لقد عرج باحثون كثر على المنعطفات المختلفة و المتشعبة التي مرت بها الزاوية الوزانية طوال تاريخها الدعوي العظيم ، بدءأ بمرحلة التأسيس على يد مولاي عبدالله الشريف و مرورا و انتهاء بالمشايخ الأقطاب السبعة و من خلفهم ، لكن القليل منهم من ركز بشكل دقيق على ماهية الزاوية و خصوصياتها و تميزها عن باقي الزوايا ، إذ نجد بعضهم رغم إطنابه في ذكر ما تقوم به الزاوية من أعمال البر و الخير و الإحسان و كفالة اليتيم و إصلاح ذات البين و التحكيم بين المتخاصمين ، إلا أنهم لم يركزوا بشكل محدد على دورها المحوري المتمثل في السهر على شؤون الدعوة إلى الله و تربية النشئ و تعليم الأجيال و تدريس العلوم الشرعية و الإفتاء تنظيم الكتائب الجهادية ، و غيرها مما يتعلق بأمور الدعوة الشاملة ، و الدفاع عن الأوطان ، و إن تطرقوا لمهتها الصوفية فلا يتعدى كلامهم عن علاقة الشيخ بالمريد و علاقة المريد بالشيخ ، بشكل يحصر جسامة ما قامت به زوايا مولاي عبدالله الشريف من أدوار يصعب حصرها و تحجيمها بمجرد الكلام عن عدد المريدين و عن عدد فروع الزاوية و ما يتبعها من مؤسسات و ممتلكات ، إن الأصح في الموضوع هو أن مولاي عبد الله الشريف تحمل منذ تأسيسه الزاوية عبئ أمانة الرسالة المحمدية في شقها الأعظم و المعقد و الخطير المتعلق بالدعوة و الدلالة على الله و عتق رقاب العباد و تخليصهم من عبادة حكامهم و عبادة الماديات إلى عبادة رب العباد ، إلى ما يتبع ذلك من تدبير الشأن الدعوي العظيم لمؤسسة الزاوية ، تربية و تنظيما و تأطيرا و تعبئة و ترقية و انتشارا و توسعا ، مع الاستحضار القوي لماهية إنسانية الإنسان و ما يستلزمها من تكريم . و قد كان لذلك الجهد العظيم نتائج مبهرة برزت تجلياتها مجتمعيا ، على المستوى الأفقي و العمودي ، مما جعل "الآخر" يشك و يتوجس و يحسب ألف حساب ، الشيئ الذي كانت له عواقب غير مرضية في تعامل هذا الآخر اتجاه قوة و نفوذ و حضور الزاوية . و منذ أن طلب الشيخ الحاج سيدي عبدالسلام الوزاني الذي بلغ ولاء المغاربة لمشيخته "ثلاث أرباع المغرب" منذ أن طلب الحماية من فرنسا ، احتماءا بها من غدر الغادرين و مكر الماكرين ، و السيول الجارفة المدمرة تنهال و تنهار ضد الزاوية الوزانية ، من طرف خصومها ، الذين رأوا في توسع نفوذها إلى دول عربية و إسلامية ، و تغلغلها في الجارة الجزائر و موريتانيا و غيرهما من الدول ، منافسة خطيرة ، بالإمكان أن تعصف ب”عرش” أسس هو الآخر على الشرعية “النسبية” و “الدينية” مثله مثل طبيعة ما انبنى عليه الولاء الذي تحظى به زاوية مولاي عبدالله الشريف و عقبه ، و خاصة و أن كلاهما نشآ في نفس الفترة الزمنية بعيد سقوط الدولة السعدية . لكنه في حقيقة الأمر و رغم التطمينات الفعلية التي تتجلى في سلوك آل الزاوية و نخبتها و مؤيديها ، فإن الدولة المخزنية “العميقة” ، عمدت فعليا تشتيت قوة و تماسك الزاوية الوزانية ، بواسطة احتواء و تدجين كل الأطر و الكوادر المنحدرة من النسب الوزاني ، سواء في مركز الزاوية الأم بوزان ، أو بالعاصمة العلمية فاس ، أو بطنجة معقل الشيخ زوج الإنجليزية ، أو بتطوان أو بمدن و قرى و قبائل كغمارة و غيرها ، كل الأسماء الوازنة أخضعتها آلة المخزن الاحتوائية إلى الركون في بطن الحوت “المخزني” . و بطبيعة الحال فإن المخزن ذاته ، لم يتفطن لشيئ وخيم جدا ، يتعلق بكون عمليات احتوائه و تدجينه للزاوية الوزانية ، و من ثم القضاء على إشعاعها و انتشارها و نفوذها ، إنما هو أيضا تهديد مباشر لشرعية الحكم في المغرب و تنقيص من شأنه لدى الملايين من محبي الزاوية الوزانية و الموالين لها ، على اعتبار أن شرعيتيهما واحدة مشتركة ، و على حد قول مولاي التهامي “مننا مايكون و بلا بنا مايكون” ، فإن الأمر فعلا سليم تماما كما أشار القطب رحمه الله ، لأنه بدون السماح للزاوية الوزانية بممارسة مهمتها الدعوية و الاجتماعية لصالح عامة الناس و خاصتهم بطرق خفية و ظاهرة ، لن يكون في صالح الأمة ككل و المغرب خاصة ، و لن تجنى من ورائه سوى نتائج عكسية ، فمولاي التهامي يريد التأكيد للسلطان مولاي إسماعيل العلوي ، بأن الوزانيين لا يطمحون للحكم و لا يريدون السلطة ، لكنه يشدد رحمه الله كذلك بأنه من غير حضور الزاوية و نسبها الشريف في دواليب الدولة ، حضورا وزانا ، لا تقوم للدولة بمفهومها الحقيقي قائمة ، كيف لا و هي صاحبة السند “ الطيني ” الشريف ، و صاحبة السند الديني و الاجتماعي و التربوي الصوفي و الجهادي . نسلم أنه قد تم تضخيم زاوية دون الزوايا الأخرى ، في شخص زاوية وزير الأوقاف ، و من ثم فإن ذلك الحيف و الميز ، لم يأتي بجديد مثر ، و إنما فقط أجهز على زوايا مهمة جدا ، كان لها حضور قوي في الساحة الاجتماعية و العلمية و الجهادية ، مما أفرز مظاهر سلبية ، أقلها ضمور و نكوص رموز كبيرة تنتمي للزوايا المقصية ، و انزواءهم ، كل ذلك خدم أجندة تيارات علمانية لائكية ، و يسارية تضمر للدين العداء الجزئي أو المطلق ، و تعمل جاهدة على إبادته من ساحة الفعل ، و كذلك أفرز ذلك الغقصاء الانحلال الأخلاقي و الميوعة و انتشار الرذيلة ، و انحطاط مكانة الدين في أعين الناس ، فاجتمع بذلك مراد المخزن مع مراد خصوم الدين و أعدائه . لقد تم بفعل فاعل ماكر خفي نكران جميل الوزانيين و زاويتهم لصالح الحكم ، و تم ضرب كل ما قدمته الأخيرة للعلويين من بناء لأسس الاستقرار القوي و من تهدئة للفتن و تحكيم بين القبائل المتنازعة و إقناع القئات المتمردة على الحكم بالعودة إلى الجماعة ، لتتصدر واجهة العلاقة البينية شكوك و توجسات و تهم ، وجهها القائم بأمر الدولة ضد القائم بأمر الدعوة ، بالرغم من أن الأخير الزاوية استطاع إقناع العالم بأنه لا رغبة له في الحكم ولا في السلطة ، ليس خوفا بل زهدا فيها ، و إيثارا لما هو أعظم منها ، لأن أمور الدعوة أجل شأنا في نظره من سواها ، إلا أن الحاكم و في أغلب مراحل الاحتكاك ، و كما هي عادة المحبين للسلطة و الحكم آثروا عدم تصديق مشايخ الزاوية و علمائها فيما يبذلونه من جهد جهيد خدمة لدين الأمة . إذن قد يعذر المؤرخون الحاكم في نواياه و توجساته ، لأنها في الغالب تكون نابعة من ألسن الحقودين و المناوئين للنسب الوزاني الشريف و لزاويتهم ، الذين يرفعون تقارير تسيئ للزاوية ، خاصة إذا ما استحضرنا أمثلة كثيرة برهنت بأن نظر العلويين الشخصي اتجاه أبناء عمومتهم مخالف تماما لنظر الحقودين و الأفاكين ، الذين يغيضهم توسع الزاوية و نفوذها الروحي و نجاحاتها المبهرة على أصعدة كثيرة من حياة الناس ، و من أولائك "بطانة سوء" و متصهينين و منتمين لزوايا يسكنها الغل و الحسد عما سواهما من صفات النبل و حب الخير للآخرين ، لقد لخص شيخ الزاوية الوزانية الحالي مولاي أحمد حيدرة الوزاني ، هذه الحقيقة أمام نخبة من الأشراف الوزانيين مؤخرا بمقر زاويته ، في جملة قصيرة بالقول : "الزاوية الوزانية مستهدفة ... ليست مستهدفة من طرف القصر بل من طرف الحقودين و المغرضين .. " و قال أيضا : إن الملك يحب الزاوية الوزانية و يهابها ... " . فلا المخزن ، يستفيد حاليا من إقصاء الزاوية الوزانية ، و لا أطرها و كوادرها ، تمكنوا من تفجير طاقاتهم وهو قابعون في “بطن الحوت” ، و إنما فقط تم النفخ في نزعات و نزوعات “الأنا” و التفرقة و حب الرئاسة بين أبناء نسب واحد ، إلى حد أنك تجد من يدعي الزعامة الروحية أو العلمية أو سواهما هنا و هناك ، و نجد من يتغنى افتخارا بالنطق باسم الوزانيين و لو دون أهلية و لا مشورة منهم ، طبعا بتزكية ظاهرة أو خفية من “الفاعل” الحقيقي في الدولة المخربية ، الذي كما أسلفنا تزعجه الحالة الصحية للزاوية الوزانية ، و سيرها العادي الطبيعي ، لأنها تعرف حجمها و قوتها و نفوذها ، منذ زمن ، منذ ما قبل أن يتزوج الشيخ الحاج عبدالسلام إميلي إكن الإنجليزية راسما بزواجه معالم تحالف “زاوياتي” أوروبي ، و منذ أن حظي هو نفسه بحماية رسمية من طرف الدولة الفرنسية له و لعائلته و لمحبي الزاوية و مريديها أينما حلوا و ارتحلوا و وجدوا ، في صورة تجلت فيها حقيقة الزاوية الوزانية و مكانتها العظيمة التي تحضى بها في أعين القوى العالمية ، و للمسألة تفسيرا آخر مفاده أن الوزانيين لا يعدمون وسائل التدافع كلما اقتضى الأمر ذلك ، دفاعا عن الذات و تحصينا لها من غدر الزمان و افتراس الإنسان ، و من ثم تأكد المخزن ، أن زاوية هذا شأنها لا يستطيع المخزن التعايش معها و هي في أوج قوتها و في أبهى عطائها ، خاصة و أن سيدي الحاج عبد السلام كان له إدارة و جيشا منظما ، أي بناء على ذلك تم التخطيط لضرب كيان الزاوية بكل الوسائل و الطرق ، أقلها الاستحواذ على ممتلكاتها القانونية بطرق لا شرعية و لا قانوينة ، كسرا لأجنحتها و إضعافا لها و تقزيما ، حتى تبقى تابعة لا متبوعة ، متحكم فيها لا حاكمة ، لكن الحقيقة المنطقية أنه بضعف الزاوية ضعفت الدولة و اختلت موازينها .