لقد تأثرت الحركة الإسلامية المغربية منذ بزوغها الأول في بدايات سبعينيات القرن الماضي، بالجو المشحون للصراع بين النظام المغربي وطائفة من اليسار الراديكالي الذي كان ينازع النظام الحكم ، ويتوسل من أجل ذلك أسلوبا انقلابيا ،عرف محطات دموية عنيفة . فانساقت في خضم هذه الأجواء ،" تمتهن "-بدورها – فكرا انقلابيا، قوامه المقاطعة كأسلوب احتجاجي إزاء المجتمع ومؤسساته النظامية ، ومبرره ما تنقمه على الحاكمين من مروق عن تعاليم الشرع الحنيف ، وسقوط في "بدعة" الحكم بغير ما أنزل الله ، والعمل على تعطيل شرع الله في التدبير اليومي للشأن العام للمغاربة ... !!.فانزوت ، لأجل ذلك ،في ركن العمل السري البعيد عن الأضواء ، وعن العيون المُخْبِرة ، تبني لها عالما ملائكيا فاضلا ، لا يخطئ فيه أحد ، ولا يأثم فيه مخطئ !. وظن رواد هذه الحركة –لسنوات-أن تحقيق هذه الأحلام رهين بالقدرة التنظيمية التعبوية القمينة بقلب الطاولة على الحكام "الظلمة"( !) ، وانتزاع الحكم منهم لتحقيق هذه الأحلام الوردية التي ظلت تراودهم منذ زمن "المأثورات "، يوم كانت تحتويهم مجالس الحديث وتفسير القرآن والسيرة النبوية .. وتشغلهم القراءات " العنيفة" للنصوص الشرعية ، والانحصار المعرفي في بوثقة نصوص الجهاد القتالي من قبيل :"قاتلوهم ، يعذبهم الله بأيديكم وأيدي المؤمنين ..." ! لكن اصطدامها زمن" اقتحام العقبة "بواقع متشابك وعنيد ، يتأبى على كل محاولة لِلَيِّ الدراع، أو توجيه المسار وفق ما تشتهيه نفوس "الدعاة الجدد "؛ جعلها ترتكب العديد من الأخطاء كلفتها سنوات من عمر التنظيم السري الصارم ، كما كلفتها تراجعات كبيرة على مستوى الاندفاع والمدافعة في " اقتحام العقبة " التي أسست لها في فترات الإعداد الروحي والعلمي و"اللوجستي " .لينتهض -بسبب ذلك- العديد من روادها يراجعون "المسار " ، ويعيدون التنظير لأسلوب جديد في التغيير والإصلاح يعتمد ذات النصوص الشرعية التي أ صلوا بها لخرجاتهم المتهورة ، ولكن – هذه المرة-باستحضار العنصر الأساس الذي غُيِّب في التنظير ات السابقة –بعلم أو بغير علم -؛ ألا وهو : الواقع : مقصد التغيير وفَصُّه. فأصبحنا نقرأ لبعض رواد هذا التيار ؛ بحوثا ودراساتٍ حول المشاركة السياسية ، وحكم العمل من داخل الأجهزة النظامية "الظالمة"( !)، وما شابه.كما أصبحنا نقرأ لهم تأصيلات تمتح اجتهادها من فقه المقاصد ، وفقه الموازنات ، وفقه مراتب الأعمال ، وما شاكلها من أنواع الفقه الواقعي الذي يزاوج بين النص والواقع ؛ فيحتكم إلى النص دون أن يقفز على الواقع ، في تأسيس متقدم لاجتهاد جديد يحضر فيه النص إلى جانب الواقع ، في تناسق وتساوق ، كان من ثماره هذا الزخم المعتبر من البحوث ، والدراسات الأكاديمية المؤسِّسة للمشروع المجتمعي الإسلامي ، والتي كانت وراء الإقبال الباذخ على العمل السياسي ، والمشاركة المجتمعية الفاعلة والمسؤولة لطائفة نشيطة من أبناء هذا الوطن الحبيب في تدبير الشأن المحلي من خلال العمل من داخل الهيئات المدنية والسياسية والنقابية . لقد اقتنعت طائفة من أبناء الحركة الإسلامية بخطورة وخطإ الفكر الانقلابي الذي تبنته يوم كانت تمتح تصوراتها ، ومنهج تحليلها ، من المشرق العربي الذي كان تبني مفكريه ، وسياسييه لهكذا فكر ، واجبا وقتيا أملاه الوضع المرتبك ، هناك، للأنظمة العسكرية التي كانت تتشكل كما الفِطَر في ربوع البلاد العربية عبر الانقلابات العسكرية ، والثورات المدنية التي يقودها،من خلف الأكمة ،عسكريون أيديهم مع الشعوب وعيونهم معلقة بالكراسي . لقد اقتنعت هذه الطائفة أن المشرق غير المغرب ، وأن ما يحدث هناك ليس قدرا أن يحدث هنا ، وأن التغيير لا ينجح دائما إذا استهدف القمة ما لم يكن شعبيا جماهيريا سلميا ؛ بل إن التجارب العالمية أبانت عن خطإ هكذا سبيل في التغيير .فالانقلابات لا تكون دائما رحمة على الشعوب ، والانقلابيون لا يفلحون غالبا –خصوصا إذا كانوا عساكر- في تحقيق الديموقراطية ، والرفاهية ، والعدالة الاجتماعية ، بل غالبيتهم ينحون زاوية تصفية الحسابات مع الخصوم السابقين، وأزلام النظام البائد ،والمعارضين ؛ لترسيخ أقدامهم ، وفرض الشرعية لحكمهم الجديد عن طريق الحديد والنار ، وتكميم الأفواه ؛ مما يؤدي إلى حدوث "كرنفالات دموية" في مختلف ربوع الوطن ، في تزامن مباشر مع احتفالات تنصيب الحاكم العسكري الجديد !!. لقد وعت هذه الطائفة من الإسلاميين أن التغيير لا يكون إلا من داخل المؤسسات ، ومن خلال المشاركة المباشرة والمخلصة في تدبير الشأن المحلي للمواطن ، والاحتكاك به ، والإنصات لشكواه ، والمدافعة المسؤولة للاستجابة لانتظاراته بعيدا عن المزايدات السياسوية ، أوالنقابوية ، أو الحزبوية ، أو المصلحية المفرملة للنهوض ، والمعيقة للتغيير والإصلاح.من أجل ذلك تقدمت خطواتٍ إلى الأمام تطرق الأبواب ، وتدعو للمصالحة والإصلاح ، و تعرض على من يهمه الأمر "أوراق اعتمادها " لولوج ساحة المدافعة المسؤولة باعتماد التي "هي أحسن " بعد أن أثبتت أنها قد قطعت ، بالفعل لا بالقول ، مع " التي هي أخشن " .