد يزور تونس العاصمة إلا ناذرا، يملك ثقافة واسعة ومعطيات مهمة عن الحضارة الامازيغية وأسرارها. أصبح متحفه مزارا ثقافيا وحضاريا وتاريخيا، يزوره السياح وكل زوار "تامزرط"... مونجي حكا لنا قصة مثيرة وقعت له وشكلت له منعطفا حاسما كشف من خلاله وعيه بالذات، نحكيها باختصار شديد. في سنة 1994 "مونجي بوراس" انتقل إلى الدارالبيضاء، ونزل في فندق بوسط المدينة، وبعد حجز الغرفة في الفندق، طلب مونجي من الاستقبال استغلال الهاتف من أجل الاتصال بوالده والاطمئنان عليه، على أن يؤدي ثمن المكالمة. تحدث مع عائلته التي تقطن في تونس العاصمة منذ الخمسينيات، وسمعه العامل في الفندق الذي كان واقفا بجانبه. حين انتهى من المكالمة، سأله ذلك الشاب هل تتحدثون الامازيغية في تونس؟ أجابه "نعم ألم تسمعني، إنني تكلمت مع والدي بالامازيغية" . إذن أنت أمازيغي؟ نعم. هل يوجد الامازيغ في تونس؟ نعم. لم يصدق المغربي ما يقوله زبونه التونسي، لأول مرة يكتشف أمازيغي مغربي من سوس وجود الامازيغ في تونس... وشرح له "مونجي" أن جل سكان تونس العاصمة أغلبهم من الجنوبالتونسي، يشتغلون في التجارة بالخصوص، يتحدثون الامازيغية في البيوت ولكنها ممنوعة في الشوارع والإدارات وباقي الفضاءات العمومية.... بعد أربعة أيام قضاها "مونجي" في البيضاء اشتد المرض على والده واضطر العودة إلى تونس، وكانت مفاجئته كبيرة حين أراد أداء فاتورة الإقامة والهاتف، أن الشاب الذي يشتغل في الفندق رفض أن يتسلم منه درهما واحدا، باعتباره أمازيغي من تونس وهو كذلك من المغرب بسوس...ربما العامل في الفندق تأثر بما سمعه من "مونجي" حول معاناة أمازيغ جنوبتونس في العاصمة، ونفس الشعور والإحساس الذي يعيشه امازيغ سوس في البيضاء... رجع "مونجي" إلى تونس، وتعلقت في ذهنه " واقعة الفندق" مع الامازيغي المغربي... وشكل ذلك بالنسبة إليه إحساسا كبيرا ومهما بالانتماء، وتفطن "مونجي" مبكرا بالهوية الامازيغية كرابط ثقافي واجتماعي يشمل كافة بلدان شمال إفريقيا، بالرغم من الهزات، والهزات، فإنها مستمرة في المقاومة، المقاومة من اجل الوجود.... وحمل "مونجي" على عاتقه همَّ مواصلة النضال من أجل الامازيغية، من أجل اللغة والهوية التونسية...من هناك، عاد إلى قريته الأصلية وأنشأ متحفه الامازيغي ليعرف الناس والسياح على هذه الحضارة والثقافة العريقة... 10 أيام قضيناها في الجنوبالتونسي، قطعنا فيها بلد الزيتون طولا وعرضا، وغنمنا حلقتان من البرنامج حول الامازيغية في تونس، الأولى بجزيرة "جربة"، والثانية حول "تامزرط" و "زوارة" و"تاوجوت".....وهو عمل وثائقي مهم للغاية مهداة إلى كل من يناضل ويحمل شعلة الهوية الامازيغية بتونس....زهرة تامزغا....