نعني بالتعميم هنا، تعميم التفسير الجزئي؛ وهذا يجعل الوجه المحوري في التفسير، محورا وجوديا، وإن لم يُعرب المفسر عن ذلك صراحة. ومن هنا نجد من يُفني عمره في مجال من المجالات، يراه محورا أساسا، تدور كل المجالات الأخرى حوله. فمِن مهتم بالأدب والفن (القراءة الوجدانية)، إلى من يهتم بالفكر (الفلسفة والأيديولوجيا)، إلى من يرى الحكم والسلطة (السياسة) أعلى من سواهما، إلى من يعتبر المال محرك الوجود بحسب إدراكه، ثم إلى من يجد في المنافسات الرياضية المختلفة بغيته دون الباقي. وإذا غلب مجال من المجالات على عين القلب، فإنه يصل معه إلى الحد الذي لا يرى الوجود إلا من خلاله. وهذا لا شك هو التعميم المخل، الذي سيحجب الناظر عن كثير من الآيات. وإذا أردنا أن نعود إلى أهل الدين، فإننا سنجدهم لا يختلفون عمن ذكرنا، وسيخرجون بالدين عن شموليته، إلى تغليب وجه من وجوهه في الاعتبار. فنجد الصوفية يُغلّبون الوُجدان، والمتكلمين وفقهاء الأحكام يغلبون الفكر، والسياسيين يغلبون منطق المغالبة على الحكم، والجهاديين يغلبون العمل العسكري، وهكذا... ونحن عندما نقول "يغلبون"، فإننا نريد أن نشير إلى أن الاعتدال في التدين، يكون بالجمع بين جميع وجوهه على بصيرة وعلم، لا على ترجيح هوى فردي أو جماعي. وكلما طغت الصورة المعرفية الجزئية، على الصورة الكلية وغطت على وجوهها الأخرى، يكون الناتج تحريفا يُعطي صاحبه معرفة غير صحيحة. وهذا هو الغالب على الناس، وإن علت درجاتهم العلمية التخصصية، وهم لا يشعرون. ومما يزيد من انحراف إدراك المرء للوجود، وجود أناس يشاركونه ما يراه ويذهب إليه. ومن هنا تنشأ الفِرق والجماعات والأحزاب الدينية وغير الدينية. والاجتماع على تصوّر مشترك، يوهم أفراد المجموعة بأنهم على الحق دون سواهم، أو على الأقل أكثر منهم. وقد يرون فيما يأتونه من أعمال، طريقا إلى الحق، يُناسبهم هم، إن أنصفوا وأقروا بعدم مناسبته لغيرهم. وإن هذه المجموعات المختلفة، إن بقيت غير منتظمة تحت حكم يوجهها إلى ما يوحّد وجهتها ولو نسبيا، فإن المجتمع الذي تكون فيه، سيبقى مفككا ضعيفا، وإن ظُنّ به غير ذلك. وهذا الحكم (السلطة)، يمكن أن يعتبر الدنيا وحدها، كما هو شأن المجتمعات الكافرة، كما يمكن أن يعتبر الآخرة. وهذا بحسب الغالب على الناس، وبحسب الزمان الذي يعيشون. فزمن النبوة والخلافة، قطعا يختلف عن زمن الملك بأنواعه. ثم إن الحكم وحده، قد لا يكون مؤهلا للقيام بما ذكرنا دائما. وهنا تأتي الإمامة في الدين، التي توجه الحكام والمجتمع جميعا إلى ما يكون فيه الصلاح العام. وهذه الإمامة، ليست العلم بالمعنى العُرفي فحسب؛ لأنها تشترط أن يكون الإمام على تصور كامل للوجود، علويه وسفليه، شرعيه وعقليه. وهذا لا يتم إلا إن كان الإمام وارثا للنبوة حقيقة. وهؤلاء الأئمة لا يخلو منهم زمان، بغض النظر عن استجابة الناس لهم أو عدم استجابتهم. ومن ينظر إلى القرون التي مضت من عمر الأمة، فإنه سيجد اختلافا بين الأزمنة، من حيث غلبة التفسير الكلي، أو غلبة التفاسير الجزئية. وسيرى أن المحاور التي يدور عليها المجتمع، تتبدل كل مرة، في نظام فوق إدراك العقل، ما دام هذا الأخير لا يُميّز معايير هذا التبدّل والتغيّر. وأما الناس في كل زمن، فإنهم في الغالب يأنسون إلى ما يعرفون مما سبقت لهم تجربته عن قريب. وهذا هو السبب الذي يجعل كل نظام (بمعنى الحكم وبالمعنى الفكري)، لا يكاد يُجاوز الذي قبله إلا قليلا، وفي بعض التفاصيل. وكلما كانت التصورات الجزئية هي الغالبة، كان النظام أشد تمسكا بالنمط المعروف؛ بخلاف التصور الكلي الذي يعطي إمكانات واسعة للتغيير. إن أزمة أمتنا اليوم مزدوجة؛ لأنها إلى جانب كونها تحت حكم التصورات الجزئية، كما هو حال الأمم الأخرى، فهي تجهل إمكان بلوغ العيش بحسب التصور الكلي الذي لديها، والذي ينتفي معه كل ضرر بالنظر إلى عمومها. ولولا أن طائفة من هذه الأمة، شاء الله أن يجعلها ظاهرة على الحق في كل زمان، بها تتحقق لها المكانة، لعادت هذه الأمة كما كانت قبل أن يُكرمها الله بالرسالة الخاتمة. وبعموم الرسالة الخاتمة لكل الناس في زمانها، فإن معنى "الأمة" لدينا يبقى قابلا للتوسع على قدر المقبلين على هذا الدين. فلو أسلم العالم كله، أو قبِل بعموم الإسلام لنظام عيشه، لصارت الأمم كلها أمة واحدة، هي خير أمة أخرجت للناس؛ إما حقيقة وإما بالإلحاق. وهذا يعني أن أمتنا ليست أمة عرقية قومية، كما يتوهم كثيرون من المسلمين ومن غيرهم. بل إن هذا المفهوم للأمة لا يكاد يدركه أحد، رغم كونه أليق التصورات بزمن العولمة الذي نحن فيه.