لعل الدرس الباصم الذي سيخرج به كل متتبع نبيه لمعركة الانتخابات الجماعية والجهوية التي عرفها المغرب بحر هذا الشهر الجاري، وما تلاها من تشكيل المجالس، وما عرفه هذا الخضم المتسارع والمتصارع بين مختلف التشكيلات الحزبية، والأيقونات السياسية، الممثلة لمختلف التوجهات الفكرية والأيديولوجية والقبلية، من تحالفات، ومناوشات، وتنازلات، وولادات قيصرية وأخرى غير طبيعية؛ هو "درس المقعد" !. ففي الوقت الذي ظل فيه نُشَّاد المقاعد، وحراس المناصب، يستبلدون عقول المغاربة، ويضحكون على ذكائهم، حينما كانوا يدَّعون زهدهم "الجُنَيْدِي" في مقاعد السلطة، ومناصب الجماعات والجهات والأقاليم، ويوهمون الناس أنهم جاؤوا لخدمتهم، والسهر على أمنهم وراحتهم، وصَدَّقَهم بعض المغفلين، وانبرى آخرون يمنون أنفسهم ببزوغ عهد جديد من الشفافية، والرقي، والعدالة الاجتماعية، مستدلين بالقطيعة التي سجلتها السلطة مع أساليب العهد البائد، حينما كانت تتحكم في أصوات الناس، وتختار لهم من يحكمونه وفق أجندات سطرتها بإحكام، عبر تزوير الإرادات، والأصوات، والصناديق،...وبالهَبَّات التي عرفتها الحملات الانتخابية من مختلف الشرائح الاجتماعية، والتجاوب المنقطع النظير مع "خطاب الأخلاق" الذي عزفت عليه مختلف الأحزاب السياسية؛ إسلامية، ويسارية، وليبرالية. حتى حول البرامج إلى نسخ متشابهة، والوعود إلى "كاتالوجات" موحدة؛ الكل يجمع على محاربة الفساد والاستبداد، والكل يخاطب المواطنيين والمواطنات، بالأحباب، والإخوان، والأخوات، و"خوتي" و"خواتاتي"، والكل يركب ظهر الخصوم، ويسجل الأهداف في مرماهم؛ بكشف المستور، وفضح المخبوء،... والمواطن، وحده، يتابع هذه المهزلة، ويتتبع الشائعات، ويحاول أن يقنع نفسه بأن يكون مواطنا صالحا كما دعاه كبراؤه أن يكون؛ ليختار في الأخير، وتظهر النتائج، وتُطوى صفحته، وينتهي دوره، ليبدأ دور "الكائنات الانتخابية"، في تقسيم كعكة المقاعد، بين الجهات والأقاليم والمحليات. في حين يتحول هو، من قلب المسرحية، إلى المدرجات. بعد أن شارك في فعالياتها ك"كومبارس" هزلي؛ يخاطبه الزعيمُ، فيَدْعَنُ، ويطيع. والآن يتحول إلى مجرد متفرج على مرحلة الحسم في القيادة الحقيقية التي ستحكمه، والتي لا يَدَ له فيها، ولا قدرة له على مناقشتها، فضلا عن اختيارها. لكن الجميل في هذه المرحلة التالية، هي تحول الكائنات الوديعة التي كانت تجوب الشوارع والأزقة والمداشر والحارات، ب"تيشورطات"، وأقمصة صيفية، و"كاسكيتات"، بعد أن تخلصت من ربطات العنق، والبدلات الأوروبية، والنظارات الشمسية السوداء التي كانت تُخفي خلفها خبث عيونها من النظرات "المُتَفَرِّسة" للكادحين والكادحات من هذا الشعب؛ إلى كائنات من عالم آخر.. كائنات تحولت إلى مدمرات لا تبقي ولا تذر.. كائنات تحولت معها المجالس والاجتماعات إلى حلبات في فنون الحرب، ومعارض في السب والشتم والقذف،.. كل هذا من أجل عيون المقعد !. لكن الذي أثار فضولنا السياسي، واستفز قناعاتنا الدينية، هو سقوط بعض المحسوبين على الصف الإسلامي، في فخ المقاعد، وتحولهم إلى كائنات تصارع من أجل الظفر بأكبر قدر منها، والمقاتلة دون ذلك، ليس في خضم التحالفات، والترضيات التي عرفتها أغلب المجالس والمكاتب، والتي انتظمت الحلفاء كما الخصوم السياسيين، والذي نعتبره طبيعيا وعاديا أن يحدث نظيره في خضم الصراع الديمقراطي، ولكن من داخل الصف الواحد، والبيت الحزبي الواحد. وهذا هو المثير والمستفز !. ولئن كان طبيعيا أن نسمع عن هكذا صراعات ومناوشات، من أجل توزيع كعكة المقاعد، من داخل الأحزاب الليبرلية، واليسارية، والتي تنتهي-غالبا- بوقوع انشقاقات، وخروج تيارات، وتفريخات، وهو تاريخ لا ينكره إلا مُكابِر؛ فإن الذي لا نعتبره عاديا، أن يحدث هذا عند من يستند إلى مرجعية تجعل الزهد في المنصب السياسي، وفي مقعد المسؤولية، دينا يتحرَّى به صاحبه الخلاص في الدنيا والآخرة، وتَعتبِر طلبه والحرص عليه، منافيا لنهج الرسول –صلى الله عليه وسلم- الذي ينصح بعدم الحرص على الإمارة وطلبها (الترشح لها بلغة العصر)؛ فقد جاء في حديثه (ص):" لاَ تَسْأَلِ الإِمَارَةَ، فَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا»(رواه البخاري)، حتى كان بعض علماء السلف الصالح يفرون من المسؤولية حينما كانت تفرض عليه، ومنهم من تعرض للاعتقال والتعذيب، وظل متمسكا برفضه، مخافة أن تزِلَّ قدمه فيظلم الناس، فتنقلب عليه خزيا وندامة يوم القيامة؛ قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم- :" الإمارة أمانة وهي يوم القيامة خزي وندامة إلا من أمر بحق وأدى بالحق عليه فيها " (المستدرك للحاكم). فما الذي حول هؤلاء المحسوبين على الصف الإسلامي، الذين اخْتِيروا ولم يَختاروا، إلى كائنات تختار، بل وتحرص على الاختيار، حتى سمعنا من لم يقنع بمقعد رئاسة المحلية، بل نافس إخوانه على الإقليم والجهة، فضلا عن مهامه الوزارية أوالبرلمانية أو المهنية ، بل بلغ به جشعه في الحصول على المقعد في حضن المكتب المسير إلى التحالف مع من ظل يَسِمُهم بالمفسدين و"المافيوزيين"، وتجار الممنوعات. بل منهم من "نجح" في إضافة المقاعد الثلاث(المحلي والإقليمي والجهوي) إلى مسؤولياته السامية، ولا زالت عيناه شاخصتان للمزيد من المقاعد والمسؤوليات، وكأنه لا يبالي بتبعات هذا المسار على مصيره يوم العرض بين يدي مولاه، إن لم يعدل فيها، ولن يعدل فيها ولو حرص. كيف؟ وهي مسؤوليات لا مسؤولية واحدة !!؟. ألم يستفد من جلسات المأثورات، ومواعظ الرقاق، وعقيدة اليوم الآخر، حينما كانت تجمعنا "الليالي الأرقمية"، وكنا نستعرض حال المسؤولين؛ فنشفق عليهم، ونستعرض أحاديث الولاية، والإمارة؛ فترتعد منا الفرائص، وتوجل القلوب؛ حتى ينقلب إلى وحش جسور، يزاحم إخوانه على "الأمانة" التي أبت السماوات والأرض أن يحملنها، ويسألها هو، بل ويربط بقاءه في الحزب والتنظيم بالحصول عليها، سيرا على النهج الخائب لمن لا دين لهم ولا عقيدة؟؟ ألم يسمع تحذير الرسول –صلى الله عليه وسلم- من التكالب على الدنيا، التي تنافس عليها بنو إسرائيل حتى أهلكتهم، حينما قال:" ... ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم، كما أهلكتهم"؟؟ ! ألم يسمع لقول الرسول –صلى الله عليه وسلم- وهو يربط نجاة المسؤول يوم القيامة بالعدل في العشرة من عباد الله حينما قال: "ما من رجل يلي أمر عشرة فما فوق ذلك إلا أتى الله مغلولا يوم القيامة يده إلى عنقه، فكَّه بِرٌّه أو أَوْثَقَه إثمُه. أوَّلُها ملامة، وأوسطها ندامة، وآخرها خزي يوم القيامة". (رواه أحمد وصححه الالباني). فكيف به وهو يحرص على تولي أمر الآلاف من عباد الله، وهو غير ضامن للعدل بينهم مهما بلغت كفاءته ونزاهته إلا أن يتغمده الله بعون من عنده. ولا يقولَنَّ قائلٌ: هذه -وأيم الله- عَدَمِيَّة ما بعدها عدمية. كيف تريد لهذا البلد أن تسير، إذا اقتنع العالم بما تقول، وانسحب الناس من الحكم خوفا على مصيرهم بين يدي الله يوم القيامة؟ !!. لأنَّا نقول: ليس مقصودنا – أبدا- أن نُزَهِّد الناس في الحكم، وإلا لَاعْتَرضنا على إنشاء الأحزاب ابتداء، واعتبرنا ذلك من باب أولى، ما دامت غاية هذه التنشئة هو الوصول للحكم، وليس لأمر آخر. وهذا مما لا نقول به، ولا نعتقد بصوابه. ولكن مقصودنا أن نوجه خطابا "جوانيا" إلى الأنفس الحريصة على المناصب، والمقاعد، والمنصات،...أن ترعَوِيَ و تراجع نفسها، وترضى بما اخْتِير لها، وتكتفي من المسؤولية بما تطيق، عسى الله، إِنْ أُعْطِيَتْها بغير مسألة، أن يُعينَها عليها. فيكفي من القلادة- كما يقال- ما أحاط بالعنق.. !. ثم إن تاريخنا زاخر بمن تولَّواْ المسؤوليات من العلماء، والثقات، والصالحين، ولم ينكر عليهم أحد صنيعهم، بل كان أغلبهم نماذج ناجحة في تحقيق العدل والمساواة والكرامة الإنسانية لعباد الله، كما كانوا نماذج في الزهد في الدنيا وفيما عند الناس، وخرجوا من الدنيا، بعد أن حققوا العدل ونشروا الخير؛ شرفاءَ، كرماءَ، ذِكْرهم على كل لسان، وشُكْرهم تواطأت عليه الأجيال. كما عرف- في المقابل- نماذج خائبة لحكام وأمراء ومسؤولين، شَرَدُوا عن نهج الله في الإمارة والحكم، فظلموا بالحكم، وسودت أفعالهم الدولَ والإماراتِ، حتى سارت بذكر مظالمهم الأجيال تلو الأجيال..سواء بسواء !!. فاحرصوا-أيها الكرام- أن تقتدوا بالأوائل، ولا تتحملوا من المسؤوليات إلا ما تطيقون، عسى ألا تزل اقدامكم، وتستهويكم حلاوة المناصب، فتستعصوا على الفِطام، يوم يَحِينُ تسليم المهام؛ "فنعم المرضعة وبئست الفاطمة"(1)!!. وصدق من قال: وتلك الأيام نداولها بين الناس فلا تغرَّنك الحياة بنعماء تلهيك كل نعماء تزول بضر وبأس وما تخفي الأيام من الشدائد يأتيك وتواضع إن التواضع خير لباس ولا تفخر بما لم تصنعه أياديك تواضع فكل مجدٍ يعقبه إفلاس ولو دامت لغيرك ما وصلت إليك دمتم على وطن.. !! صالح أيت خزانة ************* (1) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ عَلَى الْإِمَارَةِ، وَسَتَكُونُ نَدَامَةً يَوْمَ القِيَامَةِ، فَنِعْمَ المُرْضِعَةُ، وَبِئْسَتِ الفَاطِمَةُ». رواه البخاري. جاء في كتاب "فتح الباري شرح صحيح البخاري": (نعم الْمُرْضِعَةُ: لِمَا فِيهَا مِنْ حُصُولِ الْجَاهِ وَالْمَالِ وَنَفَاذِ الْكَلِمَةِ وَتَحْصِيلِ اللَّذَّاتِ الْحِسِّيَّةِ وَالْوَهْمِيَّة، حَالَ حُصُولِهَا. وَبِئْسَتِ الْفَاطِمَةُ: عِنْدَ الِانْفِصَالِ عَنْهَا بِمَوْتٍ أَوْ غَيْرِهِ وَمَا يَتَرَتَّب عَلَيْهَا من التَّبِعَاتُ فِي الْآخِرَةِ) [13/126].