وكثيرا ما يثار موضوع مذهب مالك؛ فتثور حمية أهل التقليد في التمسك به؛ ناعتين الخارج عليه ذاهب مذاهب الفتنة؛ وسالك سبيل تفريق وحدة الأمة، وهم بعملهم وقولهم يسيرون في طريق ما أنكروه، وبيان ذلك: 1 إن علماء المالكية عبر التاريخ؛ وبخاصة أهل الرأي والنظر منهم؛ عرفوا بمخالفة المذهب أو حتى ما ذهب إليه الإمام نفسه، فلم تكن هذه الشبهة لتثنيهم عن عزمهم؛ والصدع برأيهم. بل لم يكونوا يعتبرون تعدد الآراء واختلافها وتنوعها تؤول إلى تفريق الأمة وكسر بيضتها. فلذلك لم يتوانوا في إظهار ما يعتقدونه؛ وكانوا يقولون: تعدد الآراء لا يفسد للود قضية؛ واختلاف الآراء اختلاف تنوع وثراء لا اختلاف تضاد . وذهب بعضهم إلى أن هؤلاء الذين يحملون هذه الشبه وغيرها مُعْفَوْنَ من النظر في كتبهم؛ لأن مشربهم لا يقبل هذا الفقه ابتداء، قال الشاطبي رحمه الله تعالى عن كتابه ومعاناته مع هؤلاء في مقدمته:" ولا يسمح للناظر في هذا الكتاب أن ينظر فيه نظر مفيد أو مستفيد، حتى يكون ريان من علم الشريعة، أصولها وفروعها منقولها ومعقولها، غير مخلد إلى التقليد أو التعصب للمذهب". ودعاه بالقول له:" وفارقْ وَهْدَ التقليد راقيا إلى يفاع الاستبصار، وتمسك من هديك بهمة تتمكن بها من المدافعة والاستنصار؛ إذا تطلعت الأسئلة الضعيفة والشبه القصار؛ والبس التقوى شعارا، والاتصاف بالإنصاف دثارا؛ واجعل طلب الحق لك نحلة، والاعتراف به لأهله ملة". 2 إن الوحدة المتحدث عنها؛ ينبغي أن لا تعدى محلها؛ وأن تقدر بقدرها. ذلك أن الذين تحدثوا عنها كان قصدهم حسم مادة تلاعب الفقهاء والقضاة؛ يوم أن كان القضاة هم الفقهاء، ولم يكن حديثهم عنها ذاهب إلى الحجر على البحث العلمي والنظر الفقهي. إن الحكومات عندما ترفع إلى القضاء تحتاج إلى وحدة المذهب الفقهي الملزم للجميع؛ من اعتقده ومن لم يعتقده. لأنه حصل التلاعب في أموال المسلمين وأعراضهم ونفوسهم ودينهم..؛ من طرف بعض الفقهاء القضاة السفهاء؛ والذين كانوا يعطون الفتاوى حسب الطلب؛ ويوجدون المخارج والحيل لمن أرادوا له ذلك؛ بحرص منهم شديد على الدنيا ولعاعتها؛ فوظفوا علمهم في الشر لا في الخير، وصدق الله تعالى فيه:" أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ"(الجاثية:23). فكان لا بد من حسم مادة هذه الفتنة في مجال القضاء؛ بحيث لا يسمع قول إنسان في مجلس القضاء برفض الحكم لأنه على مذهب مخالف يعتقد الحكم مرجوحا. ولا يقبل حكم قاض يخالف المسطرة القضائية، وأما باب العلم فمفتوح أبوابه على النظر والرأي، فليكتب للأمة ما شاء من النظر الذي أوصلته غليه آلة بذل الجهد والوسع. إن الفقه والقضاء موضوعان مختلفان؛ يجب في الثاني اختيار نصوصه ومواده و ضبطهما؛ ولا يجوز في الأول ما جاز في الثاني. ومن نظر إلى علاقة الوحدة المذهبية بهما وعممها فقد أخطأ في معرفة مجالها. بل إننا واجدون في المذهب الواحد أقوالاً و آراء في المسألة الواحدة ؛ يستدعي الأمر اختيار الراجح منه أو ما يقدم المصلحة للناس زمن الاختيار؛ لتكون هذه الاختيارات هي المرجع عند التقاضي، ويلتزم القضاة بمراعاتها. وقد ذكر القاضي عياض وشيخ المقاصد الشاطبي أن الشيخ أبا عبد الله محمد بن يحيى بن لبابة(قال في الديباج:" وله اختيارات في الفتوى والفقه خارجة عن المذهب" 2/ص184) قد عرض نفسه للفتوى مقابل ثمن كان يرجوه وهو العودة إلى مجلس الشورى. وملخص القصة أن الخليفة الثامن لبني أمية عبد الرحمان الناصر في القرن الرابع في الأندلس كان يريد تعويض أرض كانت قبالة منزله يجعلها منتزها؛ وكانت حبسا توضع فيها الأزبال؛ وراود الفقهاء في أن يعوضها بأحسن منها بكثير؛ فامتنعوا؛ فلما أيس منهم بعث إليهم أحد وزرائه فوبخهم وسبهم؛ فرد عليه الشيخ محمد بن إبراهيم بن حيونة برد قوي، وأنفة عالية؛ فاعتذر لهم الخليفة عما فعله وزيره، وأمر لهم بكسوة وصلة علامة رضاه عنهم. وكان أحد الفقهاء وهو الشيخ محمد بن يحيى بن لبابة معزولا عن الشورى؛ فبعث عن طريق حاشية السلطان بالقول: لو لم أكن معزولا لترخصت لمولانا، وأفتيته بالجواز، وتقلدت ذلك، وناظرتهم بالحجة، فقد حجروا واسعا. فرده الناصر للشورى، ثم رفع إليهم المسألة ثانيا، فأصر الجميع على المنع، وتصدى ابن لبابة فقال: إن قول مالك هو الذي قاله الفقهاء، وأما العراقيون، فلا يجيزون الحبس أصلا، وهو علماء أعلام يهتدي بهم أكثر الأمة، وحيث دعت الحاجة أمير المؤمنين، فما ينبغي أن يرد عليه، وله في المسألة فسحة وأنا أقول بقول العراقيين، وأتقلد ذلك. فقال الفقهاء: سبحان الله تترك قول مالك الذي أفتى به أسلافنا، ومضوا عليه، واعتقدناه وأفتينا به لا نحيد بوجه عنه وهو رأي أمير المؤمنين ورأي الأئمة آبائه. فقال ابن لبابة: ناشدتكم الله؛ ألم تنزل بأحدكم ملمة بلغت بكم إلى الأخذ بقول غير مالك ترخصا لأنفسكم؟ قالوا: بلى، قال: فأمير المؤمنين أولى. فسكتوا. فقال القاضي: أنه إلى أمير المؤمنين فتياي، فجاء جوابه بتنفيذ فتوى ابن لبابة، وعوض بأملاك عظيمة القدر تزيد أضعافا، وتولى ابن لبابة خطة الوثائق وعقد المعاوضة، وأمضى القاضي فتواه، وحكم بها، فلم يزل متقلدا خطتي الشورى والقضاء إلى أن مات رحمه الله سنة ست وثلاثين وثلاثمائة(336ه)( انظر القصة بتمامها في: المدارك: القاضي عياض: 3/ ص130الخ). إن أقوال مالك ليست للرعونات وإنما للتقوى والصلاح والإيمان، والنصفة من النفس، ومراقبة الخالق في مقاصد الاختيار من مذهبه العظيم. 3 والحقيقة أن هؤلاء غير متمسكين بمذهب الإمام مالك؛ ولكن مبلغهم من العلم رواية في المذهب تنشأوا عليها؛ وليس عندهم علم بغيرها، فعز عليهم مفارقتها؛ وأعلنوا الإرهاب على الغير تحت لافتة الركن العظيم: وحدة الأمة والحفاظ عليها. أو لهم بها علم و لكن وقر في قلوبهم أن الرضا عنهم لن يكون بمخالفة ما عليه بعض القوم. ولهذا صرخ بعض كبار المالكية الذين تلوثوا بما سيأتي التعريج على بيان فساده: إنهم خليليون وليسوا مالكية(وهي عبارة الشمس اللقاني المالكي: "نحن قوم خليليون؛ فإن ضلَّ ضللنا؛ وإن أصاب أصبنا"!!). وهذا ما دفع القرافي المالكي إلى عدم الارتياح لأقوالهم بالقول:" وسكون النفوس إلى قول الإمام القدوة(يعني مالكا) أكثر من سكونها إلى أتباعه بالضرورة"(الذخيرة:1/35).