سمع الجميع الوزير الأول ووزير المالية ينصحان بقية الوزراء بتخفيض النفقات العمومية، بالاقتصاد في استعمال سيارات الخدمة، والتقشف في تعويضات السفر والرحلات، وإلغاء الحفلات التي تصرف عليها ميزانيات الأكل والشراب بدون فائدة تذكر، اللهم تلك «الفوائد» التي تجنيها شركات المناولة التي يؤسسها مقربون من دواوين بعض الوزراء ويبرمون معها العقود المجزية عملا بمقولة «خيرنا ما يديه غيرنا». فالميزانية المقبلة ستكون ميزانية «الزلط» الحكومي بامتياز. فبعد أن أخرجت الشركات الأجنبية أرباحها الأسطورية من المغرب وتركت بنك المغرب على «الحديدة»، وبعد أن «أكل» صندوق الموازنة ميزانيته المخصصة للسنة المقبلة، وبعد أن باعت الدولة كل «مجوهراتها» ولم يتبق لها في دولاب ثيابها سوى «خردة» اسمها «لارام» و«دوزيم» وبعض المؤسسات التي لن ينبح عليها حتى «بوبي» بسبب إفلاسها المعلن، ها نحن نرى كيف استفاق وزير المالية، الذي يقود خلية للتفكير تعاني من أعراض الباركنسون، من أحلام النمو اللذيذة التي ظلت تسبح في رذاذها الطبقة السياسية بعد أن اكتشف أن الماء وصل إلى ركبتيه وأن أحلام نسب النمو المنشودة أغرقتها كوابيس نسب التضخم والعجز المالي. لكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: هل تكفي مطالبة الوزراء بالتخفيف من نفقات وزاراتهم لكي يستطيع وزير المالية إخراج ميزانية متوازنة يخلص بها المغرب من عنق الزجاجة؟ نطرح هذا السؤال لأن هناك ما هو أفظع من نفقات الوزراء على السفريات وتعويضاتها، والسيارات وبنزينها والحفلات وحلوياتها. عندما كتبنا في هذا العمود خلال رمضان الماضي حول إنهاء وزير الشغل، الاتحادي جمال أغماني، لفيلته الثانية في الهرهورة بعد فيلته الأولى في طريق زعير، وتزامن ذلك مع بناء مقر الوزارة الجديد، نشر سعادة الوزير ردا في جريدته الحزبية وعلى موقع «هيس بوليس»، عفوا «هيسبريس»، يشرح فيه ظروف تشييده لفيلته الجديدة، دون أن يفوت فرصة دعوتنا إلى تناول الإفطار عنده لتمتين أواصر الأخوة والصداقة. ونحن هنا لا يسعنا سوى أن نشكر الوزير على دعوته الكريمة، دون أن يفوتنا تذكيره بأن ذلك لن يمنعنا من الاستمرار في طرح الأسئلة حول الظروف التي يتم فيها إسناد الصفقات المجزية إلى الشركات المتعاملة مع وزارته والتي «يلعب» فيها أحد أذرعه اليمنى في ديوانه دورا أساسيا. الجميع تقريبا يعرف أسماء الوزراء، لكن قلة قليلة تعرف من يكون نائب الوزير الحقيقي. إنه مكاتب الدراسات. وهذه المكاتب، التي توجد في ملكية الفرنسيين على الخصوص، تلهف سنويا ميزانيات بالملايير تغادر المغرب بالعملة الصعبة. وبما أن السيد جمال أغماني يحب التواصل مع الصحافة عبر بيانات الحقيقة، فإننا نطلب منه أن ينورنا في موضوع مكتب للدراسات اسمه «كويفيسينس» يحتكر منذ عشر سنوات صفقات كتابة الدولة المكلفة بالتكوين المهني. نريد من سعادة الوزير أن يشرح لنا لماذا عندما حاول رئيس مصلحة بوزارة التشغيل ذات سنة أن يخرج عن هذه القاعدة «الخايبة» ومنح الصفقة لمكتب دراسات آخر أقل سعرا من مكتب «كويفيسينس» وأكثر حنكة منه، استدعى سعادة الوزير هذا الموظف ونقله من مديريته الأصلية إلى مديرية التواصل. وتم خلق جميع العراقيل أمام المكتب الذي فاز بالصفقة حتى يتراجع في السنة الموالية عن تقديم ترشيحه. وفعلا نجحت الخطة، ومنذ 2007 عادت ريما إلى عادتها القديمة واستطاع مكتب الدراسات المحظوظ أن يسترد صفقاته المجزية مع الوزارة وكتابة الدولة المكلفة بالتكوين بقيادة الحسن بنموسى. ولا يبدو أن سعادة الوزير ولا بنموسى أبديا انزعاجا بسبب تكرار حصول هذا المكتب على صفقات وزارة الشغل بانتظام، خصوصا وأن المكتب لا يتوفر على الموارد البشرية الكافية لإنجاز جميع الصفقات داخل الآجال المتفق عليها. لكن لماذا سيحمل المكتب المحظوظ هما للآجال القانونية المتفق عليها، مادامت الوزارة «تتفهم» جيدا إمكانياته، ولذلك فسعادة الوزير يعطيه كل الوقت الذي يحتاجه لإنجاز المطلوب، كما يضع رهن إشارته المؤهلات البشرية التي توجد في الوزارة، مثلما حدث مع صفقة «تكوين المكونين» لسنة 2007. وقد أصبح هذا المكتب مرجعا بالنسبة إلى وزارة التشغيل إلى الحد الذي أصبح يضع طابعه على الشهادات التي تمنحها الوزارة لمدراء المؤسسات الخاصة عوض طابع الوزارة وكتابة الدولة المكلفة بالتكوين المهني. وسنويا يفوز المكتب المحظوظ بصفقتين مع وزارة الشغل، قيمة كل واحدة منهما تتجاوز 300 مليون سنتيم. والعمل الأساسي لهذا المكتب هو القيام بدراسات محاسبة للمؤسسات الخاصة ومؤسسات التكوين المهني تقتصر فقط على إحصاء عدد الساعات التي يعملها أساتذة المعاهد التي يصل عددها إلى 240 معهدا عوض الانكباب على الجانب الإداري والبيداغوجي لمعاهد التكوين المهني. المشكلة أن الموظفين الذين يعتمد عليهم هذا المكتب يشتغل جلهم كأساتذة وموظفين في الجامعات، مما يفقد المكتب مبدأ الاستقلالية والحياد المفروض توفره في المراقبين والمحاسبين، خصوصا وأن المكتب يحتكر صفقات جانبية مرتبطة بكتابة الدولة في التكوين المهني، كصفقة تكوين المكونين، وصفقة تكوين المدراء، وصفقة تقييم البرامج، وصفقة وضع البرامج، وصفقات أخرى تتم فوترتها على حساب الوزارة بمئات الملايين. ويكفي أن يعود السيد بنموسى إلى أرشيفه لكي يراجع توقيعات وتقارير الموظفين الذين يشتغلون مع مكتب الدراسات المحظوظ لكي يكتشف أن أحدهم أستاذ جامعي يقضي من وقته في مكتب «كويفيسينس» أكثر مما يقضيه في مكتبه بجامعة أكدال، وآخر أستاذ من تازة لا علاقة له بالتكوين المستمر، وثالث موظف في معهد الزراعة والبيطرة. السيد بنموسى لن يقول لنا شيئا حول ظروف اشتغاله مع هذا المكتب بالضبط، كما لن يقول لنا شيئا حول علاقة كل هذا بأخيه الذي يملك شبكة من المدارس الخاصة للتكوين المهني تحت اسم «ميلتيكسا»، تستفيد من منح للدعم من التعاون الدولي. وحكاية ميزانيات برنامج التعاون الدولي بالمغرب حكاية ذات «سجون» عفوا ذات شجون، فأغلب هذه البرامج تصل ميزانياتها إلى الملايير، خصوصا برنامجي «ميدا واحد» و«ميدا اثنين» وبرنامج «الملينيوم تشالانج»، ولذلك فلا غرابة أن يسيل حولها لعاب كثير، خصوصا وأن أعين الإعلام والبرلمان غير «مسلطة» عليها بما يكفي بسبب غياب المعلومات. لذلك فإذا كانت هناك نية حقيقية لدى وزير المالية لترشيد النفقات العمومية للوزارات، فإن أول شيء عليه القيام به هو مراقبة الطريقة التي تفوت بها أغلب الوزارات صفقاتها إلى مكاتب دراسات بعينها وبصفة منتظمة. نعرف أن سعادة وزير المالية لن يغامر بوضع قدميه فوق هذا الملعب الملغوم، لأن أخاه بدوره يوجد على رأس مكتب دراسات يحظى بصفقات مؤسسة الضمان الاجتماعي التابعة بدورها لوزارة الشغل. لكننا نجد أنه من الضروري في هذه الأزمنة الصعبة، التي كثر فيها الحديث عن ترشيد النفقات العمومية، أن نثير انتباه سعادة وزير المالية إلى وجود «بزبوز» كبير في صناديق ميزانيات الوزارات تتسرب منه مئات الملايين سنويا لصالح مكاتب دراسات تفوز بصفقات برامج يستطيع أطر الوزارات القيام بها على أحسن وجه لو أعطيت لهم الإمكانيات والتشجيع اللازم. مشكلة بعض الوزراء أنهم يقفون عاجزين أمام شهية بعض مكاتب الدراسات المفتوحة للصفقات، خصوصا عندما تكون المجالس الإدارية لهذه المكاتب مكونة من بعض الشخصيات النافذة التي لا يرد لها طلب. فقد اكتشف بعض المسؤولين أن أحسن طريقة للاغتناء السريع هي تأسيس مكتب دراسات، أو فتح فروع في المغرب لمكاتب دراسات عالمية ووضع أسماء نكرة في الواجهة، والسعي بكل الوسائل إلى الحصول على صفقات لدى الوزارات والمؤسسات العمومية تقدر بمئات الملايين. ولعل أبرز مثال على الأرباح الخيالية التي تجنيها مكاتب الدراسات بفضل شراكاتها مع الوزارات والمؤسسات العمومية، ذلك المبلغ الخرافي الذي جناه مكتب تحول، في ظرف خمس سنوات، إلى أول مكتب دراسات في المغرب، وهو «فاليانس»، الذي وصلت أرباحه ما بين جوان 2008 وجوان 2009 إلى ثمانية ملايير ونصف المليار سنتيم. وعندما نبحث عن الصفقات التي أبرمها هذا المكتب، نكاد نعثر على كل الوزارات. فقد حصل المكتب على صفقتي «إقلاع1» و«إقلاع 2» اللتين أطلقهما وزير التجارة والصناعة، وحصل على صفقتي «رؤية 2010» و«رؤية 2020» اللتين أطلقتهما وزارة السياحة، وحصل على صفقات مع وزارة الطاقة والمعادن، كما حصل على صفقات أغلب المناطق الصناعية وصفقات مؤتمرات وصالونات الصناعة، وصفقات إعادة هيكلة الشركات العمومية والدراسات المرتبطة بها، مثل الدراسة التي أعدها مكتب «فاليانس» لفائدة المركز السينمائي المغربي حول وضعية القاعات السينمائية، وهي الدراسة التي كشفنا حينها أنها كلفت المركز 200 مليون سنتيم ولم يتجرأ الصايل على نشر نتائجها على العموم. هناك، إذن، حاجة ماسة اليوم إلى مراقبة وزارة المالية لكل هذه الأموال التي تصرف لحسابات مكاتب الدراسات المغربية والأجنبية. وسيرى وزير المالية كم من الملايير سيوفر لخزينة الدولة ولبنك المغرب إذا ما نجح في «تزيار» هذا «البزبوز د النحاس» الذي «يكب الفلوس بلا قياس».