رأيت معي – أيها القاريء الكريم – في مقال سابق ، مقارنة مليئة بالمفارقة بين مشهدي الأوقاف في ما مضى من الزمن ، وحالها في هذا العصر،ولمست مدى التباين والتناقض بين الصورتين : صورة زاهية رائعة مشرفة كان فيها نظام الوقف مشروعا حضاريا وإنسانيا باذخا،لعب دورا عظيما في نهضة هذه الأمة،وقدم لها أيادي جليلة،وأخذ بيدها في مسارها الطويل،ومنعطفاتها الحاسمة،فرعى ألوفا من المساجد والمدارس العلمية،والمؤسسات الاجتماعية واعتنت بكثير من المواهب والنشء الصغار،حتى صاروا أفذاذا في تخصصاتهم،وعقولا جبارة،وعلماء راسخين . وكانت الأوقاف هي المؤسسة الشرعية التي آوتهم من التشرد،وضمنت لهم لقمة العيش،وراحة البال،وخلقت لهم أجواء من الاستقرار النفسي والضروري للتفكير الخلاق،والرؤية المتبصرة المتقدمة،والإبداع في مجالات علمية شتى،دون أن يتركوا في العراء،وتحت رحمة الأغنياء البخلاء،أو سطوة أصحاب الحكم،ودون أن يكونوا ضحايا العصبيات المذهبية الضيقة والأهواء الشخصية،وأمزجة " الموظفين " المتقلبة . وقد قرأت منذ مدة في ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية أنه كان يسكن في بيت صغير متواضع ملحق بأحد مساجد دمشق ،وثمت ألف أغلب كتبه،ذلك الرجل الضخم الذي قارع الفلاسفة والمناطقة بسلاحهم،وصال على أهل الكلام حتى هزمهم بحجج كالجبال،ونازل أصحاب النحل الزائغة،ونافح عن صفاء الإسلام ونقاءه،ونظَّر لقضايا الإسلام الكبرى،وكان بالرسوخ والشموخ الذي علمت،هذا الإمام ما هو إلا حسنة من حسنات الوقف الإسلامي، وأنا أشهد أن الرجل لو عاش في هذا العصر البائس لساهم " الموظفون " في إخماد جذوته ، وإطفاء فكرته وإقبار موهبته ولما سمحوا له بالمرور أمام المسجد ناهيك عن السكنى في مرافقة . وعلى أية حال فالأمر كما قال أبو العلاء كم أرَدنا ذاك الزمانَ بمدْح فشُغلنا بذم هذا الزمان . لكن المهم أن الأوائل – من الفقهاء وأهل العلم – أدركوا طبيعة الوقف الإسلامي ومدى أهميته وضخامة دوره، واتساع منافعه، وقوة تأثيره، فكانت مخاوفهم على أن يحرم المسلمون من هذا المرفق العظيم أو أن يتم تضييعه والتلاعب بموارده وتعطيل استثماره أو الوقوع في غير يد أهله أو تحويل مصارفه وكان تركيزهم على صيانته والذود عنه باديا للعيان فيما وضعوا من قواعد وضوابط . وكلنا قرانا في أيام طلب العلم القاعدة الفقهية التي تقول " الاحباس لا تغير " . حتى قيدوا حرية المحبَّس عليه في التصرف في الحبس بالبيع وغيره. وقال ابن عاصم في التحفة : ومن يبع ما عليه حُبسا يُردُّ مطلقا ومعْ علم أسَا وأفاض الفقهاء في وضع تحذيرات شتى في هذا المجال، فمنعوا كل ما يمس بحقيقتها، واختلفوا اختلافا قويا حتى في استبدالها بغيرها. والنظر في كتب الفقه يعطيك لمحة عن مدى تحرج الفقهاء من الأوقاف، وشدة عنا يتهم بها،وحرصهم على بقائها وسلامتها ، وضمان أداء وظائفها . ولا بأس أن أذكر في هذا السياق قصة ذكرها القاضي عياض في ترتيب المدارك 21/80/81 – واختصرتها هنا – تبين لك حرص الفقهاء على هذا المرفق،وحمايتهم له بشدة. وذلك أن السلطان الناصر احتاج إلى اشتراء محشر من أحباس المرضى بقرطبة بعدوة النهر،فشكى إلى القاضي ابن بقي أمره وضرورته إليه بسبب مقابلته لمتنزهه،وتأذيه برؤية المرضى،فقال له: تكلم مع الفقهاء،وعرفهم رغبتي،وما أبذله من أضعاف القيمة فيه،فلعلهم يجدوا في ذلك رخصة،فتكلم ابن بقي معهم فلم يجعلوا إليه سبيلا،وغضب الناصر عليهم،وأمر الوزراء بالتوجه إليهم إلى القصر،وتوبيخهم ففعلوا،وأسمعوهم كلاما فاحشا نقله القاضي في المدارك. فلم يغيروا فتواهم،ولا استجابوا لما أراد السلطان،وبقي في صدره من هذا الحبس حزة، وبلغ ذلك محمد بن يحيى بن لبابة -أحد الفقهاء المتزلفين – فأرسل إلى الناصر قائلا : إنهم حجروا عليه واسعا، ولو كان حاضرا لأفتاه بجواز المعاوضة،وتقلدها،وناظر عليها أصحابه،فوقع الأمر بنفس الناصر فأمر بإعادة المشورة في المسألة، فاجتمع القاضي والفقهاء،وجاء ابن لبابة آخرهم،وعرفهم القاضي ابن بقي بالمسألة التي جمعهم لأجلها،فقال جميعهم بقولهم الأول من منع إحالة الحُبس عن وجهه،وابن لبابة ساكت،فقال له القاضي ما تقول أنت يا أبا عبد الله قال : أما قول إمامنا مالك بن أنس فالذي قاله أصحابنا الفقهاء،وأما أهل العراق فإنهم لا يجيزون الحبس أصلا،وهم علماء أعلام،يهتدى بهم أكثر الأمة،وإذا بأمير المؤمنين من حاجة إلى هذا المحشر ما به،فما ينبغي أن يرد عنه وله في السنة فسحة،وأنا أقول فيها بقول العراقيين وأتقلده رأيا . فقال له الفقهاء : سبحان الله تترك قول مالك الذي أفتى به أسلافنا،واعتقدناه بعدهم وأفتينا به لا نحيد بوجه عنه،وهو رأي أمير المؤمنين ورأي الأئمة آبائه . فقال لهم ابن لبابة : ناشدتكم الله العظيم ألم تنزل بأحد منكم مسألة بلغت بكم أن أخذتم فيها بقول غير مالك في خاصة أنفسكم ؟ قالوا بلى . قال فأمير المؤمنين أولى بذلك، فخذوا مأخذكم، وقال للقاضي: انه إلى أمير المؤمنين بفتواي. فكتب القاضي إلى الناصر بصورة المجلس،فجاء الجواب أن يأخذ بفتوى ابن لبابة وينفذ ذلك،ويعوض المرضى من أملاكه،وجاء منه كتاب لابن لبابة أن يتولى خطة الوثائق والشورى من هذا الوقت إلى أن ما ت،ومنزلته من السلطان لطيفة،. انتهى بتصرف طفيف واختصار . والقصة توحي بمدى صلابة الفقهاء واحتياطهم لأوقاف المسلمين،وعدم رضوخهم لرغبات ذوي الحكم، كما تدل على ما يتمتعون به من الاستقلال وقوة الشخصية، ونفاذ الكلمة،وشدة الورع،وأن الأمور منوطة بفتواهم وأنهم لا يفتون تحت الرغبة ولا الرهبة وأن مصداقيتهم لا حدود لها . وتشير كذالك إلى أن فصل النزاع في القضايا العالقة، يرجع فيها إلى القضاء وحده،وذلك هو معنى " فصل السلط " الذي يتشدق به المعاصرون،ويزعمون أنهم اقتبسوه من أوروبا،وهم من أسسوه – حسب زعمهم – ليضبطوا به شطط السلطة التنفيذية . وتلك فرية تمشي على رجليها وبهتان مبين،تنسفه هذه القصة وأشباهها،وتبين أن ذلك معمول به في دنيا المسلمين غير ما يظن هؤلاء المفتونون . وفي القصة – أيضا – نجد ما يكون في كل زمن من المتملقين،الباحثين عن المخارج والتأويلات لأهل الحكم،والمتلاعبين بنصوص الدين للوصول إلى الوجاهة والمناصب الزائلة،غير أن التاريخ يسلط الضوء على تفاهتهم وحقارتهم فلا يفلتون . قال شوقي : " اخدع الأحياء ما شئت فلن .......... تجد التاريخ في المنْخدعين " المهم أن ما عرضناه هو جزء من مخاوف الأولين – طيب الله مضاجعهم – ومواقفهم تجاه المسلمين،ومؤسساتهم العامة،وهو لون من حرصهم الشديد على ما بدأ الآن يدخل مراحل التفتت والغموض،ويتخذ مسارب بعيدة عن أصوله،ويتراجع عن أدواره،ويفقد وظائفه،ويصبح بلا طعم ولا لون ولا رائحة،لكنه لا ينسى أن يتسلح بكثير من أشباه " ابن لبابة " ينبرون لتسويغ أفعاله،وتجميل أحواله وأهواله . [email protected]