في الوقت الذي يتمنى فيه مواطنو الكثير من الشعوب العربية بالليل والنهار رحيل رؤسائهم الخالدين، إما خارج بلدانهم على يد الثورة أو إلى المقبرة على يد عزرائيل، نرى كيف يضع مواطنو جنوب إفريقيا، ومعهم ملايين الأحرار عبر العالم، أيديهم على قلوبهم خوفا من رحيل الزعيم الجنوب إفريقي «نيلسون مانديلا». فقد كان كافيا أن يصاب القفص الصدري للرئيس السابق بالتهاب حتى يصاب الشعب الجنوب إفريقي برمته بالخوف من إصابة رئيسه السابق بمكروه. عندما نقارن بين زعيم سياسي قضى نصف عمره يكسر الأحجار في سجنه، وبين زعماء عرب قضوا نصف أعمارهم يكسرون ظهور شعوبهم بهراوات القمع والتعذيب، نخرج بخلاصة مفادها أن هناك نهايتين لكل من يحترف الزعامة السياسية، إما أن يقتنع بأنه كائن بشري وبالتالي فإن مدة صلاحيته محدودة في الزمان، وإما أن يضع نفسه ضمن مصاف الآلهة الإغريقية الذين لا يضعون، في الأسطورة، في حسابهم شيئا اسمه النهاية. مشكلة هؤلاء الرؤساء العرب العجزة، الذين أوصلوا شعوبهم إلى مرحلة اليأس المتقدم بإصرارهم على التشبه بأنصاف الآلهة الإغريقية، أنهم وصلوا إلى مراحل متقدمة من جنون الحكم والسلطة. ويكفي أن يتأمل الواحد منا وجه العقيد القذافي أو حسني مبارك أو غيره من الرؤساء العرب الخالدين المخلدين فوق كراسيهم لكي يشعر بالشفقة لحالهم. إنهم مجرد مساكين يعيرون وجوههم وشعورهم لأطباء التجميل لكي يعبثوا بها في محاولة يائسة لإعادة عقارب العمر إلى الخلف. إنهم مرضى بالفعل، ويحتاجون إلى دخول مستشفى متخصص في إزالة الآثار المدمرة لمخدر قوي أدمنوا عليه، اسمه السلطة، هذا المخدر الذي حولهم من كائنات بشرية إلى كائنات خرافية مثيرة للسخرية، فهم لا يختلفون كثيرا عن مدمني المخدرات القوية الأخرى، والذين يودعهم أهلهم المصحات الخاصة للمعالجة من آثار الإدمان. يحتاج، فعلا، هذا العالم العربي إلى مصحة واسعة متخصصة في معالجة الإدمان على السلطة، لأن هذا الإدمان القاتل هو سبب المآسي التي تعيشها الأمة العربية على جميع مستوياتها. الرؤساء يتعاطون هذا المخدر بدون محاذير، فيسقطون في الإدمان منذ اليوم الأول ويرفضون مغادرة قصورهم الرئاسية. ويوما عن يوم، يتعاطى هؤلاء الرؤساء مخدر السلطة بجرعات أكبر، فيكبر بذلك تسلطهم وجبروتهم ويحولون شعوبهم إلى أداة يفرغون فيها لحظات انتشائهم بخدر السلطة اللذيذ. ينتشون بتكميم أفواه مواطنيهم، وباعتقال معارضيهم وقتلهم ونفيهم. وهكذا تتحول الدولة إلى شركة كبيرة لصناعة الخوف. إن الصناعة الثقيلة الوحيدة التي تتفوق الأنظمة العربية في إنتاجها هي صناعة الخوف. ومن أجل إنعاش هذه الصناعة، وظف بنعلي 130 ألف رجل أمن للاشتغال في «الوحدات الصناعية» المكلفة بترويج بضاعته المخيفة عن طريق خنق المواطنين وترصد مكالماتهم وإحصاء أنفاسهم وتحطيم أسنانهم في الشوارع وأمام أطفالهم. وفي مصر، وظف حسني مبارك مليونا ونصف مليون رجل أمن للاشتغال في «شركة الخوف مجهولة الاسم» التي يسيرها جنرالات المخابرات ومباحث أمن الدولة والجيش. فالجبناء لا يستطيعون ممارسة السلطة والحكم بدون صناعة ثقيلة لإنتاج الخوف. وحدهم الزعماء الشجعان يحكمون شعوبهم بالحب. وها نحن نرى كيف أن الشعب التونسي صبر 23 سنة تحت حذاء الدكتاتور بسبب الخوف، فيما صبر الشعب المصري 30 سنة تحت حذاء فرعون العصر الجديد بسبب الخوف، وفي الأخير استطاع الشعبان أن يحطما القيود الثقيلة التي كبلهما بها الخوف، وخرجا إلى الشوارع لتمزيق صور الدكتاتورين وإحراق مقري حزبيهما الحاكمين. أما في جنوب إفريقيا، التي حكم نيلسون مانديلا شعبها بالحب والاحترام قبل أن يغادر قصره الرئاسي ويسلم المشعل إلى رئيس جديد بعده، فقد خرج الشعب لكي يسهر الليل أمام المصحة التي كان يرقد بها الرئيس المريض بعد الوعكة الصحية التي ألمت به، خوفا عليه من الموت. نستنتج من هذه المفارقة السياسية أن الحب والاحترام هما الوسيلة الوحيدة لممارسة الحكم والسلطة. أما الخوف فيمكن أن يفيد في كتم الأنفاس عشر سنوات، عشرين سنة، ثلاثين سنة، لكنه في الأخير يتحول إلى مادة متفجرة عندما يصل إلى مستوى الجرعة المميتة. ولعل أقرب طريق لممارسة السلطة والحكم عبر الحب هو تحقيق حاجة المواطنين الفطرية والطبيعية إلى العدل. لأنه بدون تحقيق الاكتفاء الذاتي للمواطنين من مادة العدل، ترتفع احتمالات انتشار المظالم. وعندما تنتشر المظالم ويختل ميزان العدالة الاجتماعية، تنشأ أولى خلايا الظلم التي ما تلبث أن تتكاثر سريعا مثل السرطان وتنشأ لحراستها مصانع وشركات لإنتاج الظلم وتعميمه وحراسته. لهذا، يبقى أهم شرط لتحقيق الأمن والاستقرار الدائمين للشعوب هو تحقيق العدالة الاجتماعية ومحاربة الظلم بكل وجوهه وأقنعته.. الظلم في الإدارات عندما يذهب مواطن لاستخلاص وثيقة فيجبرونه على دفع رشوة للحصول على أبسط ورقة، الظلم في الطرقات عندما يوقفك شرطي المرور ويجبرك على دفع غرامة عن مخالفة لم ترتكبها، والظلم في المحاكم عندما يلجأ إليها المظلومون فيأكل القضاة حقوقهم لصالح من يدفع أكثر، والظلم عندما يدرس الشاب ويتخرج فيكتشف أن ذنبه الوحيد هو أن اسمه العائلي لا ينتمي إلى الشجرة المباركة التي يحظى أبناؤها بالمناصب حتى دون أن تكون لديهم شواهد، الظلم عندما يرى المواطن البسيط أنه محروم من إسماع صوته في وسائل الإعلام العمومية التي يصرف عليها من جيبه كل شهر، والظلم عندما يرى الموظفون الصغار كيف يسرق الموظفون الكبار الميزانيات العمومية في واضحة النهار دون أن تمتد إليهم يد العدالة، رغم أن أخبار سرقاتهم تزكم الأنوف على صفحات الجرائد. للظلم أوجه وأقنعة كثيرة ومتعددة، أخطرها على الإطلاق هو عندما يلبس الظلم قناع الحق، فيحول الظالم إلى ضحية والمظلوم إلى جلاد. وهذا نوع من الظلم نعيشه في هذه الجريدة يوميا، فكل الذين كتبنا عن فضائحهم وسرقاتهم وأدلينا بالوثائق التي تفيد بذلك، لجؤوا ضدنا إلى القضاء وطالبونا بدفع مئات الملايين لتخويفنا من الاقتراب منهم. فهم يعرفون أن جزءا كبيرا من القضاء فاسد ومرتش، ولذلك فهم يفضلون اللجوء إليه بحثا عن براءة مزعومة تشبه أوراق التوت يغطون بها عوراتهم النتنة. إن الظلم لا يحتمي سوى بالخوف، وهما معا يشكلان حصنا يمكن أن يكون منيعا لبعض الوقت، لكنه ليس دائما. ولعل أحسن دواء ضد هذا الداء العضال هو إشاعة الاحترام بين الشعب وحاكميه. فالاحترام يأتي من الحب، فيما لا ينتج الخوف سوى التسلط والظلم. وأكبر دليل على احترام الحاكمين لشعوبهم هو سعيهم إلى تحقيق العدالة لمواطنيهم. وتحقيق العدالة لا يكون سوى بتطبيق القانون في حق اللصوص الذين يسرقون جيوب الوطن، وتخليص الشعب من شرورهم. إن السؤال الحارق الذي يطرحه المواطنون اليوم في المغرب، هو: لماذا عجز القضاء عن متابعة المسؤولين العموميين الذين أحصتهم تقارير مجالس المراقبة والمحاسبة؟ لماذا كل هذا التكاسل في حماية المال العام من النهب؟ هل المشكلة في القوانين أم في من سيطبقونها أم ماذا؟ خطورة مثل هذه الأسئلة هي أنها تعطي الرأي العام انطباعا بأن القانون لا يسري على الجميع بنفس القدر. وهذا أحد أكثر وجوه الظلم قسوة، لأنه يضرب منطق العدالة وروحها في الصميم. وعندما يعجز القضاء عن تطبيق العدالة لردع اللصوص عن سرقة أموال الشعب، فإن هذا الشعب يفقد ثقته في عدالة بلاده. وعندما يفقد شعب ما ثقته في العدالة، فإن شعوره بالخوف يزداد. أمام السادة القضاة اليوم مسؤولية تاريخية جسيمة. ولا أحد، غير ضمائرهم، يمكن أن يكون رقيبا عليهم أثناء فصلهم في مظالم الناس. إن الإحساس بالظلم شيء خطير جدا عندما يكون فرديا، فما بالك عندما يصبح هذا الإحساس جماعيا. عندما كانت أمريكا في قمة حربها، سأل روزفلت عن شيء واحد، وهو حال القضاء في بلاده وهل لازال هناك قضاة نزيهون ومستقلون، فقالوا له إن القضاء الأمريكي بخير. فقال لهم لا خوف على أمريكا إذن. فإذا بقي القضاء واقفا فيمكن إعادة بناء كل القطاعات الأخرى إذا تعرضت للتخريب. العدالة هي الملجأ الأزلي للخائفين من الظلم، ولذلك فعندما يتحول هذا الملجأ إلى قبو للتعذيب وإشاعة الظلم، فإن المواطنين يزدادون اقتناعا بضرورة انتزاعهم لحقوقهم بأيديهم. وهذا بالضبط ما حدث في تونس وفي مصر، وما حدث على وجه البسيطة منذ بعث الله آدم منذ ملايين السنين. «سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا»، صدق الله العظيم.