لعله من المفيد أن يعير وزير الاقتصاد والمالية الأهمية اللازمة للإحصاء الأخير الصادر عن البنك الدولي حول نصيب كل مغربي من إجمالي الدخل القومي. فنصيب المواطن المغربي من إجمالي دخل المغرب القومي أقل مما هو في تونس والجزائر. أي، بعبارة أخرى، أن المغرب يوجد ضمن الشريحة الدنيا من البلدان متوسطة الدخل، حيث لا يتعدى نصيب الفرد من إجمالي الدخل القومي 2520 دولارا في السنة، أي حوالي 25000 درهم سنويا. لدينا واحدة من أضعف نسب الدخل الفردي في العالم، ومع ذلك لدينا أغلى الأسعار على المكالمات الهاتفية في العالم، وأغلى الأسعار في الأدوية في العالم، وأغلى أسعار المساكن في العالم وأغلى أسعار تذاكر الطائرات في العالم. أليست هذه مفارقة عجيبة. ورغم التدني الشديد لمستوى الدخل الفردي للمغاربة، فإن المسؤولين المغاربة، المولعين بالنموذج الفرنسي في كلامهم ومظاهرهم، يتجنبون التشبه بهؤلاء المسؤولين الفرنسيين في طريقة تسييرهم للميزانيات المخصصة لهم، ويستمرون في صرف أموال دافعي الضرائب دون اكتراث للأزمة التي «شرفت» قبل مدة. وإذا كان وزير المالية يريد حقا أن يضع قانونا للمالية للسنة المقبلة يكون على مقاس إمكانيات المغرب المالية، فما عليه سوى أن ينطلق من النقطة التي ينطلق منها كل وزراء المالية في العالم لوضع مشاريع قوانينهم المالية قبل طرحها أمام البرلمان. وهذه النقطة اسمها الناتج الداخلي الخام، أو كما يحب أن ينطقها مزوار بالفرنسية «PIB». والناتج الداخلي الخام عند الاقتصاديين هو الثروة الحقيقية التي ينتجها كل بلد في الداخل خلال سنة واحدة. وبالنسبة إلى بلد فقير كالمغرب، فإن مستوى الناتج الداخلي الخام السنوي لا يتعدى 81.5 مليار دولار. أما فرنسا، التي يحلو لهم عندنا تقليدها في كل شيء، فقد وصل ناتجها الداخلي الخام إلى 2097 مليار دولار برسم سنة 2008، هذا يعني أن فرنسا تخلق ثروات 25 مرة أكثر مما يخلقه المغرب، بمعنى أن فرنسا أغنى من المغرب بخمسة وعشرين مرة. طبعا، سيقول نزار بركة، صهر الوزير الأول ومستشاره الاقتصادي في الحكومة، إن الناتج الداخلي الخام تتحكم فيه أيضا كثافة السكان. فكلما كان عدد الساكنة مرتفعا كلما ارتفع الناتج الداخلي الخام. ولذلك اخترع الاقتصاديون منطقا آخر لحساب ثروة الدول، وهو تقسيم مجموع الناتج الداخلي الخام على كل مواطن، وهكذا نحصل في النهاية على الناتج الداخلي الخام لكل مواطن. ببساطة شديدة، نعرف كم ينتج كل مواطن سنويا من ثروة. في المغرب، وصل الناتج الداخلي الخام لكل مواطن إلى 2520 دولار السنة الماضية، في مقابل 33600 دولار لكل مواطن فرنسي، علما بأن عدد سكان فرنسا يضاعف عدد سكان المغرب. بعبارة أخرى، فالمواطن الفرنسي أغنى من نظيره المغربي بمعدل 12 مرة. وما دام مسؤولونا لا يكفون عن التسبيح بحمد فرنسا بمناسبة وبدونها، فليسمحوا لنا بعقد جملة من المقارنات البسيطة، والتي ستفهمون من خلالها أن مشكلة المغرب الحقيقية هي أن مسؤوليه لا يكتفون فقط بالعيش على ظهره، وإنما يصرون على العيش فوق مستواه وطاقته. إذا كانت فرنسا أغنى من المغرب 25 مرة، والمواطن الفرنسي أغنى من المواطن المغربي 12 مرة، فإن المنطق الاقتصادي السليم يقول إنه إذا كان الحد الأدنى للأجور في فرنسا هو 1200 أورو في الشهر، فإن الحد الأدنى للأجور في المغرب يجب أن يكون أقل من ذلك 12 مرة، بحيث لا يتعدى 100 أورو. عندما نحاول التأكد من هذه الفرضية، نجد أن الحكومة المغربية ملتزمة بهذا المنطق الاقتصادي السليم إلى أبعد الحدود. فبالنسبة إلى شعب «المزاليط»، ليس هناك مجال للعبث الحكومي بالقواعد الاقتصادية. فالحد الأدنى للأجور الذي أقرته الحكومة لا يتعدى سقف 1800 درهم. لكن المشكلة أنه في فرنسا يشكل الحد الأدنى للأجور عشرة في المائة من قيمة أعلى راتب في لائحة رواتب موظفي الدولة. مثلا، إذا كان الحد الأدنى للأجور هو 1200 أورو فإن أعلى راتب في الوظيفة العمومية لا يجب أن يتعدى 12000 أورو. ولذلك فالوزير الأول الفرنسي يتوصل كل شهر براتب لا يتعدى 22000 أورو، بمعنى أنه يتقاضى «السميك» مضاعفا ثماني عشرة مرة. أما عندنا في المغرب -الذي يعتبر، حسب الأرقام الرسمية، أفقر 25 مرة من فرنسا وعائداتنا السنوية أقل من عائدات فرنسا 12 مرة- كم يا ترى يتقاضى الوزير الأول؟ حسب مستوى العيش في المغرب، فراتب الوزير الأول لا يجب أن يتعدى 20 ألف درهم. لكنه في الحقيقة يصل إلى 120 ألف درهم، بمعنى «السميك 120 مرة». وبالنظر إلى مستوى العيش الحقيقي للمغرب مقارنة بمستوى العيش الحقيقي لفرنسا، فوزيرنا الأول يتقاضى راتبا أكبر ست مرات من الوزير الأول الفرنسي. هذا بخصوص الوزير الأول، فماذا بخصوص بقية الوزراء؟ على مدى تاريخ الحكومة المغربية كله، لم يسجل استغناء أكثر من ثلاثة وزراء عن رواتبهم وقبولهم الاشتغال في الحكومة مجانا والاستغناء عن سكنها الوظيفي وسيارات خدمتها. هناك الملياردير كريم العمراني، ووزير الفلاحة الأسبق الدمناتي، ووزير الفلاحة الحالي عزيز أخنوش. أما الباقون فجميعهم يتوصلون برواتبهم كاملة، حوالي مائة منهم غادروا الحكومة ولازالوا يتقاضون 38 ألف درهم كتقاعد. يتقاضى كل وزير من وزراء الحكومة 70 ألف درهم كراتب شهري. ولديهم مساكن عبارة عن فيلات، بعضها مجهز بمسبح، ومستخدمون في المطبخ والحراسة وتربية الأبناء وسائقون وحظيرة من سيارات الخدمة من نوع «ميرسيديس كلاص سي» و«بي إم دوبل في»، وتعويضات عن التنقل والسفر غير محدودة. في فرنسا، خامس أقوى دولة في العالم والعضو في مجموعة الثمانية التي تضم أغنى دول العالم، يتقاضى الوزير 13 ألف أورو. ليس له الحق سوى في سائق واحد وسيارة خدمة واحدة، لا حق للسيدة «حرام» الوزير في استعمالها للذهاب إلى «الصونا» أو «الكوافورة»، كما لا حق له هو نفسه في استعمالها خلال العطلة أو خلال نهاية الأسبوع. أما السكن، فليس هناك مجال للحديث عن الفيلا ولا عن المسبح ولا عن الخدم والحشم. السكن الوحيد الذي من حق الوزير الفرنسي هو مقر إقامته داخل وزارته إذا كان متوفرا، وإذا لم يكن ذلك ممكنا تصرف له الدولة تعويضا لكي يكتري منزلا شريطة ألا تتعدى مساحته 80 مترا مربعا. وفي حالة توفره على أبناء، تمتعه الدولة بعشرين مترا مربعا إضافية، وهي المساحة التي يخصص بعض الوزراء والمسؤولين عندنا ضعفها لكلب الحراسة في قصورهم الفسيحة. أما بخصوص الوزير الأول الفرنسي، فعنوان سكنه هو قصر «ماتنيون» الجمهوري، وهو في الآن ذاته مكتبه الرئاسي. لديه في حوزته سيارة من نوع «سيتروين س6». ليس هناك مجال للحديث عن «ميرسيديس» ولا عن «جاغوار» ولا عن «بي إم دوبل في» أو «ليكسيس». أما بقية الوزراء فيركبون جميعهم على متن سيارات من نوع «بوجو 607». وإذا طبقنا المنطق الاقتصادي الذي يقول إن موظفي الدولة يجب أن يتقاضوا رواتب تتناسب مع الناتج الداخلي الخام لكل مواطن، فإن الجنرال العنيكري، مثلا، لا يجب أن يتعدى راتبه الشهري 6000 درهم. وهذا منطقي إذا علمنا بأن جنرالا فرنسيا بثلاث نجمات لا يتعدى أجره الشهري 6000 أورو في الوقت الذي يصل فيه راتب الجنرال عندنا إلى 120 ألف درهم. فإذا كان البرلماني الفرنسي يحصل على 6900 أورو شهريا فبرلمانينا -وبرلمانيونا بالمناسبة يغيب ثلاثة أرباعهم عن البرلمان طيلة السنة- يجب أن يحصل على 7000 درهم لا غير، أي أقل من نظيره الفرنسي بمعدل 12 مرة، ببساطة لأن فرنسا أغنى من المغرب 12 مرة. وليس المغرب الرسمي وحده من يعيش فوق مستواه وقدراته، بل حتى الخدمات المقدمة إلى شعب الفقراء من المغاربة لا تحترم مستوى الناتج الداخلي الخام لكل مواطن. وإذا كان ثمن كراء شقة في باريس يساوي 1200 أورو، فإنه في الدارالبيضاء لا يجب أن يتعدى 100 أورو، أي حوالي 1100 درهم. وإذا كان هناك سفر سياحي من باريس إلى مراكش لخمسة أيام بثمن لا يتعدى 600 أورو، ففي المغرب لا يجب أن يتعدى 600 درهم. وإذا كانت زيارة الطبيب في فرنسا تكلف 24 أوروها، فإنها في المغرب لا يجب أن تتعدى 2 أورو، أي 20 درهما لا غير، وفوق هذا يجب أن تعوضها شركة التأمين. هذه أمثلة لكي تروا بوضوح أن تكلفة العيش في المغرب باهظة جدا وتنافس تكلفة العيش في الدول الغنية. هذا في الوقت الذي يحتل فيه المغرب الرتبة ال126 في سلم التنمية البشرية عالميا، السلم نفسه الذي تحتل فيه فرنسا المرتبة ال12. على الجميع أن يفهموا أنه لتفادي الدخول في الحائط، فقد حان الوقت لكي يعيش المغرب بقدر إمكانياته وبقدر الثروة التي ينتجها، لا القروض التي يستوردها. والمغاربة يقولون «المكسي بديال الناس عريان».