الحمد لله وحده والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وبعد: تكلمنا في الجزء الأول من هذه الخواطر عن لون من الهزائم التي خلدها شهر رمضان خسر فيها المشركون أمام ثلة من المجاهدين الصائمين بفضل تظافر أسباب عدة اشرنا غالى بعضها سابقا . ونشير في هذا الجزء إلى أن هنالك خسارة أخرى لا تقل فداحة وأهمية من هزيمة المشركين أو الصليبين وغيرهم في ميادين الغزوات و الفتوحات الإسلامية،ألا وهي هزيمة النفس والشيطان،لاسيما وان رمضان هو شهر المجاهدة بامتياز وشهر الانتصارات الكبرى على الشهوات والنزوات . وقد أسلفنا كيف أن الشيطان فر ونأى بنفسه بعيدا لعلمه بخطورة الموقف وتوقعه سلفا بما ستؤول إليه غزوة بدر وغيرها ،فقد كان يتوقع هزيمة المشركين لخبرته التاريخية الطويلة مع هذه النوازل. قال تعالى في وصف ذلك: (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس واني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب )سورة الأنفال الاية 49. إذن في بدر وقعت هزيمة أخرى وهي هزيمة الشيطان وخذلانه لأوليائه ،وقد قرر الله تعالى بان كيده كان دوما ضعيفا وانه إنما يخوف أولياءه ، قال تعالى:(وقاتلوا أولياء الشيطان إن كيده كان ضعيفا ) النساء 76 . وقال :" إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين" آل عمران( 175 ) . وللإنسان مع الشيطان معارك وجولات دائمة يخسرها الكافر دوما إذا خضع لإرادته، بينما الرابح فيها دائما هو المؤمن المخلص في عبادة ربه إذ لا سبيل للشيطان إليه ما دام معتصما بحبل ربه ، ومتمسكا بهديه، قال تعالى:" إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين ) الحجر42 ، وفال :إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ" سورة النحل 99 . وقال في مخلصا عباده منه: ( إلا عبادك منهم المخلصين ) ص الاية 83. وأما الوجه الآخر من هزيمة بدر فهو هزيمة نفوس المؤمنين وتخلصها من قيود الخوف والإثخان إلى ملذات الحياة خاصة وان روح المجاهدة وحقيقتها ومعانيها كانت تملأ قلوبهم وتجعلها تقوى على الاستمرار في مسارات الجهاد لأعداء الله ،وفي مقامات التزكية والتقوى و الانقياد لطاعة الله. إن المؤمن يدرك أن جهاد النفس هو مقدمة كل جهاد آخر كما قال صلى الله عليه وسلم:(المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله ...)أخرجه احمد. وعن هذا المعنى يقول ابن رجب رحمه الله:(اعلم أن المؤمن يجتمع له في شهر رمضان جهادان:جهاد لنفسه بالنهار على الصيام ،وجهاد بالليل على القيام، فمن جمع هذين الجهادين ووفى بحقوقهما وصبر عليهما،وفي أجره بغير حساب) روح الصيام ص:111 نقلا عن كتاب وظائف رمضان لابن رجب. وفي العشر الأواخر من رمضان يبرز معنى الانتصار على النفس إذا اجتهد الصائم في اغتنام الثلث الأخير منه ، كما كان رسول الله يصنع،فقد كان يجتهد في العشر الأواخر من رمضان ما لا يجتهد في غيره)رواه البخاري وما هذا الاجتهاد إلا مجاهدة للنفس ، (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا). فإذا ظل المسلم مجاريا لنفسه ،غافلا عن رسالته ، متهاونا عن إحياء واجباته ، ومستمرا في مألوفاته وشهواته، فقد صار ضحية من ضحايا النفس والشيطان في هذا الشهر. ونسال الله النصر والهداية والرشاد . آمين والحمد لله رب العالمين.