الغش، أو "انقيل"، أو التزوير، أو "انفايل"، أو الارتشاء، ... كلها عبارات تصدر عن جذر مفهومي واحد تجذر في الحياة الاجتماعية والسياسية والتربوية المغربية منذ أن قطع المغاربة مع النزاهة والكفاءة والأهلية العلمية كشرط أساس في تقلد المناصب، والحصول على الوظائف. و الحديث عن الغش ليس وليد اللحظة التربوية الراهنة التي يمر منها جمهور التلاميذ والتلميذات، والطلبة والطالبات، والذي أثير حوله الكثير من اللغط، والنقاش، و تجاذب التهم والتلفيقات، كما افتعلت حوله مناوشات ومعارك بين صناع القرار التربوي، وراغبي زعزعة ثقة الناس في قيمة الشهادة المدرسية الوطنية بعد أن تحولت المعركة من مجرد تنبيهات، وإرشادات، و"تخويفات"،... من مغبة السقوط في "جريمة" الغش، إلى ظهور مقاومات مُمَانعة تدعو جهارا إلى "التطبيع مع الغش" عبر فتح "جبهة للغش" في وجه صناع القرار التربوي كوسيلة لإثبات الذات، وإرباك مسارات الإصلاح التي تبغي إعادة الاعتبار للمدرسة العمومية، ولشواهدها التي بدأت تفقد قيمتها العلمية فضلا عن قيمتها التربوية. إذ المتتبع لمسارات الغش عبر مساحات الحياة التعليمية خلال التاريخ المغربي الحديث، سيخلص إلى أن هذا الغول، الذي أطل بسلاحه الإليكتروني الجديد، في مواجهة سلاح المراقبة التقليدية الذي ما فتئت تتوسل به مؤسساتنا التعليمية لضمان النزاهة في الامتحانات، وتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص في تسليم شهادات الاستحقاق؛ ومن تم ضمان "مستقبل كفاءات" ينهض بسياسة المغاربة، واقتصادهم، وتعليمهم، وصحتهم،... ليس وليد اللحظة التاريخية التي يعيشها العالم مع التكنولوجيا الحديثة، والتي أبانت- أي التكنولوجيا- عن وجهها الآخر الذي يمثل الحد الثاني للسيف القاطع الذي لم ينتبه له الكثير من الناس، بل له امتداد في عمق تاريخ الممارسة التعليمية/التربوية منذ كان يشتغل واضعو سياستنا التعليمية على الحفاظ على الوضع الوضيع لتعليمنا العمومي كأحد الأدوات المحافظة على واقع سياسي واقتصادي وتعليمي واجتماعي كئيب وخائب، يتحكم فيه جماعة "اشلاهبية" والأميين وفاقدي الشرعية العِلمية، والكفاءة العَملية، من السياسيين، والاقتصاديين، والأساتذة، والمسؤولين الكبار من خريجي "مدرسة الغش" التي أسس لها من كانوا يراهنون على بقاء المغربي على أميته الأولى، وجهله المُركَّب، حتى تستمر المسرحية؛ طولا وعرضا، ويبقى وضعهم المريح على أريكة المسؤولية المنزهة من كل محاسبة، مادام الحساب لا يقوم به إلا من وعى أن ثمة أخطاءً يجب أن تصحح، وقراراتٍ ينبغي أن تنتقد، وتواجه !. لقد شكل خريجو "مدرسة الغش" صمام أمان وضع سياسي مهترئ حافظ على قدر لا بأس به من "القابلية" للسياسات اللاشعبية التي كان، ولا يزال، يضعها من سقطوا على كراسي المسؤولية- قسرا- بعد مسيرة من الانتقالات المغشوشة؛ بدأت بالامتهان الخبير لطرق الغش المختلفة عبر أسلاك المدرسة الوطنية، وانتهت بالولوج إلى مواقع القرار عبر ذات الطرق وإن كانت بأساليب تُفَارِقُ أساليب الورقة والقلم التقليدية (انفايل)، أو الكاميرات المثبتة في النظارات، أو الهاتف النقال، أو"الكيت"، أو خلق مواقع للتسريبات، وما شاكل، من وسائل الغش الحديثة. لقد أسس النظام الانتخابي البائد جمهورا كبيرا من هذه "الطائفة" التي كانت تتخرج من المدرسة الوطنية بأقل قدر من الزاد العلمي فضلا عن التربوي، ولكن بالكثير من البراعة في فنون الغش المختلفة. فأصبحنا نسمع عن طرق متقدمة في التزوير الانتخابي المؤسس من قبل صناع القرار لفائدة هذه "الطائفة" التي كانت تمر عبر امتحان الانتخابات المزورة بسلاسة ويسر عجيبيْن، ودون أي مجهود دعائي يذكر، اللهم العزم الصريح على الامتثال اللامشروط للسياسات العمومية القائمة، والحفاظ على الوضع القائم، والالتزام بالذود عن بقائه، ومواجهة كل القوى المناوئة والمُمَانِعة والناقمة،... لتُمَثِّلَ الأمة أو عليها –لا فرق !- تحت قبة البرلمان، في مسرحية دامت عقودا من الزمن، لم تبارح فيها النسب التِّسْعات المعلومة !!. فالغش بمختلف مظاهره وأشكاله متأصل في بنية المجتمع. ومحاربته لا يمكن أن تكون بقرارات زجرية متسرعة تقف عند حدود نزع القشور الظاهرة، والبقاء على اللُّب الخبيث الذي ينضح بفساده كلما استُدْعِيَ للإفساد، ولكن على المجتمع والدولة أن يعيدا النظر في السياسة المجتمعية برمتها، ويفكرا في التأسيس لمشروع مجتمعي يتأصل على أرضية تربوية قوية، تعيد الاعتبار ل"مكون الأخلاق" من خلال التمكين له في كل الأسلاك التعليمية، والميادين الاقتصادية، والسياسية، والثقافية، والإعلامية. وكذلك من خلال خلق مؤسسات ومراصد للنهوض به، ورد الاعتبار له تماما كما تُستنبت الهيئات والمراصد والمؤسسات التي تخدم الاهتمامات الطينية الاستهلاكية الفارغة للمواطنين، وتشهر لها !. فلقد كثر الحديث منذ بزوغ الإرهاصات الأولى لحكومة التناوب التوافقي عن الأخلاق والتخليق، وإن كان ذلك بهدف الاستهلاك الشعبي/ الشعبوي، بعد أن أحس صناع القرار بتململ المكون الإسلامي الذي يركز أكثر، في أدبياته، على تمكين "المكون القيمي" من كل مناحي الحياة، وإعادة الاعتبار له، كسبيل وحيد لمحاربة مظاهر الفساد المستشرية في الحياة العامة. فكانت صرخة اليوسفي في تصريحه الحكومي الأول حول رد الاعتبار لهذا المكون في الحياة السياسية، محاولة لجر البساط من تحت أقدام الإسلاميين الذين نالوا ما نالوه من المقاعد بفضل هذا الخطاب الذي استهوى الكثير من المغاربة الذين سئموا الكذب والغش والتزوير... والغش أخيرا ليس صناعة "تلميذية" صرفة، بل هو نتيجة سلوك مجتمعي تأسس في الحياة العامة؛ في الإدارة، والوظيفة، والمنصب السياسي، والكرسي القيادي،... بصور وأشكال أكثر جرأة وجسارة، وأكثر خطورة وتأثيرا. فلا يمكن أن ندعو تلامذتنا وطلبتنا بالتحلي بالنزاهة والشفافية ونقاء اليد، ونحن لا نقدم بين أيديهم النموذج الحسن في سلوكنا التربوي، والسياسي، والعلائقي. كما لا يمكن أن نقنع تلامذتنا وطلبتنا بالكف عن هذا السلوك الهجين، وهم يشهدون على أساتذتهم "الأعزاء" ينتهجونه في الامتحانات المهنية، و الجامعية، وعلى مسؤولي وزارتهم المحترمين في اعتلاء المناصب والمقاعد والمسؤوليات، وعلى السياسيين الذين يمثلونهم تحت قبة البرلمان، في الحصول على الكراسي و"الحصانات"، ومن مدرجات هذه القبة يتباكَوْن على مصير مدرسة عمومية ضاعت بين مخالب "الغشاشين" و"الغشاشات" !!. فليس بعد هذا المَقْتِ مَقْتٌ أَشَدُّ، أنْ ننهى عن سلوك ونأتيَ مثله، فقد :" كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ " (الصف، 3(. وصدق الشاعر أبو الأسود الدُّؤَلي حين قال: لا تَنهَ عَن خُلُقٍ وَتَأتيَ مِثلَهُ................. عارٌ عَلَيكَ إِذا فَعَلتُ عَظيمُ ابدأ بِنَفسِكَ وَانَها عَن غِيِّها................ فَإِذا انتَهَت عَنهُ فَأَنتَ حَكيمُ فَهُناكَ يُقبَل ما وَعَظتَ وَيُقتَدى................ بِالعِلمِ مِنكَ وَيَنفَعُ التَعليمُ