مع بداية ارتفاع درجات الحرارة المؤذنة بفصل صيف حار ، و ارتفاع درجات حرارة الفسق و الفجور و العهر ، في وطني المذبوح من قفاه ، بما جنته عليه الأيادي الآثمة ، التي اندست في شرايينه منذ أمد بعيد ، بفعل إكس ليبان و بفعل المد الصهيوني الذي لا يتوقف عن البحث عن موطئ قدم ، ليدس السموم و يفرق و يشتت و يقسم و يقزم ، من أجل الظفر برقاب حكام كل قطر سقط فريسة بين يديه ، و من ثم التحكم في قطيع الشعوب الخانعة التي ليس بيدها حل و لا عقد ، مع ارتفاع درجات الحرارة فيما ذكر ، ترتفع في مجتمعاتنا درجات السؤال عن مرجعيتنا نحن المستهدفون بالمد الكاسح للمادية الكافرة بالقيم ، الضاربة للأصول و المميعة لكل شيئ أصيل . إن لكل شيئ نشأة و تطورا و فتورا ، و كل مرحلة من هذه المراحل تتميز عن الأخرى بمميزات و خصائص تتراوح بين القوة و الضعف و الانتشار و الانحسار ، إلا أنها جميعها تنبني بالأساس على المرحلة الأولى ، أي على مرحلة النشأة التي هي بمثابة القاعدة و البنية التحتية لكل بناء يرجى أن يكون هادفا و استراتيجيا ، هذه المرحلة تعد مصيرية و نتائجها المستقبلية تعود إلى طبيعة جذورها . و لكي تكون النشأة سليمة و طبيعية ، لابد لها أن تكون ذات مرجعية أصيلة و جات رجال أوتاد ، و المرجعية إلم تكن منسجمة انسجاما طبيعيا مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، فهي دخيلة فيها دخن ، ثمرها ملوث و أغصانها معوجة ، لا تلبث أن تنهار أمام رياح هادئة فما بالك بالهوجاء ، تراها يابسة مصفرة كالتبن سهل أن تذروه العواصف من كل جانب . إذن فأصالة المرجعية هي الشجرة التي أصلها ثابت و زرعها نابت تؤتي أكلها كل حين ، أي كلما توفرت الرغبة لدى العطشى و الجوعى و الحيارى ، إلا و أمدتهم بما يشفي غليلهم و يقضي حاجاتهم من “فوكه” مادية و معنوية لذة للآكلين و الشاربين ، تقوي الضعيف و تشفي العليل . ما أظن أنني أغرد خارج السرب ، أو أكلم من لا حياة له ، لأنني أومن بأن الأمة و المغرب من ضمنها “منبت الأحرار” و “رافض الاستكبار” و “منصف الأخيار” ، و من هنا فأنا أعتقد أن سلامة المرجعية و أصالتها لا يبحث عنها إلا أولو الأباب ، لأنهم كالنحلة التي لا تنزل إلا على الطيب من النباتات ، و بالتالي تصبح صانعة للعمل و عامية له . فكيف إذن يتم اكتشاف هذه المرجعية و التنقيب عنها في زمن علا فيه صوت العبث و اللآجدوى ، و ضمر فيه صوت النور و الحق ؟ بين الأمة و مرجعيتها جدار سميك اختلطت فيه عوامل فتنوية بفعل الضربات الداخلية و الخارجية ، التي كادت أن تودي بحياتها لولا لطف الله تعالى ، الذي أودع فيها عوامل محصنة و أسرار تحفظها على مر الدهور ، مهما اختلفت العصور و لو أقبرت تلك الأسرار ملايين السنين بالحديد و النار تحت سيادة حضارات دنيوية لائكية بتراء . و من دهاء الأعداء و مكرهم أنهم ركزوا بنادقهم صوب قلب الأمة النابض لما قصدوا حماة مرجعيتها ، فقتلوا جلهم و أسروا بعضهم و دجنوا أكثرهم ، إنهم العلماء و النخبة المثقفة ، حماة المرجعية و المدافعين عنها ، لولاهم لما أضاءت ليالينا و لما أشرقت شمسنا ، رجل منهم ذو همة يحيي امة ، و بزرعهم الحياة في شرايين الأمة كلما أصابها الوهن و الانحطاط و التراجع ، تصحو الأجيال و تستيقظ و تعود إلى ساحة المعركة . و مصدر قوتهم انهم يقاومون بلا فتور كل العوامل المؤدية إلى الاستقالة و الانسحاب من ساحة التدافع البشري حول قيادة الإنسانية ، بل و يعملون على انتشالها من براثن الجهل و الفتن و التخلف مهما كلفهم ذلك من ثمن . لهذا أقول : إن الاقتصار على الانتصار العاطفي لماضي الأمة دون القدرة على صناعة الرجال ، و إنتاج الأفكار و صياغة الرؤى و البرامج ، و استشراف المستقبل من خلاله الماضي سيساهم بلا شك في “تمدد” الآخر الذي لا يرحم ، و “جتياحه” لما تبقى من حصوننا المنيعة . و أقول أيضا إن العمل لصالح قيم الأمة الأصيلة دون التمكن من إبراز خصائصها النبيلة و طابعها الإنساني المميز بحكمة و لطف ، لا يرجى منه العمل غير الإحباط و اليأس و النفور ، و تشويه صورة الحامل و المحمول معا ، مما يترتب عنه غياب مطلق عن حاضر الناس و العجز عن التفاعل مع قضاياهم اليومية . أما إذا التفتنا إلى إخواننا في الدين و الوطن ما دمنا “كلنا مسلمون” ، و خاصة منهم الذين يتنكرون لشخصية الأمة التاريخية الاعتبارية و لشهودها الحضاري ، فنجدهم و يا للأسف يدعون صراحة إلى إجهاض كل أمل في النهوض الذاتي ، و يشككون في كل ما تتمتع به الأمة من عوامل القوة المادية و المعنوية ، داعين بذل إلى الارتماء نخبة و عامة في أحضان الآخر ، دون الاطمئنان حتى إلى أدنى دليل يومئ برضى هذا الآخر عنهم ، إذ غالبا ما ينظر إليهم من طرف أسيادهم نظرة احتقار و دونية مهما تنكروا لهويتهم الأصيلة و طمسوها ، فيكون مآلهم دوران و تيهان إلى ما لا نهاية مرددين بلا تعقل : “هذا ربي هذا أكبر” ، و الأمثلة من هذا الصنف من المستلبين المضادين لقيم الأمة لا تحضى من طنجة إلى جاكارطا . فمن حقي أن أقول بأن الاستفادة من الجيل القدوة و النظر إلى الوراء ، يا فضلاء لا يعني النكوص أو التراجع ، بمقدار ما يعني المراجعة الجذرية للواقع و قراءة مستجداته ، في ضوء الرؤية الشاملة لمسيرة المجتمع القدوة الذي قاد العالم بأكمله عجميه و عربيه . فلنعمل جميعا لنصل إلى مرحلة اكتمال شروط نهضة حقيقية ، و الإدراك الكامل لأبعاد حركة النهوض الجديدة ، التي لابد لنا فيها من استصحاب المراحل التي قطعها جيل القدوة ، و امتلاك القدرة على الوعي بالمنهج القويم في التغيير و البناء الحضاري ، و توليد الرؤى و الأحكام و الحلول المناسبة للحالات الطارئة . ألا يكفي ما نراه من عهر كاسح لمسامعنا و مشاهدنا و ساحاتنا ، و ما نراه من ماء الوجه الذي يهرق صباح مساء من كرامتنا ، و الدماء الزكية التي تسيل في شوارع إخواننا ، أن يوقظ فينا روحا جديدة تواقة إلى تغيير حكيم راشد ، سعيا لجمع الشمل و توحيد الرؤى و حشد الدعم و تصويب البوصلة ، لنطمئن لمستبقل خال من كل ما حدث و يحدث لجيراننا في العالمين العربي و الإسلامي ، ألا يكفي كل ما نراه أن يحرك ضمير حكامنا ليتنازلوا تنازلات مؤلمة “لنزوعاتهم” التسلطية ، لصالح كل الأمة ، حتى لا يحرق الأخضر و اليابس ، بفعل تعنتهم في التشبث بمقولة : “أنا و من بعدي الطوفان” .؟؟؟