الملكية ليست دينا سماويا ، ولا هي دين وضعي . هي مجرد عرف بشري في أساليب الحكم . وإن المجتمعات التي أقرت هذا العرف ، تستطيع أن تتخلى عنه وأن تستبدله بأعراف جديدة أكثر إنسانية . فمن يملك أن يعطي ، يملك أن يمنع . من أوجد الأفكار حول الملكية وحول الموقف منها ، لن يستحيل عليه أن يُعَدل تلك الأفكار ، أو يتخلى عنها . طبعا هذا الكلام ما كان له أن يقال ، ولا أن يُكتب ، ولا حتى أن يُهمس به قبل سنوات معدودة ، ليس بالضرورة بسبب أن القمع الذي كان موجودا من قبل قد تراجع اليوم ، بل لأن الملكية ، كَفِكر ، وكثقافة ، وكمبدإ ، ونهج سياسي ، ما فتئت يوما بعد يوم تفتقد الكثير من مهابتها . لا شيء تغير في الكون ، بقدرما تغيرت الملكية نفسها ، لأنها لم تَعُد تساير قِيم المجتمع . قديما كانت الملكية نموذجا للتمَيز والتألق في مجتمعاتها ، في جميع جوانب الفكر والثقافة والسياسة والأخلاق ... وفي كل شيء ، أما اليوم فإن معظم الملكيات ، سيما التنفيذية منها ، وباستثناء تفوقها في تدبير مصالحها التجارية المهيمنة المستحوذة ، ونبوغها في الإبداعات الأمنية المهووسة ، إنما هي أمثلة للتردي في كل شيء . وبالفعل ، هذا التراجع ، هو ما حدث ويحدث بالذات . فرقعة الملكيات في العالم تتراجع وتتقلص باستمرار . لم يبق منها إلا نماذج قليلة تحولت فيها الملكيات إلى تراث ثقافي وسياسي تاريخي رمزي ، بحيث استرجع الشعب معه كل صلاحيات الحكم . أما ما عدا هذا من حالات الملكيات التنفيذية المطلقة ، التي تسود وتحكم ، بل وتعض على ذلك بالنواجد ، كما هو الحال بالنسبة لملكيات بعض بلدان المسلمين ، المؤسسة على بدعة معاوية ، فإن ما يميزها ، هي أنها جميعها قائمة في مجتمعات رجعية بدائية ، لا من جهة الشعوب فيها ، بل من حيث درجة الوعي السياسي والأخلاقي لدى النخب الحاكمة لها . ففي الوقت الذي نجد فيه ما تبقى من ملكيات رمزية في العالم الغربي ، تزهد وتتعفف عن إقحام نفسها في تفاصيل الشؤون السياسية لشعوبها ، تاركة كل ذلك للمؤسسات المنتخبة ، وتترفع عن تمويل ترفها بميزانية الشعب ، يُلاحظ أن ملكيات الدول المتخلفة ، ملكيات جشعة ناهبة مستحوذة ، لا تقنع إلا بأن تتفاخر بقولها " الدولة أنا " ، ولعلها تحلم بالمزيد . وفيما يتواضع ساسة الغرب وحُكامه لشعوبهم ، ويعيشون كما تعيش ، وقد يتقشفون كما تتقشف ، ويُساءَلون كما تُساءَل ، ويُحاسَبون كما تُحاسَب ، نرى حكام الملكيات المتخلفة ، لا يكتفون بالاستحواذ على ما ليس من حقهم من شؤون التدبير السياسي المباشر ، باعتبار أن المصداقية والمشروعية التاريخية التي يتذرعون بها ، قد تجاوزتها وألغتها مصداقية ومشروعية صناديق الاقتراع التي لا نصيب لهم فيها ، وأن الشرعية الدينية اللاهوتية التي يتشبت بها جلهم ، قد أتلفها إبتعادهم عن الدين نفسه ، وهجرهم له ، عدا ما أبقوا عليه من بروتوكولات الاستعلاء والاستعباد ، ولو على الأقل من حيث تبذيرهم المقيت في المظاهر الكمالية ، وعدم اكتراثهم بالفرق الشاسع المهول بين ثرائهم الفاحش ، والفقر المذقع المهين ، الذي تعيشه فئات من شعوبهم ، بل هم يترفعون عن شعوبهم ، التي لولاها ما كان لهم حِس يذكر ، ويستنكفون عن التواصل الفعلي الجدي المباشر معها ، إلا ما كان منهم صوريا واضطراريا ، وعبر حُجب من ورائها حجب ، وطقوس بعدها طقوس ، ومن خلال وسطاء قارين دائمين سرمديين ، لا منتخَبين ولا منتجَبين ، ربما تكون لبعضهم في بعض البلدان ، هالة لا تقل عن هالة الملكية ذاتها . ملكية من هذا النوع ، إنما هي ملكية ميكيافيلية تجارية ميركانتيلية . وهي السبب الفعلي الأهم في تخلف شعبها ، والعائق الأكبر الذي يحول دون تقدمه . هي امتداد لاستبداد فرعون ونمرود والحجاج واليزيد وبينوشي وهتلر وفرانكو وموسيليني وغيرهم من الطغاة . هي بهذا الوصف ، مهما اعتقدت ، أو اعتقد في حقها بخلاف ذلك . طبعا لا توجد ملكية في الدنيا تعترف أنها ملكية مطلقة أو رجعية . كل ملكيات العالم ديمقراطية وحداثية في عيون أصحابها وأنصارها ، بل هي في نظرهم ، واحات للديمقراطية والحداثة في الكون كله ، وفي ربوع قفاره و صحاريه . الملكية فيها إثم كبير ومنافع لبعض الناس . نفعها يكون حين تصادف طينة آدمية طيبة متشبعة بالقيم الإنسانية . وهذا نادرا ما تحقق في التاريخ . ربما يكون ذلك مصداقا لقوله تعالى " إن الإنسان خُلق هلوعا .." سورة المعارج - الآية 19 . اما إثمها وشرها ، فيكاد يتجسد في جميع التجارب الملكية التي عرفتها المجتمعات البشرية . ويبدو أنه لأجل ذلك تواترت في الذاكرة الجماعية لجميع الأمم ، آثارٌ تُنَفّر من الملكية . وفي هذا السياق نُقل في الآداب الصوفية أن " طعام الملوك يُميت القلب أربعين ليلة " وأضاف بعضعهم مؤكدا وموضحا : " ..هذا إن كان من حلال " طبعا أنا لا أستبعد إطلاقا أن يخالفني البعض في هذا الموقف الثقافي الشخصي الذي أعبر من خلاله ، بالرأي وبالكلمة ، عن عقيدتي في هذا النظام السياسي البشري الوضعي الذي يسمونه " الملكية " ، والذي يبدو أن البعض يتوهم أنه معصوم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه . على أني لا أقصد حالة بعينها ، وإن توفرت للبعض عناصر التخمين بذلك ، إنما أقصد الفكرة والمبدأ بشكل عام . الاختلاف في مثل هذه الأمور وغيرها أمر بديهي ، بل ومرغوب فيه لتفعيل النقاش ، ولو باحتشام ، بشأن هذا النوع من المواضيع ، ولاختبار مدى قدرة البعض على احتمال حرية التعبير . لكن جبذا لو يكون الرد بالمنطق المعقول ، والحوار المقبول ، لا عبر بلاغات وصور وأفلام إشهارية تمويهية رسمية ، هي أساساً من صنع الملكية نفسها . الملكية ليست وحيا من الله ، بل إن الوحي القرآني نزل يذمها ويقول : " إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة ، وكذلك يفعلون . " سورة النمل - الآية 35 . ولقد صدق رسول الله ، نبي الإسلام ، صلى الله عليه وآله وسلم ، حيث ورد عنه أنه قال : " من رضِيَ بالذل طوعا فليس مِنّا أهلَ البيت " . وكأني بمسكين مستضعَف أشعت أغبر ، من ضحايا ملكية من الملكيات يستغيث : " نحن منك يا رسول الله ، فإنما قبِلنا بالذل كرها . " * وزان : 2017/6/30 – محمد بن الشاهد شاهدي مفكر و محام .