عندما كان ملك ملوك إفريقيا حيا, كان يرزقنا في كل خطبه فرجة سياسية, وكنا نتسابق على التعليق عليها, وكان يختار في كل خطبة مواضيع عن الامبريالية, وعن الصهيونية, وعن دول الجوار, وعن أحداث عربية ودولية عموما, وعن ليبيا واشتراكيتها العظمى, وفي بعض الأحيان يتجرأ على العلوم الحقة وعلى الأدب والفنون, ليفتي فيها وينظر في مجالاتها, وكانت تضحكنا فتاواه, وتنظيراته الغريبة, بل حتى تحويره لبعض أسماء المبدعين العالميين, كشكسبير الذي حول اسمه إلى اسم عربي (الشيخ الزبير) والله أعلم من أي صنف من الشيوخ كان هذا الشاعر المبدع الإنساني؟ ولا جدل بأن جنون العظمة التي كان يستبد به هو دافعه إلى اختراع الاشتراكية الثالثة, وإلى كتابة كتابه الأخضر, وإلى بحثه عن الألقاب والصفات التي تقرب الإنسان من المطلق كما هو حال كل الديكتاتوريات, خصوصا المنطلقة من الثورات والانقلابات العسكرية, كالتي حملت فرانكو وبينوشي و بوكاسا وشاوسيسكو, فكل هؤلاء سقطوا في جنون السلطة, التي أدت بهم إلى الجنون النفسي المتعلق بالعظمة, ومن تم أصبحوا يبيحون لأنفسهم قول أي شيء , وارتكاب أي حماقة تخطر لهم على بال, أو يشير بها عليهم بعض المستشارين الحمقى, ومن هنا, وفي كل زلة ارتكبوها, ولا يقدر أحد على ثنيهم عليها,تصبح خطبهم مضحكة, وأفعالهم غريبة, تجعل من الحقل السياسي في شقه السلطوي ,حقلا تافها وبعيدا عن كل منطق, وفعلا مرضيا يطمس كل معالم الفكر السياسي المعقلن, والمفيد للتطور والنماء. قد يعتقد البعض أن كلام السياسيين لا يؤثر في أحد وأن خرجاتهم غير المعقلنة تمر دون أثر على الشعب والدولة , فلو كان الوضع كذلك لما عانت جل الدول التي مر على عرشها حاكم مجنون, من تبعات أفعاله وأقواله و ترسب ذلك في قواعده الشعبية, بل هناك من يصبحون مؤمنين ومدافعين عن هذه الحماقات , ما يخلق سكيزوفرينيا شعبية, وينذر باشتعال الاحتدام بين كل مكونات الشعب, فالمسألة جد صعبة, والحاكم العاقل والحكيم يستطيع أن يقود بلده إلى كل ما هو نافع ,ولو لم تكن تتوفر لديه ثروة كبيرة , فممارسة الحكم ليست بالسهلة, لأنها تقتضي التفاعل مع كل مكونات الشعب, والتعامل مع الشرائح بكل الحكمة المأمولة , ولا يحق لممارس للحكم أن يترك نفسه للأهواء, وإذا ما أحس بجنون السلطة يقترب منه عليه التنحي حتى لا يصيب شعبه بالجهالة, ويصبح من المنتمين لمهزلة التاريخ.